عروبة فلسطين


فلسطين أرض عربية، وسكانها جميعاً عرب، وذلك منذ فجر تاريخها القديم، وعلى اختلاف أديانهم ولهجاتهم جميعاً هم عرب أقحاح، حيث انتشرت فيها الأديان القديمة أو الرسالات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية على التوالي بين أظهر قبائل العرب التي كانت معروفة آنذاك في شبه الجزيرة العربية، على اعتبار فلسطين " الشام الأولى" هي نفسها الحدود الشمالية لشبه الجزيرة العربية، وهي الأرض المباركة التي كانت أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين في وسطها، ممثلة بمدينة قدس الأقداس " بيت المقدس".
ومن بين القبائل العربية القديمة التي كان قد اعتنق جزءٌ منها الديانة اليهودية نذكر:
" بني طيء، وخزاعة، وبني الحارث بن سعد هذيم، وجهينة، وعوف بن عامر في بني أسد بن خزيمة[1]، ومن بني الحارث بن ثعلبة بن كعب بن عمرو مزيقاء، الذي منهم السموءال وقد أسلم، وقال ابن حزم في الجمهرة: بأن حمير كان على دين اليهود، وكثيرٌ من بني كندة[2]، وفي معجم قبائل العرب ذكر بأن اليهودية كانت موجودة عند بعض القبائل العربية منها بني علاق وبني كندة وبني الحارث بن كعب بطن من مذحج، وحمير، وفي عشائر العرب ذكر بأن في بلدة بني عامر 100 يهودي[3]، وهذه القبائل كانت ممتدة في بلاد الشام وبالأخص فلسطين، وقد كان منهم كهنة في العصر الجاهلي مثل الكاهن ابن السوداء من بني الحارث بن سعد هذيم وهو جد الشاعر العربي المسلم هدبة بن خشرم العذري[4]، وقد نزل وفد من قريش قبل الإسلام لقضاء أمر بينهم لدى كاهنة بني سعد هذيم، بمنطقة معان بالأردن[5] بالشام، وتعتبر قبائل حمير وقضاعة وسعد هذيم وجهينة من أول القبائل العربية القديمة نزولاً بأرض الشام[6]، وجميع ما ذكرناه آنفاً دليل بين على أن سكان فلسطين على اختلاف أديانهم هم عرب أقحاح.
وقد كانت الديانة اليهودية بالطبع أسبق من الديانة المسيحية، وبذلك فإن وجود العرب ببلاد الشام كان قبل ظهور الديانة المسيحية، والتي كان خلالها للعرب وجود ثابت وقوي ببلاد الشام، وقد سبق الإشارة إلى ذلك في فصول سابقة من هذا الكتاب، ولكن لا بأس سنعدد بعض القبائل العربية التي كانت في بلاد الشام عامة وفلسطين خاصة قبل سيطرة الرومان، ومن بين هذه القبائل:
" تنوخ، سليح، الغساسنة، لخم، كلب، بهراء، جذام، عاملة، تغلب، أياد، النمر، القين، جرم، بلي[7]، إضافة إلى القبائل المار ذكرها، وكانت جزء من هذه القبائل العربية تشارك دولة الروم في الحكم[8]، ويرجع تاريخ هذه القبائل العربية ببلاد الشام إلى زمن قديم يبعد عن ظهور الإسلام بنحو 2500 سنة[9]، أي بنحو 3900 سنة من الآن على الأقل، وهو تاريخ واضح وفي آثار الأرض والبلاد ما يؤكد بصمات الأمة العربية وقبائلها على أرض فلسطين.
ونحن في هذا السياق، لا ننكر وجود الديانة اليهودية في فلسطين، نعم قد كانت موجودة ولكن أهلها لم يكونوا من أعراق غير عربية، بل كانوا عرباً، ولم يكن على أرض فلسطين أعراق أو سلالات أخرى، وقد أمدتنا كتب التاريخ والسيرة بالكثير من أمثلة الجوار بين الديانات السماوية الثلاث في الأراضي العربية وخاصة بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية ومصر، بيد أن سكان هذه الديار هم عرب أقحاح وهي ملك للعرب دون سواهم، فأما السكان الحاليين لدولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، هم سكان وافدين جاءوا عن طريق الهجرة من دول أوربا وروسيا، منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.
وقد كان الطمع والاستعمار هما أهم دوافع هذه الهجرة المشؤومة إلى بلاد فلسطين العربية، والتي كانت عبر تاريخها الطويل، بلد عربي تحكمه قبائل بدوية.
ومن بين الأدلة والإثباتات الراسخة حول عروبة فلسطين، نذكر:
أن أول هجرة أو أول زحف وتمدد بشري يتحرك على وجه الأرض، كان من قلب شبه الجزيرة العربية، إلى بلاد الشام، متمثلة طبعاً بأول القبائل العربية عروبةً وكانت سنة 3500ق.م، وعلى هذا فإن وجود العرب في فلسطين يرجع لنحو خمسة آلاف سنة على الأقل[10]، وهذا ما يذهب إليه غالبية المؤرخين من العرب وغير العرب.
وقال بعض الباحثين، بأن قادة قوات النبي داوود عليه السلام وجيوشه، كانوا من أبناء القبائل العربية في أرض فلسطين[11]، ومن المعلوم بأن النبي داوود عليه السلام هو من ذرية النبي إسحاق بن النبي إبراهيم عليهما السلام، وكذلك النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام وهو من ذرية النبي إسماعيل بن النبي إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وجاء في القرآن الكريم أن سيدنا وابينا إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا بل كان حنيفاً مسلماً.
ومن المشهور تاريخياً ومن خلال النقوش وعلم الآثار، بأن فلسطين جزء من بلاد بني كنعان، وهي قبيلة عربية[12] هاجرت من شبه الجزيرة العربية، ومن الملاحظات القيمة في ذلك بأن هذا الاسم يأتي على وزن عدد من الأسماء العربية القديمة ومنها : " قحطان، عدنان، غسان، كنعان" وهي بلا شك جذور عربية لعدد ضخم من الشعوب العربية.
وكما هو معروف بأن كلمة بيت المقدس، من الأسماء التاريخية التي تطلق على أرض فلسطين، ومدينة القدس مدينة عربية تأسست على يد قبائل عربية، كانت تعمل في نقل وشحن السلع والبضائع التي تنقلها القوافل العربية على ظهور الإبل، وكانت هذه المدينة الشهيرة محطة لهذه القوافل، بناها العرب اليبوسيين[13]، وبني يبوس بطن من قبيلة بني كنعان.
إن المملكة اليهودية التي كانت في فلسطين زمن سيدنا داوود عليه السلام، كانت مملكة دينية وليست عرقية أو وحدة سياسية، وكان جميع أهل هذه الديانة هم من قبائل فلسطين العربية، ولم يكن بين ظهرانيهم روسياً أو بولندياً أو انجليزياً أو أسبانياً أو أوربياً وأثيوبياً، وإنما هؤلاء الأعراق المختلطة التي نراهم اليوم على أرض فلسطين قد وصلوا على ظهور الدبابات الإنجليزية منذ العام 1917م، والهجرات القسرية من أوربا في العام 1881م.
وقد كانت أرض فلسطين " الشام الأولى" منذ أول الخليقة جزء لا يتجزأ من أرض العرب، وهي عبارة عن الحد الشمالي لشبه الجزيرة العربية، وإني أرى بأن كتلتها الجيولوجية قد أزيحت كباقي كتل اليابسة، بسبب التغير الجيولوجي الكبير الذي أدى إلى تشكيل البحر الأحمر والبحر المتوسط بشكله الحالي، كما أن أرض فلسطين تقع في وسط الأنهار العربية ففي شرقها نهري دجلة والفرات، وفي غربها نهر النيل، وما بين هذين النهرين وجدت السلالة العربية النقية، وما بين هذين النهرين بعث الله الأنبياء والرسل، وما بين هذين النهرين أيضاً تقع أقدم الحضارات البشرية، كحضارة البابليين والآشوريين والكنعانيين والفراعنة وغيرهم، وتلك آثارهم ونقوشهم جاثمة فوق روابي هذه الديار باقية حتى اليوم.
ولعل أصدق الأقوال في هذه الأرض الفلسطينية، قول المؤرخ ظفر الإسلام خان:
" إن فلسطين، أرض صنعت التاريخ، وصنع فيها التاريخ، ويمكن أن يقال عن هذه الأرض.. حيث نضع أقدامنا فنحن إنما نمشي على التاريخ".
وأنا أقول أيضاً في ذلك:
" إن أرض فلسطين هي النقطة الأولى الذي انطلق منها تاريخ العرب وحضارته، فهي نفسها لؤلؤة الحضارة العربية، وهي جوهرة القبائل العربية، وهي التراب الذي جبل منه جهابذة العلم وعظماء القادة والملوك والأمراء العرب، ولا ننسى بأن النبي إسماعيل عليه السلام، الذي خرج من صلبه آخر الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم، قد ولد فوق ترابها، قبل أن يذهب إلى مكة المشرفة، وفوق أرض فلسطين ظهرت أعظم المعجزات الربانية، وهي بلا شك أرض الأنبياء والرسل.
أما بخصوص بداية الفتح العربي الإسلامي، في مطلع القرن السادس للميلاد، فلم يكن سوى حلقة جديدة من حلقات التطور التاريخي والحضاري للعرب، بدأ بظهور الديانة الإسلامية، وليس ببدء سلالة عربية جديدة، لأن القبائل العربية في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية كانت على علاقة اجتماعية وتجارية قبل ظهور الإسلام بعدة قرون وليس بضع سنوات، وعليه فإن فلسطين كانت مكتظة بسكانها العرب على مدار تاريخها، إلا أن الاحتلال الصليبي في القرن العاشر الميلادي كان سبباً كبيراً في هجرة معظم السكان والذين كانوا عبارة عن قبائل بدوية تقطن في بيوت الشعر، بسبب ما تعرضوا له من مجازر دامية على أيدي قوات الفرنجة، وقد أدت الحروب والغارات المتعاقبة التي كانت تحدث في هذه الديار بشكل مستمر إلى افراغ البلاد من سكانها، كما أدى الظلم العثماني طيلة 400 سنة، إلى حرمان المواطن العربي الفلسطيني من ملكيته لأرضه، ونزعه من سلاحه، وتدمير اقتصاده، حتى بات ضعيفاً أمام الهجمة الاستعمارية الضخمة التي وقعت في نهاية الحكم العثماني سنة 1917م.
الآثار القديمة في فلسطين تؤكد عروبتها
ومن الملفت للانتباه فيما عثر عليه من فتات القطع الأثرية الحجرية والفخارية والمعدنية، بأنها ترتبط شكلاً ونوعاً وحجماً بنظيراتها من الآثار المصرية القديمة، التي تعود إلى نحو 4000 سنة قبل الميلاد[14]، أي إلى نحو 6000 سنة من الآن, مما يعني وجود صلة اجتماعية وحضارية للسكان في تلك الحقبة القديمة.
كما أن موقع فلسطين الجغرافي، كان يحتل مكانة مهمة في التجارة العالمية التي كانت قائمة في عهد الحضارات العربية القديمة في جنوب شبه الجزيرة العربية، فكانت التجارة لا بد لها من المرور بجنوب فلسطين، قادمة من حضرموت واليمن ثم مكة والمدينة والبتراء، ثم مدينة غزة بالجنوب، فكانت منطقة جنوب فلسطين تجمع لجميع الطرق التجارية التي تربط حضارة مصر القديمة بالهند، وذلك قبل أن تعرف الطرق البحرية[15]، حيث أتوقع بأن هذه الطرق كانت هي النقطة الأولى التي بدأت فيها أول التجارة في العالم بأسره، ومنها انطلق التاريخ البشري.
ويقال أن أول الحضارات البشرية في فلسطين، كانت مرتبطة تماماً بحضارة جنوب شبه الجزيرة العربية، مثل دولة معين، ثم دولة سبأ[16]، وتؤكد جميع الدراسات والأبحاث القديمة والمعاصرة، بأن هذه النظرية دقيقة للغاية، وذلك لأن غالبية سكان فلسطين يعودون لسلالة سبأ، وأنا كباحث متابع لهذه الدراسات أرى بأن سكان فلسطين الأوائل هم نفسهم سكان شبه الجزيرة العربية، ولذلك وجد تطابق تام بين الآثار القديمة والمواقع الأثرية بين فلسطين ومصر واليمن، وقد دلت النقوش والكتابات القديمة على ذلك بوضوح تام، كما كانت مدينة غزة الواقعة على هامش الصحراء بجنوب فلسطين من أهم المدن التي كان السبأيون ينزلونها بقوافلهم التجارية[17]، حيث أثبتت الكتب القديمة هذه العلاقة بوضوح في عهد مملكة سيدنا سليمان عليه السلام وما حدث بينه وبين ملكة سبأ "بلقيس" في القرن التاسع قبل الميلاد، وهم جميعاً بالطبع سلالة واحدة.
لم تكن فلسطين في معزل عن محيطها العربي وعمقها البدوي طيلة فترات التاريخ، فقد أكدت جميع الأبحاث أن غالبية سكان فلسطين على هيئة قبائل بدوية تجوب الصحاري والقفار على ظهور الإبل والجياد، تتنقل من موقع لآخر بسبب الصراعات الدائرة بينهم على مناطق المياه والمراعي وطرق التجارة، إلى أن حققت بعض انتصارات القبائل حضارات محدودة المساحة، ظهرت فيها الزراعة وصناعة الأدوات الفخارية والحجرية وهي تلك البقع الأثرية التي لا تزال تظهر في مناطق متفرقة على ضفاف الأودية التي تقطع الصحاري انتهاء بمصباتها في البحر المتوسط مثل وادي غزة ووادي العريش، وبعض التلال التي اتخذت نقاط عسكرية للدفاع والحماية المطلوبة آنذاك، ومناطق التقاء طرق القوافل التجارية، ونجد مدينة البتراء المنحوتة في الصخر خير دليل على ما وصلت إليه الحضارة العربية البدوية من القوة والفن والهندسة، في عصر دولة الأنباط التي كانت مدينة غزة جزء من أملاكها إلى أن انتهت في عام 106م[18]، ويذكر أن الاسم الحالي "فلسطين" الذي أطلق على أرض كنعان قد ظهر لأول مرة سنة 70م[19]، أي قبل 2080 سنة من الآن، في حين أن الوجود العربي لهذه الأرض يعود لنحو 4000 سنة على أقل تقدير، ولذلك فإن صراع الحضارات القديمة وتعاقبها على بلادنا كان السبب وراء اندثار فصول هامة من تاريخ الحضارة العربية في هذه الديار، لتأتي بعد ذلك القوى الاستعمارية المعاصرة مطلقة العنان أمام الطامعين للهجوم المنظم على تاريخنا لتزييفه وتزويره وعلى خيراتنا لالتهامها وعلى أراضينا لتقطيعها دويلات ممزقة، حتى بات صاحب "الحق" هو الطاغية ولا مجال للضعيف وإن كان صاحب الحق سوى الانتحار البطيء، لكن هيهات أن يحدث هذا في أرض سحقت فوق ترابها قوى الطغيان العظمى في العالم.

[1] ( المحبر، ابن حبيب، ص390- ص391)
[2] ( جمهرة النسب، لابن حزم الأندلسي،....)
[3] ( عشائر العرب، النجدي، الدار العربية للموسوعات، ص22)
[4]  ( المحبر، ابن حبيب، المتوفي سنة 245هـ، ص 390)
[5] ( جامع الآثار في السير ومولد المختار، الدمشقي، ج2، ص55)
[6] ( عشائر الشام، أحمد وصفي زكريا، ص70، ط2)
[7] ( القبائل العربية في بلاد الشام في السياسة المملوكية، آمنة الذيابات، جامعة مؤتة، ص21)
[8] ( اتحاف الأعزة في تاريخ غزة، الطباع، م1، ق1، ص43)
[9] ( اتحاف الأعزة في تاريخ غزة، ص157)
[10]( تاريخ فلسطين القديم، ظفر الإسلام خان، ص24)
[11] ( تاريخ فلسطين القديم، المرجع السابق، ص26)
[12] ( تاريخ فلسطين القديم، المرجع السابق، ص26)
[13] ( فلسطين بين حقيقة اليهود وأكذوبة التلمود، أحمد سالم رحال، ط1، 2008م، ص114)
[14] ( غزة وقطاعها، سليم عرفات المبيض، ص51)
[15] ( تاريخ غزة، عارف العارف، ص10)
[16] ( تاريخ غزة، عارف العارف، ص11)
[17] ( تاريخ غزة، المرجع السابق نفسه)
[18] ( تاريخ فلسطين، البرغوثي و طوطح، ص23)
[19] ( تاريخ فلسطين القديم، ظفر الإسلام خان، ص18)
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

2 تعليقات

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

  1. جزاك الله خيراً وبارك الله فيك اخي الكريم

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا على مروركم الطيب أخي الكريم، كل الاحترام والمحبة لكم

      حذف
أحدث أقدم