مدينة غزة قبل 1000 عام

ما لا تعرفه عن تاريخ غزة 


تحتل غزة تاريخاً أكبر بكثير جداً، مما تحتله مدينتها الصغيرة المطلة على البحر المتوسط بجنوب فلسطين، حتى يقال في غزة هي البقعة التي انطلق منها التاريخ بأسره، إنها بوابة التواريخ على مر الأزمنة، فمنها عبر التاريخ إلى أرض مصر الكنانة ومنها إلى افريقية، ومنها عبر التاريخ شبه الجزيرة العربية، وإليها عاد مرة أخرى، ومن غزة انطلق التاريخ يغزو أمواج البحر المتوسط وجزره وشواطئه، ومن غزة هاشم، انطلقت انتصارات العرب، وعلى ترابها جرت أعظم الانتصارات العربية وأولها، ومن غزة توالت دخول أقدم الحضارات البشرية، ومن أرض غزة دخلت وتصارعت أعظم وأقوى جيوش العالم قاطبة، وفي سواحلها مرت أضخم أساطيل البحر، وعلى أعتاب غزة وهوامشها تحطمت أعته قوى الطغيان في العالم، ولا يسكن غزة إلا عظماء البشر وأقدرهم تحملاً للمشقة والعناء وأكثرهم قدرة على الصبر والبلاء، وبغزة طمع الطامعين والغزاة فتهافتوا تباعاً ليمروا من فوق ترابها، فيذوقوا فيها ألواناً شتى من الموت، فعادوا إلى حيث أتوا في توابيت الهلاك.

إنها اسم على مسمى، غزة وهي القوة والمنعة، وهي خزينة الثروة، وهي الكنز الملكي العظيم، ودهليز الملك، فهي تاريخ التاريخ، وأرض الأنبياء، بل هي مهد الأمم ومنبع الحضارات، وعلى الرغم من قدمها التاريخي وعظمتها التاريخية ودسامة قصصها، إلا أنها لا تزال تدفن تحت ترابها كنوز تاريخية تغطي كل الكرة الأرضية لو تم الكشف عنها، لأن المجهول فيها أكثر من المعلوم عنها.

ولعلنا نستذكر أهم وأقدم وأعظم الأمم والأحداث التي عبرت ومرت من فوق تراب غزة، وكان لها شرف معانقة ترابها وسهولها وجبالها وسواحلها ومياهها العذبة وهواؤها النقي، لعلنا نذكر إن نفعت الذكرى، فهي حضارة معين وسبأ والعويون والعناقيون والمديانيون والآدوميون والعمونيون والكنعانيون والفينيقيون والفراعنة، والهكسوس، والآشوريون، والبابليون، والفرس، واليونانيون، والأنباط، والتدمريون، والرومان، والنصارى واليهود والمسلمين، ومر من أرض غزة آلاف الأنبياء والرسل كان أولهم آدم عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وغزة أرض العرب كلما انتزعها منهم محتل عادوا لينتزعوها منه مرة أخرى وهكذا كرارا ومرارا، وعلى أرض غزة كانت أول معركة ينتصر فيها العرب المسلمين على الروم، وفي أرض غزة كانت أول معركة ينتصر فيها المسلمين على الفرنجة، وفي أرض غزة كانت أول معركة ينتصر فيها المسلمين على المغول، وفي أرض غزة كان أول انتصارا للعرب على الترك، وفيها ذاق نابليون بونبارت قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام ألوان من الجحيم، ومن أرض غزة كان أول خروج للصهاينة يجرون خلفهم ذيول الخزي والعار، ومن أرض غزة عبرت جيوش التحرير قاصدة علياء المجد، ومن أرض غزة خرجت أقوى قبائل العرب قاطبة تجوب بلاد العرب برا وبحرا مثل قضاعة وجذام ولخم وبني هلال وبني عامر وفي أرض غزة تكونت أقوى الأحلاف القبلية وفي أرض غزة كان أقوى وأشرس قبائل البادية، إنها أرض لا يقطنها إلا جبابرة الأمم والشعوب، وفوق أرض غزة حدثت أعنف الحروب الدولية والاقليمية والمحلية، وسكان غزة على مر العصور والدهور تذوقوا كل ألوان الحياة مرها وحلوها، حربها وسلمها، ضيقها ورغدها وما زال التاريخ يخفي في حاضره ومستقبله ما هو أدهى وأمر من ذلك، لأنها أرض المنشر والمحشر، وعلى أعتابها الشمالية بمدينة لد ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ليقتل الدجال آخر آفات الفتن والطغيان، وأختم حديثي بما جاء من طيب الحديث مما ورد في فضائل الشام، وغزة هي الشام الأولى.

1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" إني رأيتُ أن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فنظرتُ فإذا هو نورٌ ساطعٌ عُمِدَ بهِ إلى الشام، ألا إنَّ الإيمان إذا وقعت الفتنُ بالشام"، قال الألباني حديث صحيح[1].

2- عن معاوية بن قري، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورة على الناس، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة" قال الترمذي حديث حسن صحيح[2].

3- عن عبد الله بن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أريد الغزو في سبيل الله، فقال عليك بالشام، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله، الزم من الشام عسقلان، فإنها إذا درات الرحى في أمتي كان أهلها في راحة وعافية"[3]

وعسقلان هذه هي الجزء الشمالي ما بلاد غزة على ساحل البحر، وجاء في معجم البلدان بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان، وهي من فتوحات معاوية بن أبي سفيان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن عبد الله بن عمر أنه قال لكل شيء ذروة وذروة الشام عسقلان[4]، وعسقلان اليوم تقبع تحت الاحتلال منذ عام 1948م، اعادها الله إلى عروبتها عما قريب، ويسرني أن أقتطف هذا النص مما كتبه بقلمه العلامة خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي الفلسطيني الأصل الدمشقي الدار، من كتاب تقليد نيابة غزة سنة 745هـ/1325م للنائب الأمير عزالدين أيدمر، حيث قال:

" وبرز بين مصر والشام برزخاً، وكثرت خيراته فهو لا يزال مهب رخاء الرخا، وإلى غزة ترجع هذه الضمائر، وعلى سرها تدل هذه الأمائر،  كاد النجم ينزل إلى أرضها ليتنزه، وقصر وصف الواصف عنها ولو أنه كُثيّر وهي عزة، وكانت غُرَّة في وجه الشام فنقطها سواد العين بإنسانه فصارت غَزّة، وكفاها فخراً أن الإمام الشافعي رضي الله عنه منها[5]."

وقد قال الأمير الكبير سيف الدين المنصوري نائب صفد ودمشق للسلطان في العام 711هـ : " إن من يملك غزة يملك مصر" في إشارة واضحة على أهمية غزة التاريخية في تلك الفترة، فكلف السلطان الأمير المنصوري بالسيطرة عليها، فأتم له ذلك وكان الأمر كما قال[6]، فالدخول إلى القاهرة لا يتم إلا من غزة، والدخول من مصر إلى دمشق لا يتم إلا من غزة.

فغزة هنا تقع في بداية تاريخ العالم بأسره، وغزة هي قلب وجوهر تاريخ شرق البحر المتوسط، وغزة أيضاً هي نهاية تاريخ العالم في المستقبل، وأنا هنا أقف متحدياً بكل قوة لكل من ادعى وقال بأن السكان الذين هاجروا من جزيرة كريت ونزلوا شواطئ غزة والذين حملوا اسم الفلست الذي اطلق على اسم بلاد بني كنعان هم شعب غير سامي، أقول أن هذا الكلام باطلاً، لأن أصل السكان في جزيرة كريت قد جاؤوها غزاة من فلسطين عن طريق البحر، فكان أول من يسكن اليونان والسواحل الشمالية للبحر المتوسط هو الشعب الفينيقي، ثم عاد جزء منهم إلى فلسطين مرة أخرى، وهذا ما يحدث في كثير من الأحيان لدى الأمم والحضارات القديمة كتعاقب الآشوريون والبابليون والأموريون وغيرهم، وسكان سواحل البحر المتوسط الأولين والأقدمين هم أول جنس بشري يختلط مع سكان صحراء البلاد العربية وخاصة مع الأجزاء القريبة منها، وذلك بواسطة الزواج وانتقال اللغة السامية ذات الحروف المتشابهة، وكان سكان سواحل البحر المتوسط هم أول من عرف الحروف الهجائية وأول من ركب البحر[7] وأول من خاض فيه واستوطن جزره، بل هم أول أمة عرفت الأسطول ووصلوا بحر الظلمات وبحر الشمال ووصلوا بريطانيا[8]، ويذكر أن غزة حتى عام 1660م كانت بمثابة عاصمة فلسطين[9]، وهذا دليل على أهميتها ودورها وحجمها بالنسبة لهذه البلاد.

وكان الشرح آنف الذكر، دالاً على الموقع الجغرافي لبلاد غزة القديمة، وبكل تأكيد لم تكن هي غزة اليوم، فكثير من الباحثين والمؤرخين والجغرافيين يعتقدون أن الآثار القديمة المندثرة في تل العجول الواقع إلى الشرق مباشرة من مدينة الزهراء، على الضفة الشمالية لوادي غزة، هو نفس المكان القديم التي عرفت به مدينة غزة الأولى، والواقع حقيقة أن مدينة غزة كانت تتكون من مجموعة من التلال، فتل العجول هو أحد هذه التلال في الأزمنة السحيقة، عندما كان الإنسان القديم يعتمد اعتماداً رئيسيا على التلال للاتصال والاستطلاع والاستكشاف وذلك من خلال استخدام الوسائل البدائية كإشعال النار والمزامير والطبول وبالتالي يتمكن من الدفاع عن بلده، ومن هنا فإن التلال المنتشرة في بلاد غزة، كانت كلها تشكل بلاد غزة القديمة، لتضم تل العجول وتل انقيد وتل أم عامر وهو تل أثري قديم يعود إلى القرن الرابع الميلادي يقع في غرب النصيرات، وتل المنطار والموضع الحالي لمدينة غزة وغيرها من المواضع المرتفعة الأخرى المنتشرة في فلسطين، أو بمعنى آخر معظم أراضي جنوب فلسطين حتى العقبة ومعان والبحر الميت والقدس والخليل، كلها تشكل بلاد غزة القديمة.

إلا أن موضع مدينة غزة الحالية، هو منفذ هذه البلاد المطل على ساحل البحر المتوسط من غربها، ومدينة أريحا هي منفذ بلاد غزة المطل على نهر الأردن والبحر الميت من شرقها، كما كانت أم الرشاش المدينة المطلة على خليج العقبة والبحر الأحمر من جنوبها، وكانت مدينة حماة منفذ بلاد غزة المطلة على نهر العاصي من شمالها، فتلك كلها بلاد غزة وامتدادها الجغرافي القديم الذي اندثرت كل تفاصيله، ولما كان من الصعب السيطرة الكاملة على هذه الحدود ظهرت عدة ممالك وحروب داخلية داخل هذه المساحة، فتعددت الأسماء وكثر الملوك والقادة والزعماء، تلك هي بلاد غزة القديمة التي ما زلنا نجهل ماضيها كله.

لكن من هو شعب غزة القديم، هذا التساؤل حتى اليوم لم يستطع أحد الإجابة عليه بشكل مقنع، لأن هؤلاء السكان معظمهم بعد الطوفان[10]، فكل ما وصل إلينا من أخبار وعلم قبل الحضارة الكنعانية لم يكن سوى تكهنات وتفسيرات واجتهادات وآراء، حاله في ذلك حال السؤال المطروح حول كيفية بناء الأهرامات في مصر، إلا أننا سنترك الأخبار المجهولة، ونتأمل معجزة الإسراء والمعراج، ونقفز من التاريخ إلى الدين، لأنه جزء أصيل من تاريخنا العريق، فبيت المقدس والمسجد الأقصى النافذة التي اتصلت بالسماء، وهي أرض المنشر والمحشر، فمنها انتشر ولد آدم عليه السلام، وفيها ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان فيقتل الدجال آخر طاغية البشر، ومنها تنطلق علامات المحشر، وهذه العلامات والدلائل الدينية، هي التي تجيب على سؤالنا من هو شعب غزة أو شعب فلسطين القديم، فهي أرض الأنبياء وقيل أن بمدينة اللد قبر 70 نبياً من الأنبياء[11]، وفي فلسطين بمدينة الخليل ولد إسماعيل عليه السلام وبعدها ارتحل إلى مكة المشرفة، وفي بيت لحم ولد عيسى ابن مريم عليه السلام، ومنها صعد إلى السماء، وسينزل في باب لد ويقتل الدجال، والبيت المقدس كانت القبلة الأولى للمسلمين، وقد خص الله أرض فلسطين بالتقديس، وقد حدثت بأرض فلسطين معجزات عدة وحوادث خارقة، من بينها قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود، وقصة يوسف عليه السلام، وأصحاب الكهف، وقصة قوم لوط، وقصة يونس عليه السلام، وقصة سليمان وداود عليهما السلام وجالوت وطالوت، وتحدث الطير والنمل مع سيدنا سليمان وقصته مع ملكة سبأ، وقصة زكريا ويحيى وآل عمران وقصة مريم وابنها عيسى عليه السلام، وحادثة المعراج إلى السماوات العلا من فوق الصخرة المشرفة وصلاة الأنبياء خلف إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك الكثير من الأمور الذي نعلمها ولا نعلمها.


[1] ( فضائل الشام، السمعاني، ص44)

[2] ( فضائل الشام، السمعاني، ص35)

[3] ( مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، ج1، ص54)

[4] ( معجم البلدان، الحموي، م4، ص122)

[5] (أعيان العصر وأعوان النصر، الصفدي، ج1، ص664)

[6] ( أعيان العصر، المرجع السابق، ج4، ص151)

[7] ( خطط الشام، محمد كرد علي، ج5، ص32)

[8] ( خطط الشام، مرجع سابق، ج5، ص33)

[9] ( تاريخ غزة، عارف العارف، ص239)

[10] ( خطط الشام، محمد كرد علي، ج1، ص17)

[11] ( الروض المعطار في خبر الأقطار، ص510)

غزة قبل 1000 عام 

 لا يوجد تشابه بين واقعنا اليوم في بلاد غزة، لما كان عليه قبل ألف سنة، لأن حجم التأثير البشري على مظاهر السطح كبير جداً، كان في بلاد غزة عدة تلال وروابي وكثبان طينية وكركارية ورملية يتراوح ارتفاعاتها ما بين 50م – 60م لم يبق منها الآن أثراً، بسبب ازالتها بالآلات الحديثة وبشكل جائر، وبعضها تم ازالته يدوياً بواسطة النقل على ظهور الدواب، أو بواسطة الإنسان مستخدماً في نقلها القفف.

كما كانت الدرب التي تسير فيها قوافل المسافرين يحفها المئات من أشجار الجميز الكبيرة متشابكة الأغصان، يقدر عددها بنحو ألف شجرة، تبلغ طولها نحو يومين[1]، وفي اتحاف الأعزة نحو ميلين[2] أي 3.2كم وهي مسافة معقولة، لكن قول الحموي يعني بأن طولها يبلغ نحو 60 كيلومتر – 70 كيلومتر، وهذا معناه أن طول هذا الطريق يعادل ضعف الطريق الحالي ما بين رفح وغزة والبالغ حالياً نحو 41 كيلومتر، أي أن رفح الذي يقصدها الحموي تبدأ من شرق العريش بنحو 25 كيلومتر، ثم منها إلى نهاية رفح حوالي 30 كيلومتر، ثم تسير الطريق مسافة 41 كيلومتر للوصول إلى مدينة غزة فتكون هذه المسافة نحو 71 كيلومتر، يقطعها المسافر خلال يومين.

لكن الحموي ذكر بأن المسافة بين رفح وغزة للمسافر تقدر بحوالي 18 يوماً، وفي هذه العبارة خطأ، لأن المسافة ما بين رفح حتى العقبة ثمانية أيام والبالغة طولها نحو 240 كيلومتر، وأما المسافة بين رفح وغزة بأقصى حد تصل نحو 70 كيلومتر، إذا اعتبرنا أن موقع رفح قبل ألف سنة كان من شرق العريش كما أسلفنا القول، وهذه المسافة ثلث المسافة ما بين رفح والعقبة والبالغة مسافتها ثمانية أيام، إذاً فإن المسافر يقطعها خلال يومين أو ثلاثة بأقصى حد، ولذلك فإن الصحيح بأ المسافة بين رفح وغزة كانت 18 ميلاً[3] وليس يوماً أي 30كم وهي مسافة تقريبية، وقد كانت مدينة رفح على حد وصف الحموي مدينة عامرة بها جامع وسوق وفنادق، وكانت غزة مبنية على تلة تبعد عن البحر نحو ميل واحد (1.6كم)، بها عدة جوامع ومدارس وزوايا وبيمارستان وعدة أسواق، صحيحة الهواء وشرب أهلها من الآبار[4]، تحفها بطحاء من الأرض[5] تخترقها الأودية والسيول، وفيها مراع ومزارع وبساتين، وفيها قلاع مثل قلعة الداروم بينها وبين البحر فرسخ أي 3 أميال[6]، وفيها حصون كحصن تل جزر وتل الصافي، ومن أكثر تلال غزة شهرة في التاريخ هو تل العجول الواقع جنوب مدينة غزة الحالية، على الضفة الشمالية لمجرى وادي غزة الأدنى، يرتفع بنحو 45 متر عن مستوى سطح البحر، وجدت به آثار متنوعة، نزل على هذا التل معظم القوات العربية الإسلامية التي كانت تتحرك من مصر متجهة إلى الشام، ولهذا التل أهمية استراتيجية لكونه يكشف الأراضي المحيطة حوله من جميع الجهات، فهو كان يخدم التحركات العسكرية في تلك الحقب، وكان هذا التل المرتفع محاط بسفوحه بأشجار اللوز والعنب والزيتون وتزرع الأراضي المحيطة حوله بالمقاثي لخصوبة تربتها.

وكانت مدينة غزة نفسها في عام 1598م عبارة عن مدينة مسورة يحيطها سور من خارجها، وتقع الأحياء والمباني والمساجد بداخلها، وفق ما أظهرها رسام يهودي[7]، ويبدو بأن هذا السور يحفظ المدينة من الهجمات والغزاة الذين يأتونها من البر، تنمو على مقربة من المدينة أشجار النخيل والعنب، وفي غربها تمتد التلال والكثبان الرملية بمحاذاة الشاطئ شمالاً وجنوباً، أما في شرقها فتكثر الحدائق الواسعة والبساتين التي يعمل بها بعض سكان المدينة نهاراً ويتركوها عند حلول المساء، وفي سورها خمسة أبواب[8]: باب يفتح جهة البحر من غربها، وباب من شمالها يفتح جهة دير سنيد، وباب من شرقها يعرف باب القلعة وباب من جنوبها يفتح على الداروم، وباب خامس يعرف بباب الجرن، وكانت غزة عامرة بالبساتين وكروم الزيتون في عهد نابليون، وكان طريقها العام يعرف بطريق البساتين لكثرتها.

 وإلى الشرق من مدينة غزة تل المنطار، وكان قبل ألف عام يقام فيه موسماً احتفالياً تتجمع عنده العربان مستنفرين بسلاحهم وخيلهم، وذلك تزامناً مع زيارات الفرنجة حرصاً من انقلابهم عسكراً لاحتلال البلاد، وكان القائد صلاح الدين الأيوبي صنع هذا لدرء الأخطار[9]، وكذلك موسم آخر في الداروم وآخر في عسقلان ومواضع أخرى.

وكان سكان غزة في تلك الحقبة، يستخدمون الدواب من الإبل والخيول والأكاديش في أعمالهم وأسفارهم وتنقلاتهم، ويسير الرجل منهم حاملاً سلاحه من سيف يتوشحه وخنجر على وسطه، وقربة ماء في خرج فرسه أو دابته الذي يمتطيها، وكانت بطحاء غزة مترامية الأطراف، فسيحة الآفاق، تظهر بين الفينة والأخرى مضارب العربان من بيوت الشعر، ترفرف عليها رايات بيضاء شعار أهل غزة في تلك الأزمنة، وبعد أن يسدل الليل ستاره، ترى نيران القرى التي توقد في بيوت العربان ليستدل بها الضيف وعابري السبيل ترى عن بعد من الآفاق، وأما المرأة البدوية فلباسها أغلبه من السواد مغطاة لا يظهر منها شيء، وقليل هو نشاطها وتحركها، فلا تسير إلا في مواضع قبيلتها لقضاء حاجة قريبة مثل الحصول على الماء مثلاً، وأما سفرها فكانت تركب الهودج والجمال بصحبة مرافقيها من أولادها ومحارمها.

كانت البيوت قليلة ونادرة، ويتركز معظمها فقط في مراكز المدن، ولم يكن في بلاد غزة سوى مدينة رفح في الجنوب ثم غزة شمالاً ، وكان السكان ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، قسم يفضل السواحل المطلة على البحر يعتاشون من صيد الأسماك وتربية الأغنام والطيور الداجنة ويمارسون الزراعة، وقسم يفضل المتسع من بر غزة حيث يعتاشون من تربية الإبل والأغنام وزراعة الحنطة والشعير في الشتاء ويتميز هذا القسم بنشاط دائم من السفر والتنقل في البراري وهم أهل البادية الأقحاح ففي فصل الربيع يحومون في المناطق الساحلية ومصبات الأودية لرعي ماشيتهم ففي شمال غزة حتى حيفا كانت تنتشر قبائل التركمان وقبائل قضاعة وبني عامر بن صعصعة وفي جنوب غزة حتى العريش كانت تسود قبائل لخم وجذام وبني هلال، وقسم ثالث يعيش على التجارة والزراعة ويتخذ من مدينة غزة وأحيائها مسكناً لهم.

كان عدد بيوت غزة سنة 922هـ حوالي 1300 منزل فقط مبنية من الحجر، وأسطحها مقصورة بالطين والكلس وبها ستة أحياء[10]، وفي العام 1840م بلغ عدد منازل غزة 4000 منزلاً وفي جنوب قلعة الداروم ( دير البلح حالياً) أقيمت محطة بريد تستقبله من مصر وترسله إلى الكرك و القدس ودمشق، فكانت المناطق القريبة من هذه المحطة البريدية مساكن لقبائل طيء وقضاعة والفضل وآل عامر لأن أكثرهم عمالاً بهذه المحطة التي تعتمد على الخيول والفرسان، وهي محطة السلقا[11]، فكانت تلك القبائل تتنافس فيما بينها وتتفاخر تفاخراً شديداً بفرسانها وخيولها وسرعة انجاز مهامها، لدرجة تحول هذا التنافس إلى صراع دامي مثلما وقع بين طيء وجرم سنة 750هـ/ 1349م[12]، ومحاولة كل قبيلة الحصول على نفوذ أكبر، وبالقرب من محطة السلقا جنوباً، تم إنشاء فندق للإيفاء باحتياجات التجار والمسافرين وعمال البريد والحجاج، فأقيم خان الأمير يونس الداودار المملوكي على شكل مربع طوله 85.5 متر، يضم أربعة أبراج في كل زاوية من زواياه، ومسجد ذو مئذنة، وبوابه من الجهة الغربية، وهو مكون من طابقين خصص السفلي منه للبضائع والسلع والعلوي لمبيت النزلاء، وفي أسواره مرابط للخيول، ويعتقد بأن موقع الخان هو نفسه محطة السلقا السابقة[13]، وهو تحليل منطقي ولفتة في مكانها.

ومن هنا انطلق السكان، يتجمعون حول هذا الخان الجديد لبيع بضائعهم ومنتوجاتهم المحلية على الزوار والوافدين، وبدأت تظهر الدكاكين والمحلات والمساكن والعزب بالقرب من الخان، وعرف هؤلاء السكان باسم القلاعية نسبة للقلعة، ويعود أوائل هؤلاء السكان إلى قبيلتي طيء وقضاعة وبني عامر، لذا وجدنا القلاعية تصف مع قبيلة العزازمة القضاعية، لكن في عهد العثمانيين دخلت عناصر جديدة من الأتراك والشكرس والتركمان وبفضل ما حصلوا عليه من امتيازات كبيرة، تمكنوا من احتلال الكثير من العقارات والأراضي.

كانت الأراضي المحيطة بغزة، تقع تحت سيطرة قُطَّاع الطرق من اللصوص البدو، وقل من ينجو أحد من سطوتهم، فهم دائماً متأهبون بالسلاح والخيول يجولون في براريها وقفارها يتربصون قافلة تمر من هنا أو عسكر من هناك، وقد عجزت قوى الأمن عن ثنيهم أو تخويفهم حتى في عهد الأتراك[14]، فقد كان الجنود الترك أنفسهم يقعون في كمائنهم.

المراجع:

[1] ( معجم البلدان، الحموي، ج3، ص54-55)

[2] ( إتحاف الأعزة في تاريخ غزة، ج1، ص159)

[3] ( إتحاف الأعزة في تاريخ غزة، ج1، ص159)

[4] ( صبح الأعشى، القلقشندي، ج4، ص99)

[5] ( المعالم الجغرافية الواردة في السيرة، البلادي، ط1، 1982م، ص46)

[6] ( معجم البلدان، الحموي، ج2، ص424)

[7] ( تاريخ غزة، عارف العارف، ص41)

[8] ( إتحاف الأعزة، ج1، ص259)

[9] ( تاريخ فلسطين، طوطح والبرغوثي، ص180-182)

[10] ( تاريخ غزة، العارف، ص180)

[11] ( غزة وقطاعها، المبيض، ص214)

[12] ( غزة وقطاعها، المبيض، ص228)

[13] ( غزة وقطاعها، المبيض، ص233- 235)

[14] ( إتحاف الأعزة في تاريخ غزة، ج1، ص277 – 278)

أهم وقائع غزة قبل 9 قرون

إنَّ هذه البلاد مرت بها أحوال عديدة وأحداث شديدة، فلن نستطع أن نحصيها، لأن التاريخ نفسه لم يجمعها من قبل، ونحن في هذا الفصل لن ولم نتحدث عن جميع الوقائع التاريخية التي عصفت بهذه الديار، ولكننا سنستذكر جملة من الوقائع المهمة والتي لا يجب نسيانها وكذلك الوقائع الغريبة التي وردت في أمهات الكتب أو تلك التي لا زالت في ذاكرة الناس يروونها ويقصونها في مجالسهم على مسامع المتسامرين.

وبطبيعة الحال فنحن سنبدأ بتلك الوقائع التي ربما مر عليها 10 قرون من الزمان، أو أكثر قليلاً من ذلك، ثم تنازلياً دون أن نبتعد كثيراً عن هذه المدة.

1- في سنة 460هـ/ 1067م حدث زلزال عظيم بالرملة، حتى خرج الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهل الرملة 25 ألف إنسان[1]، وتدمرت إيلة وهلك من فيها، وكانت مياه البحر قد انحسرت عن الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس يلتقطون السمك، فرجع الماء عليهم فأهلكم[2] وهذه من الظواهر نادرة الحدوث في بلادنا.

2- في سنة 461هـ عندما حوصر الخليفة أبو تميم المستنصر بالله في قصره بالقاهرة، وكان قد تجنى عليه الأجناد وانتزعوا جميع ما في يده وأرادوا أن ينكحوا بناته وأخواته، فأخرجهن مع أولاده من القصر، وسيرهن إلى غزة وعسقلان[3].

3- في يوم الخميس العاشر من محرم لسنة 547هـ هاجم رجال عسقلان جماعة من الإفرنج وقتلوهم  وانهزم الباقون ، وأنه في أوائل ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين أغار جيش من مصر على الفرنجة في غزة وعسقلان وقتل منهم العدد الكثير وأسر منهم عدد كبير.

4- وفي سنة 583هـ السابع والعشرين من رجب ليلة الإسراء والمعراج، الموافق الثاني من الشهر العاشر لعام 1187م، دخل المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي القدس بعد 91 سنة هجرية/ 88 سنة ميلادية من الاحتلال الصليبي للمدينة، وقد تعالت أصوات التكبير والتهليل والفرحة تعم أرجاء البلاد، وكان يوماً مشهوداً زينت فيه عواصم البلدان العربية والإسلامية وضجت بالمحتفلين والمبتهجين بالنصر، وسيطر اسم صلاح الدين على كافة المواليد في ذلك العام.

5- وفي سنة 597هـ وقع زلزال شديد في الشام، فمات سكان صفد ولم يبق منهم سوى شخص واحد، وتهدمت المباني في نابلس، فلم يبق فيها حائط[4].

6- في سنة 656هـ يوم الجمعة 25 رمضان، الموافق 6/9/ 1260م سحق المسلمون بقيادة القوات المصرية وعلى رأسهم الأمير المظفر قطز، القوات المغولية في غزة ثم لحقوهم عند عين جالوت فأعملوا فيهم السيف وأبادوهم وقتلوا قائد جيشهم، واستمرت القوات تطارد المغول مدة خمسة أيام[5].

7- في سنة 661هـ 11 ربيع الآخر، نزل السلطان بيبرس بلاد غزة، ونظر في أمر القبائل من التركمان، ومن عرب العايد وجرم وثعلبة وبني كلاب بن عامر بن صعصعة وعين أمرائهم وكلفهم بالقيام بواجباتهم من الخفارة والحراسة وأعمال البريد.

8- في سنة 669هـ وقع مطر في بلاد الشام  بفصل الصيف أحدث سيول عظيمة بلغ ارتفاعها حد السور، وجرف الناس والدواب والأشجار[6].

9- في سنة 690م/ 1291م، تم فيها تحرير آخر المعاقل الصليبية في بلاد الشام، حيث مدينة عكا فدخلها السلطان الأشرف خليل بن قلاوون فاتحاً، وبهذا الفتح انتهى الوجود الصليبي من البلاد نهائياً، وكان معه 400 فارس من قبائل بني عامر 

10- في سنة 692هـ وقع زلزال بالرملة واللد وغزة والكرك في فصل الشتاء، واشتدت السيول، وتهدمت أبراج قلعة الكرك، وطواحين العوجا، وتهدمت أماكن في السواحل[7].

11- في سنة 749هـ وقع وباء عظيم أباد معظم سكان عكا وصفد والقدس والرملة وجنين ونابلس والكرك ، وعربان البوادي حتى تراكمت جثث الموتى في كل مكان[8].

12- في سنة 753هـ تساقطت أمطار غزيرة على بلاد غزة، لم يعهد بمثلها من قبل، ونتيجة هذه الأمطار تهدمت بيوت كثيرة على رؤوس قاطنيها، وتلفت المحاصيل والمزروعات، وسقت نصف دار النيابة، وغطت الأمطار والثلوج البلاد حتى مدينة العريش[9].

13- في سنة 772هـ ظهرت بسماء فلسطين حمرة شديدة جداً كأنها الجمر، وصارت في خلل النجوم، كالعمد البيض حتى سد ذلك الأفق طوال ليلة الخميس حتى طلوع الفجر، فارتاع الناس واشتد خوفهم، وباتوا يستغفرون الله ويذكرونه[10].

14- في سنة 791هـ جرت بين عسكر الشام وعسكر مصر معركة ضارية على أرض غزة، انتقم فيها عسكر مصر لما حل بعسكرهم قبل ذلك بأيام على أيدي عسكر الشام، وقد قتل العسكر المصري من عساكر الشام 100 رجل، ومن أمراء غزة ثلاثة[11]، وقد جرت في هذا العام حروب وصراعات كثيرة من هذا القبيل، اشتركت فيها قبائل غزة ونابلس.

15- في سنة811هـ وقع زلزال في الشام، انحسرت بسببه مياه البحر، حتى وقفت المراكب على الأرض، ثم عاد الماء كما كان ولم يتضرر أحد[12]، وهذا أمر غريب نادر الحدوث في بلادنا.

16- في سنة 824هـ يوم الأربعاء، وقعت حادثة غريبة وهي أنه ذبح جملاً بسوق الجزارين في مدينة غزة، وعلق لحمه داخل بيت الجزار، فأضاء اللحم كما يضيء الشمع، فأخذ منه قطعة وقسمت إلى أجزاء صغيرة فأضاءت كل منها، فحمل اللحم كله ودفن، وقد أخذ رجل قطعة منها، وألقاها لكلب فلم يأكلها[13].

17- في سنة 841هـ وقعت كوارث عظيمة على سكان غزة، حيث انتشر وباء الطاعون القاتل ليفتك بالسكان فتكاً ذريعاً، ووصل عدد الوفيات جراء ذلك نحو 12 ألف ونيف[14]

18- في سنة 923هـ القوات العثمانية بقيادة السلطان سليم خان بن بايزيد بن محمد الفاتح، يحتل طبريا وصفد واللجون والرملة واللد وغزة وبيت المقدس ثم يتوجه لمصر، وما يجب ذكره في هذا العام هو قيام الجنود العثمانيين بجمع سكان مدينة غزة وقلتهم عن آخرهم[15] وكان عدد القتلى لا يحصى من كثرته.

وفي طريق القوات العثمانية المتجهة نحو مصرو إلى الجنوب من خانيونس وحتى العريش، كان هناك أعداد هائلة من قبائل البادية الذين أقلقوا القوات العثمانية حتى أن قائدهم سنان باشا العثماني ظن بأنهم قوات الجيش المصري النظامي، فارتعب وخاف بسبب كثرتهم، لكنهم في الحقيقة يفتقرون للسلاح اللازم لصد الهجوم العثماني الذي يمتلك سلاحاً متقدماً نوعاً وكماً، مما أدى إلى تمكن القوات العثمانية من تشتيت القبائل وتفرقتها[16] والتقدم نحو مصر.

وصف الأحوال بغزة في بداية العهد العثماني:

كان الفساد مستشرياً في غزة، إذ كان من يقبض على زمام الحكم جهلاء ظلام، وندماء سخفاء، وهم طبالون وطباخون ومقربون لنساء القصر الملكي والزنوج ويفعلون كما تشاء أهوائكم، كما كان الشغب والفساد بفعل فاعل منتشرا بين الرؤساء، والرتب تباع بيع السلع بالمزاد، وكانوا يفتكون بالأبرياء، وكثرت الضرائب والمكوس لدرجة لا تطاق[17]، وهذه عينة من مجموعة كبيرة من الأسباب التي أدت إلى تدمير المجتمع العربي الفلسطيني.

19- في سنة 1189هـ اقتحم محمد بك أبو الذهب بلاد غزة بقواته وعساكره، ومنها توجه إلى يافا وأباد سكانها وصنع من جماجم القتلى صومعة، وزينت القاهرة واحتفلت بذلك مدة ثلاثة أيام بلياليها، وذلك في أوائل ربيع الثاني من العام المذكور[18]، ولم يدم الأمر سوى بضع أيام قلائل حتى توفي فأخذ جثمانه إلى مصر ودفن هناك.

20- في سنة 1213هـ دارت معركة شرسة بين قوات نابليون وقوات عبد الله باشا البالغة 6 آلاف جندي كانت في طريقها إلى العريش، ففي الأراضي الواقعة بين خانيونس وغزة، باغتتها القوات الفرنسية، وانكسر فيها عبد الله باشا، وسقطت غزة في يد الفرنساوي[19] وواصل تقدمه إلى الرملة ويافا.

21- مذابح ومجازر إبراهيم باشا بن محمد علي باشا[20]، في بلادنا بعد 32 سنة من مجازر الشيطان نابيلون، والذي راح ضحيتها 4000 قتيل، غير الخراب والدمار الذي أصاب البلاد.

جاء ابراهيم باشا عام 1830م إلى الشام بسبب عوامل سياسية واقتصادية لعل أهمها الصراع بينه وبين قريبه أحمد باشا الجزار، والخلافات بين والي مصر وبين السلطان العثماني، وكذلك للحصول على موارد من قطع الأخشاب لبناء اسطول بحري، وايضا لوقف هجرة العائلات المصرية الهاربة من التجنيد والضرائب، ولتوطيد أركان الدولة وانفصالها عن السلطنة العثمانية، وقد انضم عدد كبير من قبائل العرب البدو مع جيش ابراهيم باشا لنقمتهم على سياسة الحكومة العثمانية وانتمائهم ايضا لنفس أصول قبائل البدو المصرية القادمة مع ابراهيم باشا..الخ

وقد وقعت عدة معارك وحروب ومن ضمنها مذابح بحق بعض سكان القرى 

1- مذبحة عكا:

الأحد 27 ذي القعدة لعام1248هـ، فرض ابراهيم باشا حصاره على عكا والذي استمر ستة شهور كاملة، استخدم فيها ضرب المدافع ليل نهار، ورمي القنابل، ثم اقتحم سور المدينة هو وجيشه، وأفنوا كل من وجوده أمامهم من عساكر عبد الله باشا، وبدأ القتل والنهب والسلب الشيء الكثير، من أرزاق ومصاغ وما وجد بحوزة الضعفاء من النساء والعجائز، فنزعوا ملابسهم عنهم وتركوهم عراه، وكان عدة القتلى في هذه المدينة بعد ستة شهور من الحصار والقتال، وصل إلى 12500 نسمة، وقتل من عسكر ابراهيم 18 ألف عسكري، ولم ينجو من مدينة عكا بعد احتلالها سوى10% من سكانها، قد تكون الأرقام مبالغ فيها من وجهة نظري، وفي رواية بمجلة المدفعية الملكية الصادرة 19 نوفمبر سنة 1949يقول الكاتب، بخصوص عدد العسكر المقاتلين، فيقال أن عدة عسكر عكا 6000 مقاتل، قتل منهم في المعارك 5600 قتيل، وعدة قتلى المصريين 4500 قتيل.

2- مذبحة قرية العنب قرب القدس:

هاجمت قوة عسكرية من قوات ابراهيم باشا قرية العنب، وأمطروها بضرب الرصاص، وهرب سكان القرية للنجاة بأرواحهم ومن بقي قتل، واستمر ابراهيم باشا إلى أن دخل القدس.

3- مذبحة صفد:

نشب شجار في صفد بين المسلمين واليهود، وعلى إثر ذلك توجهت قوة قوامها 5000 عسكري، بقيادة الأمير بشير طرف ابراهيم باشا، وهاجم صفد وحاصر السكان وأخذ بتفتيشهم وأعدم منهم 200 شخص، وقام بمصادرة الأموال التي نهبها سكان صفد من اليهود واسترجعها لهم؛ كان أغلب سكان صفد فيما سبق هم من قبيلة خفاجة وبني كلاب من بني عامر بن صعصعة..

3- مذبحة نابلس:

هاجم ابراهيم باشا قرى نابلس واحدة تلو الأخرى، حيث كان يأمر جنوده احراق القرية بالكامل، ففي قرية زيتا قتل 700 نفر ثم احرقها، وبلغ عدد القرى التي حرقت 6 ضياع، وتم جمع بنادق كثيرة من الناس الذين استسلموا أثناء المعارك، وأسر عدد كبير من الرجال، وفر شيوخ الثورة إلى الخليل.

3- مذبحة الخليل:

كان ثوار نابلس الفارين قد تجمعوا في الخليل، فأرسل ابراهيم باشا لهم خبراً بالتسليم والأمان فرفضوا، وهاجمت قواته الثوار قرب الخليل واستمر الاشتباك مدة 3 ساعات، فهزم الثوار وتحصنوا في المدينة، لاحقتهم عساكر ابراهيم، واقتحمت المدينة وأنزلوا فيهم السيف والذبح والقتل والأسر والنهب، فقتل 600 شخص، وأسر عدد مماثل، وتم أرسال الأسرى إلى عكا وجزء منهم إلى مصر، وتم أخذ الأولاد من سن 8 سنوات إلى 12 سنة لإدخالهم في النظام الجديد الذي أقره على البلاد، كما تمكن من الهرب قادة الثورة وهم قاسم الأحمد، وعيسى البرقاوي، وباقي شيوخ العشائر، وتوجهوا إلى السلط والكرك، ثم تم القاء القبض على 120 شخص من زعماء نابلس والعشائر، وتم قطع رؤوسهم جميعاً، وفيهم قاسم الأحمد وعيسى البرقاوي، أغلب سكان الخليل من القبائل القيسية ولها قرابة وصلة رحم مع عرب البحيرة بمصر وكذلك مع عرب نابلس وجنين وغزة ..

وكانت تلك الوقائع المؤلمة والمتتالية اضافة لسياسة السلطنة العثمانية ، إحدى أسباب افقار تدمير المجتمع الفلسطيني، مما جعله ضعيفاً عاجزاً عن التصدي للاحتلال الأجنبي الاستعماري للبلاد فيما بعد، ولم تكن مجازر إبراهيم باشا هي الوحيدة، فقد كان هناك مآسي مؤلمة أخرى، وجاء في الخطط:

" ولم يكفي فلسطين ما حل بها من ظلم الجزار ثم وقائع نابليون حتى قام محمد باشا أبو مرق يسومها العسف والخسف، يجور على أهل المقدس والخليل وغزة والرملة واللد، حتى اضطر السادات الأشراف الأبرياء لكثرة مظالمه أن يبيعوا أولادهم كما تباع العبيد والجواري، على ما ذكر ذلك أحمد باشا الجزار في كتاب صدر عنه سنة 1217م، إلى وكيله في دمشق[21]".

22- وفي سنة 1917ميلادية يوم 28 من شباط، احتلت القوات الانجليزية مدينة خانيونس بعد رفح[22]، ومنها بدأوا يستعدون للزحف باتجاه مدينة غزة، وفي هذه الأثناء حشدت القوات الإسلامية العثمانية مدينة غزة من الساحل حنى منطقة المنطار، متأهبةً للدفاع عنها بكل بسالة، وخرج السكان المدنيين من المدينة إلى القرى المجاورة، وفي 26 آذار 1917م بدأت القوات الانجليزية الزحف نحو غزة وقوامهم 44 ألف جندي وبعد معارك ضارية قتل فيها 2700 جندي انجليزي وجرح عدد مماثل واستشهد من الأتراك 1500 جندي، فشلت هذه الحملة فتراجع الإنجليز جنوباً، ووصلت بعض الامدادات التركية حتى أصبح قوام الجنود الأتراك في مدينة غزة 30 ألف جندي، كما زادت القوات الانجليزية أعدادها أيضاً.

الهجوم الثاني بدأ يوم 17/ نيسان/ 1917م، ونهض الأتراك بالدفاع عن المدينة بإصرار وعزيمة فتكبد الجيش الانجليزي خسائر فادحة في المعركة الثانية بلغت 2085 جندي قتيل، وأكثر من 4 آلاف جندي جريح، وعدد كبير من الأسرى، واستشهد من الأتراك 1970 جندي، وانسحب الجنود العرب من القوات التركية فرارا لينضموا للقوات العربية المهاجمة مع الانجليز، وكان فشل الانجليز للمرة الثانية في احتلال غزة قد سبب ارباكاً شديداً لدى الحكومة، مما أدى إلى أجراء تعديلات في القيادة العسكرية.

الهجوم الثالث: رأت القيادة العسكرية الانجليزية أنه لا يمكن احتلال غزة قبل احتلال بئر السبع، فتوجهت القوات الانجليزية إليها في شهر تشرين أول عام 1917م وتم له احتلال بئر السبع فزحف الجيش نحو غزة في اليوم الأول من تشرين الثاني 1917م وبدأت المعارك الضارية بالقنابل والمدافع براً وبحراً مع تقدم للجيش الإنجليزي وضعف وتشتت للجيش التركي نتيجة الحصار وقلة المؤن وقطع الامدادات، فتراجع الأتراك للالتفاف نحو الجناح الأيمن للقوات الانجليزية المهاجمة، لكن هذه الخطة فشلت نتيجة نباهة وخبرة الأدلاء العرب في الجيش الانجليزي، فتم احتلال قلب غزة في ذلك النهار، وقد أصاب غزة دمار هائل وخراب كبير يقدر بثلث مساحة المدينة.

وهكذا سقطت غزة في أيدي الاستعمار الإنجليزي بعد أكثر من 500 عام من التخطيط المسبق، وبعد عشر سنوات من تدخل الإنجليز في الحدود الجنوبية لفلسطين، فكانت بداية النهاية لحضارة الأمة العربية التي دفنت من ذلك الحين، وبعد عدة عقود بدأ ظهور الدول العربية المستقلة التي تفصل بينها وبين جيرانها الحدود السياسية لأول مرة في تاريخ العرب.

وأما غزة مدينة جنوب الشام، فقد بدأت تتجرع مرارة العيش الملطخ بالدماء، وتحتسي علقم الذل والجراح والمآسي والقهر، لتغرق بعدها 60 عاماً في بحر من الدماء، ثم لم تستطع أن تتنفس الصعداء بعد بضع سنوات من الانسحاب الإسرائيلي من أرضها، حتى عادت تتجرع الأسى بسبب الحصار الجائر والظالم على سكانها، وفيما يلي أهم المحطات التاريخية لعربان غزة بعد وقوعها فريسة للاستعمار الانجليزي.

23- مايو 1948م وقوع الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وهجرة مئات الآلاف من السكان من قراهم ومدنهم إلى قطاع غزة، وسيطرة اسرائيل على شمال وشرق لواء غزة، حيث تم السيطرة على أسدود والمجدل وقراهم وبئر السبع والعقبة والنقب وحصار غزة من الشرق والجنوب الشرقي والشمال، وبقي قطاع غزة محدود المساحة تحت سيطرة القوات العربية المصرية.

24- وفي تشرين الأول 1956م بدأ العدوان الثلاثي الهمجي على غزة ومصر من قبل إسرائيل وفرنسا وإنجلترا وهكذا كشف الاستعمار عن أطماعه علناً بعد أن حقق مراده، وكان قد بدأها سابقاً من خلال إعلان تصريح بلفور يوم 2/11/ 1917م وبقي طي الكتمان حتى تم احتلال القدس في 9 كانون أول 1917م، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها.

وفي أثناء العدوان الثلاثي على مصر، كانت قد اشتركت فيه انجلترا حليف العرب ضد الترك مع إسرائيل الدولة التي ظهرت حديثاً في فلسطين نتيجة تعاون بريطانيا حليفة العرب معهم لأول مرة في التاريخ محدثةً بذلك ظاهرة جديدة في تاريخ العالم، ففي هذه الحرب قامت إسرائيل بمذابح دموية في مدينة غزة وخانيونس كتلك التي ارتكبتها عام 1948م الذي عرف بعام النكبة، وقد سالت دماء الشهداء والجرحى أودية بين شوارع المدينة.

25- وفي الخامس من حزيران عام 1967م احتلت اسرائيل كامل فلسطين والجنوب اللبناني والجولان السوري وشبه جزيرة سيناء، حتى شهر أكتوبر من عام 1973م حيث بدأت الحرب بين مصر واسرائيل وتوقيع معاهدة كامب ديفيد لأول مرة بين العرب المصريين والاحتلال الاسرائيلي تم بموجبها الانسحاب الاسرائيلي من مصر وهو الشق الأول من المعاهدة، بينما الشق الثاني لم ينفذ بعد وهو الخاص بالقضية الفلسطينية، والذي ينص على إقامة حكم ذاتي فلسطيني ضمن الأراضي المحتلة عام 1967م، ولا تزال فلسطين محتلة سوى قطاع غزة الذي تم تحريره عام 2005م، لكن الاحتلال يفرض عليه الآن حصاراً مشدداً من البر والبحر والجو.

26- وفي العام 1987م اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة انتفاضة شعبية عارمة ضد الاحتلال استخدم فيها الثائرون الحجارة للتعبير عن غضبهم من الاحتلال الاسرائيلي الغاشم، وقد سقط العديد من أبناء شعبنا الفلسطيني بين شهيد وجريح وأسير وطريد، وقام الاحتلال بعمليات اغتيال داخل وخارج الوطن لقتل ووأد الانتفاضة إلا أنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، حيث اغتال الاحتلال القائد الفلسطيني خليل الوزير أبو جهاد في مكتبه بتونس بواسطه جهاز الموساد السري، وكذلك قيادات أخرى عديدة.

27- وفي العام 1994م تم الانسحاب الجزئي للاحتلال الاسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة بناءً على اتفاق السلام بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل، حيث تم الانسحاب من المدن المأهولة بالسكان وبقي في المستعمرات وبعض المواقع العسكرية، ودخلت إلى غزة لأول مرة في التاريخ قوات عربية فلسطينية، وسلطة فلسطينية لإدارة المدن والمناطق المحررة، وقد رأى سكان غزة لأول مرة رئيسهم العربي الفلسطيني المرحوم الشهيد ياسر عرفات أبو عمار، عن قرب في المدن وحضروا خطاباته وجها لوجه، لكن الاحتلال أصر على الغدر والخيانة فوجه الضربة القاضية لخيار السلام عام 1998م فتعثرت المفاوضات واندلعت على اثرها انتفاضة مسلحة قادتها فصائل العمل الوطني والإسلامي انتهت بانسحاب العدو عام 2005م من غزة ..

28- بعد تعثر المفاوضات واندلاع الانتفاضة الثانية المسلحة، فرض الاحتلال حصاراً مشددا على رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات أبو عمار انتهت باستشهاده في 11/ 11/ 2004م.

29- شنت القوات الإسرائيلية عدة حروب على قطاع غزة ابتداءً من عام 2008م وحتى عام 2014م أدت إلى استشهاد وجرح مئات الألاف من السكان، إضافة إلى فرض حصار مشدد هو الأطول في تاريخ البشر، كما أحدث الاحتلال دماراً هائلاً في مدن وقرى قطاع غزة أصاب جميع مجالات الحياة المدنية والاقتصادية.

[1] ( دول الإسلام، الذهبي، ج1، ص394)

[2] ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج5، ص81)

[3] ( أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، القرماني، م2، ط1، 1992م، ص242)

[4] ( دول الإسلام، الذهبي، ج2، ص105)

[5] ( تاريخ فلسطين المصور، سويدان، ص185- 186)

[6] ( السلوك، المقريزي، ج2، ص72)

[7] ( السلوك، المقريزي، ج2، ص240)

[8] ( السلوك، المقريزي، ج4، ص82)

[9] ( السلوك، المقريزي، ج4، ص172)

[10] ( السلوك، المقريزي، ج4، 339)

[11] ( بدائع الزهور في وقائع الدهور، ج1، ق2، ص398)

[12] ( السلوك، ج6، ص214)

[13] ( السلوك، المقريزي، ج7، ص17)

[14] ( السلوك، المقريزي، ج7، ص253)

[15] ( تاريخ غزة، العارف، ص173)

[16] ( تاريخ غزة، المرجع السابق، نفسه)

[17] ( تاريخ غزة، المرجع السابق، ص175- 176)

[18] ( المختار المصون من أعلام القرون، المجلد الثاني، ص1326)

[19] (نابيلون في مصر، أحمد حافظ عوض، ط2012م، ص292)

[20] (1- مصدر المعلومات/ مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، مؤلف مجهول، تحقيق أحمد غسان سبانو، عدد صفحات الكتاب 159 صفحة.2- مجلة المدفعية الملكية، 19نوفمبر1949م، بقلم البك باشي، ابراهيم فؤاد شرف، موقع الكتروني موقع الملك فاروق الأول.)

[21] ( خطط الشام، علي، ج3، ص18)

[22] ( تاريخ غزة، عارف العارف، ص224- 232)

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم