الفلسطينيون ليسوا كنعانيين والعرب ليسوا ساميين
تلازم استخدام المصطلح مع ظهور نظرية "الشعوب الساميّة"، وكان هذا مصطلحاً جديداً، استخدم لتصنيف الشعوب القديمة في المنطقة، ثم سرعان ما دخل المصطلحان بقوة في مناهج التعليم المدرسي، وشاعت منذئذٍ المزاعم القائلة إن الفلسطينيين هم كنعانيون، وإن العرب واليهود أبناء عمومة وإنهم جميعاً "ساميّون".
لقد احتج كثيرون على استخدام مصطلح "سامي- سامية، ساميون" لأنه يطمس هوية شعوب المنطقة، بل يعطيها هوية جديدة من خلال خلط الأعراق والأجناس. واقترح المؤرخ العراقي الراحل جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب" مصطلحاً بديلاً هو "الشعوب الجزرية (نسبة للجزيرة العربية).
لكن ماذا يعني "كنعاني، كنعانيون، حضارة كنعانية"؟ وهل هناك أي أثر مادي- لغوي، أركيولوجي، يصنّف هذه الجماعة أو تلك على أساس أنها كنعانية أو "سامية"؟ هل ثمة سند تاريخي أو ديني أو وثيقة تؤكد أن الفلسطينيين كنعانيون؟
في الواقع، لا توجد قط أي وثيقة تاريخية أو نقش أو سجل أو مصدر تاريخي مكتوب، يشير أو يُلمح بأي صورة من الصور لوجود علاقة من أي نوع بين الفلسطينيين والكنعانيين. |
في الواقع، لا توجد قط أي وثيقة تاريخية أو نقش أو سجل أو مصدر تاريخي مكتوب، يشير أو يُلمح بأي صورة من الصور لوجود علاقة من أي نوع بين الفلسطينيين والكنعانيين. هناك شعبان تاريخيان لا صلة بينهما، أحدهما عاش في اليمن، وتعرفه النقوش والسجلات وعلماء الآثار، هو "اتحاد شعب سمُعي- سمع إيل" الذي عاش في مملكة الجوف اليمني، ثم أسس مملكة سبأ عام 750 قبل الميلاد، وكان يستخدم لغة دينية خاصة به عرفت باسم "شفة كنعان- لسان كنعان".
والتوراة تؤكد في نصوص لا شبهة فيها أنه كان من بين خمسة شعوب (جماعات أخرى) تستخدم اللغة نفسها، التي تكتب بالحرف المربع العبري، السبأي. أي أن العبرية القديمة هي لهجة بين لهجات كثيرة استخدمتها القبائل في تدوين نصوصها الدينية.
أما الشعب (الجماعة الأخرى) فهو الذي يعرف باسم الفلسطينيين سكان جنوب بلاد الشام. وهذا الشعب لا يعرف في كل تاريخه "لهجة كنعانية"، كما لا يُعرف عنه أنه استخدم "الحرف المربع: العبري-السبأي". لقد عجز علماء الآثار من التيار التوراتي عن تقديم أي دليل لغوي أركيولوجي في فلسطين يؤكد أنها أرض كنعان، وأن لغة شعبها لغة كنعانية.
سوف نقوم -هنا- بتفكيك هذه الأكذوبة حلقة إثر حلقة:
أولاً: إنه لأمر مدهش أن نعلم أن الاسم الرسمي للغة العبرية القديمة في إسرائيل هو "العبرية السبئية" أو "العبرية الصنعانية- من صنعاء". إن علماء الآثار وكتاب التاريخ القديم في إسرائيل يعرفون هذه الحقيقة ولكنهم يتلاعبون بها.
ثانياً: ظهر مصطلح "كنعاني- كنعانيون" في الدراسات التاريخية، مع هيمنة التيار التوراتي في علم الآثار، وصعود الموجة الاستعمارية (الكولنيالية) في العالم. في العام 1781م أطلق العالم النمساوي شلوستر في كتابه "فهرس الأدب التوراتي والشرقي" مصطلح "الشعوب السامية" على سكان الشرق الأوسط القديم، ثم جرى للمرة الأولى في عام 1860م استخدام هذا المصطلح من قبل المفكر النمساوي اليهودي موتز شخيندل الذي روّج له في سياق تكريس وصف شعوب الجزيرة العربية واليمن.
وفي هذا السياق أيضا جرى إطلاق مصطلح "كنعانيين" على الفلسطينيين. لكن المصطلح ظل خارج التداول الأكاديمي حتى عام 1873، حين استخدمه صحفي ألماني قومي متعصبّ يدعى وليم مار في كتيب صغير عديم القيمة العلمية، يحمل عنوان "انتصار اليهودية على الألمانية"، وذلك في سياق احتجاجه على ما أسماه تنامي قوّة اليهود في ألمانيا. كل هذا يعني أن هذا مصطلح كنعان- كنعاني هو "تلفيق" استشراقي لا علاقة له بالعلم، مثله مثل مصطلح "السامية".
وكما حدث مع السكان الأصليين في أميركا، حدث الأمر ذاته مع الفلسطينيين، ابتداء من مطالع القرن قبل الماضي، وذلك مع اندفاع موجة استيطانية أخرى، حملت هذه المرة يهود أوروبا إلى فلسطين |
ثالثا: في هذا الوقت كان المستوطنون الأوروبيون الذين وصلوا قارة أميركا، يواصلون تنفيذ أكبر مذبحة بحق السكان الأصليين. وللتغطية على جريمة قتل نحو 80 مليون إنسان، والاستيلاء على أراضيهم وقراهم ومزارعهم، قام علماء الأنثروبولوجيا بصياغة نظرية مخادعة، تقول إن السكان الأصليين في أميركا هم "هنود حمر" أي أنه عرق غريب، دخل أرض حضارة المايا والأزتك. وكانت عمليات القتل والاستيلاء على الأرض تترافق مع عمليات تزوير التاريخ. وفي هذا النطاق جرى استبدال التاريخ الحقيقي لشعوب القارة الأميركية (حضارة المايا والأزتك) ووضعِ تاريخ مزور، يقول إن هؤلاء بدائيون و"هنود حمر".
وكان أمراً مثيراً أن المستوطنين الأوروبيين استخدموا نصوصا من التوراة في وصف أنفسهم، مثل: "نحن العبرانيون الجدد" وهذه "أرض الميعاد"، وهي "أرض كنعان".
وكما حدث مع السكان الأصليين في أميركا، حدث الأمر ذاته مع الفلسطينيين، ابتداء من مطالع القرن قبل الماضي، وذلك مع اندفاع موجة استيطانية أخرى، حملت هذه المرة يهود أوروبا إلى فلسطين.
وفي هذا الوقت أيضاً، تمّ وبشكل ممُنهج فرض مصطلح "كنعاني/ كنعانيون" في وصف السكان الأصليين (الفلسطينيين) وكأنهم أيضاً "هنود حمر" لا علاقة لهم بحضارات المنطقة، لقد جاؤوا متسللين من جزيرة كريت اليونانية. وكما أن الهندي الأحمر لم يعد يشعر بالعار من هذا المصطلح "الاحتقاري" وتعايش معه وربما تقبّله، فقد حدث الأمر ذاته مع الفلسطينيين الذين تقبّلوا أو تعايشوا مع "اللقب" الذي فرضه عليهم العدو.
رابعاً: لا يوجد في النص التوراتي أي إشارة أو جملة أو عبارة، تقول "إن الفلسطينيين كنعانيون". وكيف يمكن تخيّل هذه العلاقة، واسم فلسطين لا وجود له في التوراة أصلاً. كما أن علماء الآثار لم يعثروا في طول فلسطين وعرضها على أي دليل أركيولوجي أو لغوي، يدعم هذا الزعم. ومع ذلك، استمر التيار التوراتي في علم الآثار في إطلاق مصطلح "كنعاني" على أي أثر يحصلون عليه، وبذلك نشأ علم آثار مزيف يتلاعب فيه العلماء بعقول الملايين من البشر.
خامساً: استند أصحاب هذا المصطلح على نص توراتي وحيد، وردت فيه جملة "لسان- لغة" كنعان. يقول ما يلي: سفر إشعيا 19: 18
فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَيم خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بلسان كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ النجوم، يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ».
إذا ما تقبّلنا لأغراض السجال، تفسيرات وتأويلات التيار التوراتي بأن "مصريم" هنا هي مصر البلد العربي، ففي هذه الحالة يجب أن تصبح مصر نفسها "كنعانية". لكن الحفريات في مصر تكذب هذا الزعم، إذ لا وجود لأي أثر لغوي أو أركيولوجي، فمصر لا تعرف "اللغة الكنعانية" في تاريخها، كما لا وجود "لعرق" عاش فيها ويدعى "كنعاني".
في الواقع، ثار جدل طويل بين علماء الآثار الذين نقبّوا في اليمن، عندما عثروا على نقوش مسندية ورد فيها اسم مصر في صورة "مصرن". وكان عالم الآثار البريطاني فيلبي أول من قرأ في العام 1953 نقشاً بخط المسند اليمني ورد فيه اسم مملكة قديمة ظهرت نحو 950 قبل الميلاد تدعى "معين-مصرن".
لقد تعرّف علماء الآثار بشكل جيد على ما يدعى "اللغة الكنعانية" من النصوص التي اكتشفت في اليمن وليس في فلسطين. وحسب هذه النقوش المسندية، فقد كان المعينيون يكتبون نصوصهم الدينية بلغة سوف تعرف باسم "الكنعانية".
كما يعرف علماء الآثار أن لقب الكنعانيين أطلق على هؤلاء وليس على الفلسطينيين. وبالتالي فإن وصف التوراة ينصرف إلى "أرض المعينيين-الكنعانيين" وليس أرض الفلسطينيين، وهذه هي مصريم التوراة (مصريم- مصرن) وهي أرض كنعان (أرض المعينيين) التي بلغت الساحل، وكانت تقود تجارة البخور في العالم القديم.
لقد تعرّف علماء الآثار بشكل جيد على ما يدعى "اللغة الكنعانية" من النصوص التي اكتشفت في اليمن وليس في فلسطين. وحسب هذه النقوش المسندية، فقد كان المعينيون يكتبون نصوصهم الدينية بلغة سوف تعرف باسم "الكنعانية". |
وهذا ما تؤكده نقوش سنحاريب: هاكم هذا المثال (من مسلة سنحاريب):
يسجل سنحاريب (705 -681 ق.م) في حملته على اليمن ما يلي: أنه نصب "تبع إيل" ملكاً على القبائل: كما هزم الملك اليهودي حزقيا، وأن القبائل المعادية كانت "قبائل مصرية". فهل كانت سبأ واليهود ومصر في مكان واحد هو فلسطين؟ هذا غير منطقي وغير مقبول علميا. ولنلاحظ كيف يتطابق نص إشعيا مع نقش سنحاريب: مصريم ومدينة الشمس عند إشعيا، ومصرن وشميسو عند سنحاريب:
47
تبع إيلو– هو الذي أجلسته على العرش الملكي
48
عليهم، والجزية والهدايا لجلالتي
50
من مناجم، وحتى شميسو
51
والذين خلعوا ملكهم (بادي) تم ربطهم بالقسَم وبلعنة أسّيريا،
ربطوا بأغلال الحديد
وأعطوه لحزقيا، اليهودي، —- أبقاه في الحبس كما العدو،
78
واستدعوا ملك مصر (ن) ورماة السهام والعربات والأحصنة.