الأمن والعشيرة |
لكل عشيرة نظام وقانون ينضم علاقاتها الداخلية والخارجية، وجميع عشائر البادية متعارفة فيما بينها على هذا النظام وملتزمة به ولا تتجرأ القبيلة على الخروج على النظام العام لأن مصلحتها الالتزام بما يلتزم به كل المجتمع المحيط بها..
ولذلك فإن الشئون الأمنية والإجتماعية والاقتصادية للقبائل البدوية في سابق عهدها منظمة تنظيماً قوياً أكثر أضعاف المرات مما عليه في وقتنا الحاضر، وذلك بسبب بعد القبائل عن مركز الأمن العام للحكومات ووجودها في مناطق الأطراف والهوامش الصحراوية واستقلالية القبائل في أنظمتها وأنشطتها عن المجتمع المدني العام، ولهذا السبب كانت القبائل هذه وبتلك الصورة تشكل قلقاً دائماً على أمن المجتمع المدني الذي يحكمه نظامه الإداري والعسكري والسياسي الرسمي والمنشغل بحفظ وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية الرسمية، ولما كانت القبيلة لها تنظيم عسكري مستقل وخاص بها كانت تظهر وكأنها على عداء شبه دائم مع الحكومات المركزية، حتى في ذلك الزمن كانت الوسائل والأدوات القتالية متشابهة ولربما تسليح القبائل وجهوزيتهم لخوض المعارك والدفاع أقوى من القوات النظامية في الزمن القديم، وكانت الحكومات تلجأ للقبائل لاسنادها في الكثير من المعارك الداخلية والخارجية..
أما بخصوص تأثير القبائل والعشائر البدوية على الأمن العام في الحكومات المستقلة الرسمية فله حديثه الخاص والدسم، نبدأ بالحديث عنه ما أمكن:
في عهد الدولة المملوكية؛ كانت القبيلة القوية هي التي تمتاز بالكثرة العددية والعلاقات الأفقية مع القبائل وكثرة خيولها وأسلحتها وفرسانها من الخيالة والمشاة، تحظى بعدة امتيازات ومنها الحراسة والإشراف على طرق التجارة والحصول على هدايا من الحكومة ومرتبات ويلقب شيخها بالأمير ويرفق اسمه بلقب رسمي في المخاطبات بينه وبين السلطنة مثل فخر الدين، تاج الدين، ركن الدين، سيف الدين، عز الدين، وما شابه وللقبيلة حصة من كتائبها وفرسانها تشارك في المعارك بطلب من السلطان ولها حصة في الغنائم، ولها حصة في الاقطاعات وغير ذلك من أمور أخرى.. ولهذه الأسباب كانت القبيلة والعشيرة تتسلط على السلطنة والجنود والقوافل من خلال عمليات السطو والنهب العلنية والسرية.
إلى أن تطورت الأمور والقضايا بين القبائل البدوية والمماليك في مرحلة من مراحل عمر السلطنة المملوكية وشاع العداء والكراهية والبغضاء بينهم وانطلقت المناوشات والمعارك والانتقامات هنا وهناك، وكانت القاعدة العريضة لهذا العداء بين البدو وبين سلاطين المماليك هو رؤية بعض المثقفين من علماء الفقه والشيوخ والأمراء بأن هؤلاء المماليك لا يجوز لهم البقاء في سدة الحكم كونهم من طبقات العبيد والرقيق الذين يباعوا في الأسواق وعدم تغلل الإسلام في قولبهم وكثرة أطماعهم في الاقطاعات وجمع الأموال والبحث عن الملذات واللهو والترف وكثرة الحروب التافهة بين النيابات والسلاطين والأمراء المماليك وصراعهم على النفوذ والسلطة، ومن هنا استنكفت القبائل على مناصرة قوات السلطنة المملوكية في حروبها الخارجية وتركتها تواجه مصيرها لوحدها في صراعها مع الأتراك..
وبدأت القبائل العربية تطور فكرها ورؤيتها ونظرتها لهذه الأحداث بعد الحروب الدامية والخسائر الفادحة التي خسرتها خلال حروبهم مع المماليك، فحين ظهر الأتراك كحكام جدد للبلاد كانت غالبية القبائل البدوية ترى اتخاذ موقف مغاير ومحايد عن هذه الحكومة ورفض مبدأ التجنيد والمشاركة في الحروب.. ولذلك ظهر دور جديد لهذه القبائل لعل أهم هذا الدور هو كثرة أعمال النهب والسطو والاحتماء بالصحراء، وكان دور القبائل يظهر واضحاً في زعزعة الأمن داخل المدن والمتصرفيات والسناجق الخاضعة لحكومة العصملي، حيث تكثر أعمال النهب والسطو على القلاع والمدن وسرقة المحال التجارية والقوافل والمحاصيل الغذائية، وتجريد الجنود من ملابسهم وسلاحهم في كمائن خاصة في أطراف المدن، وتجريد السياح الأجانب من أمتعتهم وأموالهم أيضاً.. وهذا يرجع لأسباب كثيرة وعديدة أهمها الفقر وضيق الحال والعداء والجفاء والجهل وكثرة التنافس والصراعات وغير ذلك من أمور أخرى..
وقد ظل البدو مقياساً لقوة السلطة العثمانية التي تحدده وتستنفره الظروف والأحوال الإقتصادية للبلاد، فالاهتراء الإداري والوهن العسكري والضمور الاقتصادي كان يعني بالطبع سعي القبائل البدوية لقطع الطرق ونهب المدن بل وتصل إلى حد الإعتداء على قوافل العساكر أنفسهم، مما أكسب العشائر والقبائل البدوية هيبة وسطوة حسب حسابها الحكام والقادة، وكان سرعان ما يتحالف الحكام والبشوات المعزولين من السناجق والقلاع والمتصرفيات مع البدو من أجل اعادة الاعتبار لهم، إذا أن العشائر في ذلك العهد جاهزة ومستعدة على الدوام للوثوب والهجوم على أي ممتلكات للحكومة العثمانية لذلك فهي تستغل أي فرصة تتيح لها الهجوم من أجل اكتساب المغانم التي تعتبرها بمثابة أرزاق وفيرة: من السلاح والذخائر والخيول والمؤن والمعادن الثمينة والأموال والملابس والأغطية..
ومن أجل ذلك كانت العشيرة في ماضي عهدها تسعى إلى زيادة عدد أفرادها لتحقيق توسعاتها وكثرة أرزاقها وحماية نفسها وسط مجتمع يتعامل مع الأحداث والتطورات وفق منطق القوة، فكانت بنت العم لابن عمها، وكان الزواج المبكر للشباب والفتيات، وكانت عملية الزحف والتوسع في ديمومة واستمرارية، ولكن بعد أن تم تطبيق عمليات التوطين والاستقرار وسيطرة واتساع دوائر الأمن لم تعد هذه الأمور ذات أهمية لأن الجميع أصبح تحت سيطرة قوى الأمن وأخذت أجهزة الدولة تتدخل لحماية الجميع وحفظ الأمن والسلم المجتمعي، حتى صار الفرد الواحد في غنى عن العشيرة والقبيلة ولم يعد هناك من يعمل خارج القانون والنظام العام، ولم يعد الزحف والتوسع العشائري موجوداً، بل أصبح كل شيء بثمن ..
ولم تعد العشائر في الوقت الحاضر مصدر مخل بالأمن، بل أصبحت في غالب الأوقات مصدر مساند للحكومات على ترسيخ وتعزيز الأمن والإستقرار وذلك وفق القوانين والإجراءات التي اتخذتها الدولة عبر مراحل زمنية طويلة، كما انخفضت إلى حد كبير أعمال الإخلال بالأمن، أو انقرضت بتاتاً، كما انتهت عصور وأزمنة الجرائم المتنوعة، حتى صار الفرد في غنى شبه كامل عن عشيرته وقبيلته والبقاء على بعض الأمور الشكلية والظاهرية والتي ليس لها في الحقيقة أهمية كبيرة..