دراسات الدول الاستعمارية للقبائل العربية، ونتائجها


منذ بدأت حركة الكشوف الجغرافية والثورة الصناعية انطلاقاً من أوربا، بدأت الدول الغنية الطامعة، بإرسال بعثات تحت مسميات عديدة، إلى الدول العربية ومناطق البادية بالذات، بهدف تقيم حياتهم عن قرب، وتفحص كيفية اختراقهم وتحويلهم بطريقة أو بأخرى إلى جنود لهم، أو إقامة علاقات قوية معهم، واستخدام كل الوسائل المتاحة والممكنة – في المستقبل بالنسبة لهم – ليعرفوا كيفية السيطرة على هذه البلاد، فتمكنت هذه الدراسات من الحصول على كم هائل من المعلومات الثمينة عن حياة القبائل العربية، وقد ظهر جزء من هذه المعلومات على هيئة كتب منقحة تشمل جميع ما يتعلق بحياة القبائل العربية، فكان هؤلاء المستشرقون منتشرون في كل مكان يعملون بجد ونشاط، ومنهم من يزور الولاة والحكام والسلاطين والأمراء والزعماء والملوك والرؤساء والشيوخ ورجال الدين ويخترق الأمن ويجول هنا وهناك في المناطق العسكرية والنقاط والثغور والحدود، ويتجول بين الحارات والأسواق وينزل بيوت الحجر والوبر، ويخوض الصحاري والسهول والبحار ولم يتركوا بقعة من بقاع الوطن العربي، إلا ودرسوها بشكل تفصيلي، ووجد هؤلاء اللئام ضالتهم عند أصحاب الأنفس المريضة الذين يضعون نصب أعينهم حب المظاهر والترف والبذخ والكبرياء، فأغدقوا عليهم الأموال والهدايا الثمينة واستدرجوهم إلى كل باب يفتحونه، وبالمقابل غضبوا غضباً شديداً على أصحاب الفطنة والذكاء من أهل البوادي الذين لم يقدموا لهؤلاء المستشرقين أي من المعلومات، حتى التافهة منها، فوصفوهم في كتبهم بأرذل الصفات وأحقرها، وكانت معظم الكتب والمؤلفات التي أنتجتها البعثات الأجنبية عبارة عن تقارير استخباراتية تركز على الحقائق الجغرافية والديمغرافية والمورفولوجية، للقبائل والسكان والأودية والمسالك ومظاهر السطح والنقاط والبؤر العسكرية والفرق والجماعات المسلحة ونوعية الأسلحة وكميتها، كل ذلك تحت ذريعة البحث في التاريخ والأنساب والآثار والعادات والتقاليد وغيرها، ومن أهم الأمثلة على ذلك ما قامت به السيدة الانجليزية غيرترود بيل  والتي وصفت بأنها أكثر شخصية تلم بجميع القضايا العربية، وأنها شخصية فذة لعبت دورا بالغ الأهمية بل حاسماً وكانت تقف وراء الثورة العربية الكبرى، ولعبت دوراً في تنصيب الشريف فيصل ملكاً على العراق، ولقبت بعدة ألقاب منها ملكة العراق غير المتوجة، وملكة الصحراء، وابنة الصحراء، وكانت كاتبة وشاعرة وعالمة آثار، ورحالة، وجاسوسة، ومحللة سياسية، ودبلوماسية بريطانية استثنائية من مواليد عام 1868م تخرجت من جامعة أوكسفورد قسم التاريخ، كان أول نشاط لها في إيران وفي عام 1899 سافرت إلى فلسطين وسورية، وفي عام 1900 سافرت إلى القدس وزارت جبل الدروز متنكرة بزي رجل بدوي، ثم تنقلت بين قبيلة بني صخر وعشائر الدروز، والتقت مع العديد من شيوخ العشائر والزعماء المحليين للقبائل العربية، وفي العام 1907 سافرت إلى تركيا بحجة دراسة الآثار، ومنها إلى العراق، وعملت مع المستشرق البريطاني المقلب بلورنس العرب، ثم سافرت إلى دمشق ومنها تجولت في بادية الشام والجزيرة العربية[1]، حتى تمكنت بعد ذلك من تحقيق أهداف الاستعمار البريطاني في المنطقة والتأثير في القرارات العربية المصيرية، وبالفعل سار البريطانيون خلفها لعمق معرفتها الدقيقة بالشئون العربية، وعملت في العراق سنة 1921م المستشار الشخصي والسياسي لملك العراق فيصل بن الشريف حسين، وكانت هي التي تشرف على تعيين الوزراء في الحكومة واختيارهم، ومن أهم توصياتها التي رفعتها للحكومة البريطانية هي: " ضرورة أن يلتفت الساسة البريطانيون إلى التركيبة القبلية وأبعادها، وأخذها في عين الاعتبار لدى صياغة التحالفات والتحركات، حرصاً على مصالح بريطانيا العظمى[2]، وهذا كان قبل 16 سنة من انهيار الخلافة العثمانية، ومن الدراسات الحديثة التي اتجهت نحو المنحى الاستعماري السابق، ما دعت إليه الحكومة الأمريكية في يوليو 2008م لمناقشة أهمية القبائل والعشائر في منطقة الشرق الأوسط، وتلبية لهذه الدعوة زار واشنطن عدد كبير من الخبراء، وكان من ضمنهم غلين روبنسون الذي قدم دراسة تختص بحالة فلسطين بعنوان " القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية المرموقة"، وتم اعتبار هذه الدراسات من الدراسات الاستراتيجية[3]، ومما جاء في هذا التقرير بأن قبائل فلسطين في الضفة وغزة ذات أهمية أقل بكثير من نظائرها في شبه الجزيرة العربية، والعراق والأردن وسوريا، بالنسبة للتأثير السياسي والاقتصادي، ويرجع ذلك إلى انحصارها وتخليها عن نمط البداوة[4]، ومن هنا نفهم بأن التمسك بالحياة البدوية وأنماطها الحقيقية يشكل عقبة أمام الدول الاستعمارية، وأن التحضر والتمدن بالنسبة للاستعمار يعتبر أسهل بكثير لتحقيق أهدافه.
وكان للدول الاستعمارية أهداف جمة من وراء هذه الدراسات، نلخص أهمها:
  1.  اكتشاف و تحديد أقصر الطرق وأسرعها في الاستيلاء على خيرات البلاد العربية، وبأقل الخسائر البشرية لديهم.
  2.  تمزيق البنية العسكرية للبنات الأساسية في المجتمع العربي، وهي القبيلة، والعمل على اضعافها وتدميرها بشتى الطرق والأساليب، ورصد أموال طائلة لتحقيق ذلك.
  3.   ضرب الروابط الدينية والاجتماعية التي كانت توحد الأمة العربية، واستبدالها بثقافة جديدة تعمل على العكس.
  4.  دراسة مفصلة وعن كثب للأراضي العربية وطبيعتها الجغرافية والجيومرفولوجية برا وبحرا، بهدف الاستفادة منها في المجال العسكري.
  5. أما عن نتائج هذه الدراسات والأبحاث التي هطلت فوق أرض العرب، فهي كما يلي:
  6. تفكك النسيج الاجتماعي للقبائل العربية على مستوى الأقاليم الجغرافية، وتجزئتها بواسطة الحدود والمعابر، والتمييز بينها على أساس العنصرية والجنسية والعرقية، وبث الفتن بينها من أجل اشغالها بذلك واستبعادها عن مخططات الدول الاستعمارية الجارية في مناطقهم.
  7. ضرب العقيدة الإسلامية، المادة اللاحمة للأمة، واغراقها بالمذاهب والتيارات الدينية والفكرية المتناحرة، والمتعددة والابقاء على  لهيب الفتنة الطائفية والعرقية مشتعلاً، كلما طفئت نارها زادوها وقوداً.
  8. غرس ثقافة الشك والظن والسب والشتم والتخوين بين المجتمعات، واختلاق العيوب وعدم الصلاحية للعادات العربية القديمة والأصيلة، وإطلاق العنان لما يسمى بحرية المرأة في السياسة والتبرج والسفور والاجتماع بالرجال والخروج من البيت وقتما أرادت.
  9.  تدمير الأسس والقواعد الاقتصادية للأمة العربية، من خلال الغزو المسمى بالحضارة الراقية والرفاه والبذخ والترف واللهو والألعاب على أنها أوليات هامة للإنسان، حتى أصبح العرب من أكثر الأجناس البشرية حباً وادماناً على مباريات كرة القدم على سبيل المثال، وحب القصور الفخمة والادمان على الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس، وبذلك انتهى وإلى الأبد الزهد والتواضع والصبر.

المراجع***
[1] ( أوراق منسية من تاريخ الجزيرة العربية، تقارير الاستخبارات البريطانية 1916- 1917م، ص7)
[2] ( أوراق منسية من تاريخ الجزيرة العربية، المرجع السابق، ص16)
[3] ( القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية المرموقة، سلسلة ترجمات الزيتونة "30"، تشرين ثاني/ نوفمبر 2008م، مركز الزيتونة للدراسات والاستفسارات)
[4] ( القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية المرموقة، المرجع السابق، ص2)

⇦إقرأ هذا المثال ـ المستشرقون وراء كل مصيبة 
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم