أذية الجار من أسباب دخول النار(ج2)

الجار في الشعر العربي

وقد كان الشعراء المسلمون يتمدحون بكيفية كف الأذى عن جيرانهم، فيقول أبو جعفر العدوي :
شراء جارتي ستراً فضول لأنني جعلتُ جفوني ما حييت لها سترا
وما جارتي إلا كأمي وإنني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا
بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست محلاً منك وجهاً ولا شعرا
لا أنظر إلى الوجه ولا إلى الشعر.
وقال حاتم الطائي في القديم:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر
أي: قبل ما ينزل قدري لطعامي يكون قدر الجار نزل.

ما ضر جاراًً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر
حتى إذا ليس له باب لا يتضرر مني.

أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
وقال أحمد بن علي الحراني :
والجار لا تذكر كريمة بيته واغضب لابن الجار إن هو أغضبا
احفظ أمانته وكن عزاً له أبداً وعما ساءه متجنبا
كن ليناً للجار واحفظ حقه كرماً ولا تك للمجاور عقربا

أناس عرفوا قيمة الجوار

ويروى أن جاراً لـ ابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص .
جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص ؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص ، فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فكان الجار يباع قبل الدار، قالت امرأة فرعون: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً } [التحريم:11] عندك أولاً ثم بيتاً.
أين هؤلاء من أكثر جيران زماننا، الذي لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجراتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولاداً؟! قال بعض من بلي بجار السوء:
ألا من يشتري جاراً نئوماً بجار لا ينام ولا ينيم
ويلبس بالنهار ثياب نسك وشطر الليل شيطان رجيم
يقول: أريد جاراً ينام، فأنا جاري لا ينام بل يسعى في الشر.
قال علي بن أبي طالب للعباس : ما بقي من كرم إخوانك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وقال بعضهم:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني
إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً علمت أنهم من حلية الزمن
فالجيران خصوصاً في بلد الغربة، كهؤلاء الجيران الذين جاءوا من بلدان أخرى للعمل في هذه البلاد، أناس جاءوا من مصر و الشام و اليمن و أفريقيا و باكستان و الهند ومن غيرها، فما الذي يهون عليهم المعيشة في بلد الغربة؟ إن أهم شيء -في الحقيقة- يهون عليهم لهو الجار، إذا كان جاره طيباً ظن كأنه في وطنه، كما قال هذا الرجل:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم كأن دار اغترابي عندهم وطني
كأني أصبحت في وطني، بل يمكن أحسن، وهذا بسبب هؤلاء الجيران.
مما رأى من الخير أصبح مثل وطنه أو أحسن.

من أحكام الجوار

تعلق التزكية بالجار

وكذلك فإن مما يتعلق بالجوار من الأحكام، أن التزكية عند العلماء غير الشهادة، فالتزكية لها شروط، إذا أردت أن تزكي شخصاً، وانتبه لهؤلاء الذين يذهبون للمحكمة، يقول: احضر لنا شهوداً فيحضر مزكين، فما أسهل التساهل بقضية المزكين! يقول أهل العلم في التزكية: لابد للتزكية من أمرين زيادة على ما يشترط في الشاهد -أي: من العقل والضبط والعدالة .
إلخ- أحدهما: معرفة أسباب الجرح والتعديل؛ لأنه يشهد بهما، والأمر الثاني: خبرة باطن من يعدله أو يجرحه بصحبة أو جوار أو معاملة.
القاضي الذكي الفاهم إذا جاءته قضية تزكية -والتزكية مهمة- قال: أحضر لي أناساً من جيرانك يزكونك.
ولكن انظر الآن في المحكمة، يأتي بعض الناس في طرقات المحكمة، يقول: ماذا تريد؟ يقول: أريد مزكياً، يقول: وأنا أريد شاهداً، تعال أزكيك وأنت اشهد لي، سبحان الله! لا يعرفه، كيف يزكيه؟! لا يجوز، لابد أن يكون قد عايشه ورافقه وجاوره وسافر معه، وأمضى معه وقتاً طويلاً، وشاركه في مال أو في شيء، كيف يزكي شخصاً لا يعرف حقيقته؟! لا يجوز ذلك مطلقاً.
الزوجة في السكن بين جيران صالحين
وكذلك مما ذكر أيضاً في موضوع إسكان الزوجة، قالوا: إن من شروط شرعية المسكن الزوجي أن يقع بين جيران صالحين تأمن فيه الزوجة على نفسها.
أي: لو أن الزوج أسكن زوجته وسط أناس سيئين؛ فإن لها الحق أن تذهب إلى القاضي وتقول: ما سكني السكنى الشرعية، فالسكنى الشرعية يجب أن تكون بين أناس صالحين، هذا سكني وسط أناس سيئين، أنا لا آمن على نفسي، هذا زوجي إذا ذهب إلى العمل يضربون عليَّ الباب والهاتف، وهذا يناديني من الشباك، طبعاً إذا كانوا أهل فسق وهكذا.

عظم إثم الزنا بزوجة الجار

ولذلك كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الكبائر عند الله، ويتفاوت إثم الزنا ويعظم جرمه بحسب موارده، فالزنا بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنا بأجنبية أو بمن لا زوجة لها؛ لأن فيه انتهاكاً لحرمة الزوج وإفساداً لفراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه يدخل عليه ولد وليس من أولاده، سيضاف إلى نسبه، وهذا أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية، فإن كان زوجها جاراً انظم له سوء الجوار، وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق، لو كان الجار أخاً أو قريباً من الأقارب، وانظم إليه قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ) ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار، فإن كان الجار غائباً في طاعة الله والعبادة وطلب العلم والحج والجهاد؛ تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟ ) أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ يمكن يأخذها كلها، لأنه يقال: خذ ما تريد من حسناته، والناس محتاجون إلى حسنة واحدة.

أحقية الجار المحتاج بالصدقة وحقوق أخرى

ثم إن الجار المحتاج أولى بالصدقة، نص على ذلك العلماء، كما قالوا في مسألة الصلاة في المساجد: المسجد المجاور لك أولى لحرمة الجوار، ثم قالوا في مسألة انتشار الحريق إلى بيت الجار: إذا انتقل بتفريط، مثلاً: شخص أوقد شرارة في يوم عاصف، وهو يعلم أن الريح تنقل الشرر، فاحترق بيت الجار، فإنه يضمن ذلك.
ثم من أثر الجيرة في مسألة القرض، أن الإنسان المقرض لا يجوز له أن يقبل هدية من المقترض في فترة القرض، إلا إذا جرت العادة من قبل القرض بهدايا بينهما، وذكروا مثالاً للجيران، أي: يهدونا طعاماً نهديهم طعاماً، أنا اقترضت من جاري فأهديته فيجوز أن يقبل هديتي؛ لأن بيننا علاقات سابقة في الهدايا، لكن إذا ما كانت هناك علاقات سابقة ولا جوار، فلا يجوز أن يقبل أصلاً هدية ولا أن يأخذ المقرض من المقترض هدية في وقت القرض.
هذا ما تيسر ذكره مما يتعلق بالجيران.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بحقوق جيراننا، وأن يهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، وصلى الله على نبينا محمد.

المصدر: الكتاب : سلسلة الآداب الإسلامية
المؤلف : محمد صالح المنجد
مصدر الكتاب : دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 20 درسا]

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم