المسيحيون في الأردن في العهد العثماني



تعطي السجلات العثمانية المبكرة مع دخول العثمانيين لبلاد الشام، معلومات دقيقة للأرض وما عليها ضمن (دفاتر التحرير)، وقد تمت ترجمة بعضها إلى العربية، وهي مصدرنا الرئيسي هنا، وبناء على دفتر مفصل لواء عجلون رقم (970) فقد بلغ تعداد أهالي لواء عجلون، الذي يضم كل مناطق شرقي الأردن (6361) خانة أي أسرة، من بينها 355 خانة من المسيحيين ، ويضم لواء عجلون النواحي التالية: عجلون، السلط، علان، الكرك، الغور، الشوبك، وادي موسى، جبل بني حميدة، طوائف عربان اللواء.

توزعت الأسر المسيحية بين نواحي عجلون والسلط والكرك والشوبك، وكانت غالبيتها تقيم في عجلون والكرك، في حين تساوت الأعداد تقريباً بين السلط والشوبك، ويبدو أن الدولة لم تحص العزُاب (أي المجردين) من المسيحيين، لأنه لا يعقل ألا يكون هناك عُزاب بين هذه الأسر، في الوقت الذي بلغ فيه عدد العزاب بين المسلمين 288 مجرداً. ويلفت انتباهنا عند العودة إلى سجلات لواء عجلون في منتصف القرن 10هـ/ 16م، عند دخول العثمانيين أن قرية صخرا تضم 45 خانة من المسلمين واماماً واحداً و17 أسرة من المسيحيين، وأنهم ظلوا بنسبة متقاربة مع نهاية القرن ومطلع القرن السابع عشر، فيسجل دفتر طابو (99) أن أهالي صخرا كانوا 132 أسرة مسلمة و15 أسرة مسيحية. كذلك الحال مع قرية عبين، فقد ضمت في منتصف القرن 25 أسرة مسلمة و15 أسرة مسيحية، وبلغ عدد سكانها في أواخر القرن ومطلع القرن السابع عشر 12 أسرة مسلمة و10 أسر مسيحية، أما قرية عبلين في لواء عجلون فقد بلغ عدد أسرها من المسلمين في منتصف القرن 11 أسرة ومن المسيحيين 6 أسر، وانخفض العدد مع أواخر القرن إلى 4 أسر من المسلمين و6 أسر من المسيحيين.
وإذا انتقلنا إلى ناحية بني جهمة في لواء عجلون نجد أن قرية البارحة قرب اربد، كانت تضم مع مطلع القرن 34 أسرة من المسلمين و4 أسر من المسيحيين، إلا أن السجل لا يذكر أسر المسيحيين في منتصف القرن أو أواخره ولا يشير إلى هجرتهم، في حين كانت قرية حوارة تضم في مطلع القرن 26 أسرة من المسيحيين فقط، ولا يوجد فيها أي إشارة إلى وجود أسر من المسلمين. وفي ناحية بني كنانة ضمت أم قيس (مكيس) 21 أسرة من المسلمين و3 أسر من المسيحيين. وكان في عجلون في منتصف القرن أي سنة 970هـ/ 1538م، حسبما يشير دفتر مفصل لواء عجلون (رقم 970) الأسر المسيحية التالية: 9 أسر في عجلون، 11 أسرة في الربض، 19 أسرة في عنجرة، 21 أسرة في عين الجدّ العفيف، و19 أسرة في دايمه وأسرة واحدة في قرية عنبة و5 أسر في منصورة وادي سوف و3 أسر في عين جد القاضي، و29 أسرة في بقيع النصارى و6 أسر في مصلى شرف و8 أسر في وادي شوف، وهنا علينا أن نلاحظ أن أعداد الأسر سواء أكانت مسلمة أم مسيحية كان قليلاً.
أما السلط، فنجد فيها 10 أسر مسيحية فقط في هذه الفترة، ولا نجد إشارات إلى وجود أسر مسيحية في قرى السلط، وكان أكبر تعداد للمسيحيين هو في نفس قصبة الكرك، حيث بلغ 117 أسرة، وكان عدد أسر المسلمين 64 أسرة فقط. وفي كفر ربا (كثربا) الحالية 5 أسر مسيحية تقيم مع 110 أسر مسلمة، وأسرتان مسيحيتان في خنزيره من بين 60 أسرة مسلمة وسبع أسر في عين سيل بين 66 أسرة مسلمة، و12 أسرة في صرفا مع 214 أسرة مسلمة، في حين سكنت الشوبك 11 أسرة مسيحية مع 145 أسرة من المسلمين.
واستكمالاً للتصور الإحصائي الدقيق لأعداد الأسر المسيحية، سنتابع السجلات مع نهاية القرن السادس عشر الميلادي، حيث أورد دفتر مفصل (185) العائد للواء عجلون سنة1005هـ/ 1596م، الأعداد التالية (جدول رقم 2) للأسر المسيحية في كل لواء عجلون، وسنورد معها أعداد خانات المسلمين، لتكوين تصور تام للحراك السكاني في هذه المرحلة، ودلالات هذه المتغيرات، في فترة سادت فيها حالة من الأمن والاستقرار، وطبق فيها العثمانيون نظام التيمار الذي قسم بموجبه البلاد إلى اقطاعات يزرعها الأهالي في حماية التيماريين والفرسان (السباهيين).

عند إحصاء مجموع الأسر سنة 1596م، في كل لواء عجلون نجدها 5951 أسرة من بينها آنذاك 375 أسرة مسيحية أي ما يقارب 2250 فرداً، من بين ما يقرب من 35.700 نفر على وجه التقريب، باعتبار أن معدل أفراد الأسرة ستة أنفار، وهي نسبة توازي التعداد المتعارف عليه للمسيحيين في بلاد الشام عادة. والملحوظة الأكثر أهمية فضلاً عن الأعداد، أن غالبية الأهالي من المسيحيين كانوا يقطنون مع المسلمين في القرى، ولم ينفرد المسيحيون إلا في ثلاثة مواقع هي؛ دبين النصارى، مهرما، بقيع النصارى، ولم ترد إشارة إلى وجود حارات خاصة بالمسيحيين وانعزالهم بعيداً عن مجتمع القرية التي يعيشون فيها، ولا نلمح من تحليلنا للسجلات أي مؤشر على هجرة المسيحيين أو سكنهم بشكل متقارب، ولم يحدث تغيير حقيقي مع دخول العثمانيين وحكمهم البلاد، ولم تنقلب نسبة السكان أو تتغير، ولم تحدث هجرات تغير في الوضع التقليدي للأهالي في المنطقة.
مع كل هذه المعلومات الدقيقة، إلا أن الباحث لا يجد أمامه في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين سجلات وإحصاءات موازية، مما يضعف من متابعتنا للمنطقة وحراك الأهالي، لكن الدولة العثمانية واجهت حالة من التردي والضعف، فضعفت سلطتها على الأرض، وحلت سلطة القوى المحلية والمقاطعجية (الملتزمين) الذين أخذوا يجمعون الضرائب، وتزايدت سلطة العشائر البدوية على الأطراف الزراعية، فأصبح أهالي الأرياف أمام سطوة جديدة، تمثلت بعدم وجود رادع أمني يحد من جشع الملتزمين أو من هجوم العشائر البدوية في حركتها الموسمية المعروفة، وقد أدى هذا الأمر إلى حركات سكانية متعددة ترتبط بتوافر الأمن، فإذا افتقد الريف الأمن تكاتف أفراده، وهذا يعني أنه لا وجود لخلافات عقائدية أو دينية، وأن السلطة كانت هي العدو المشترك للفلاح المقهور الذي يقع تحت سطوة الملتزمين.
المسيحيون في القرن التاسع عشر الميلادي:
شهد هذا القرن مفصلين كبيرين في بلاد الشام: أولهما دخول قوات محمد علي باشا إلى بلاد الشام، وثانيهما بدء مرحلة التنظيمات العثمانية، وقد أديا إلى حدوث تغييرات جوهرية على وضع الأهالي عموماً، وعلى المسيحيين منهم بشكل خاص.
عندما دخلت قوات محمد علي باشا إلى بلاد الشام (1831- 1840م) حدث تغير جذري في الحياة الإدارية وفي نمط الحياة، ومع أننا نتحدث عن فترة زمنية بسيطة، إلا أنها تمثل مفصلاً خطيراً وحاسماً في حياة كل منطقة بلاد الشام، حيث نجح إبراهيم باشا (السرعسكر) في تحطيم القوى المحلية التقليدية، ووضع أساساً للحكم المدني المباشر، وبذر بذور المساواة السياسية والدينية دونما تمييز، وأقر نظام الانتخاب. ويبدو من مصادر المرحلة أن إدارة محمد علي باشا قربت العناصر المسيحية وأشركتها في الإدارة، ومنهم آل البحري، وتحديداً يوحنا بك البحري الذي عرف بمقدرته على إدارة الحسابات، ومنحه السرعسكر إبراهيم باشا لقب (بيك) ورقاه إلى رتبة (ميرلوا) وأصبح قريبه (الخواجا موسى) مسؤولاً عن الحسابات في منطقة شرقي الأردن، ويبدو أنه اتهم بالاختلاس، فنحّاه السرعسكر وسجنه. واستطاعت إدارة محمد علي باشا فرض هيبة الدولة، والحد من سطوة القوى البدوية على الفلاحين، وفرض التجنيد الإجباري، وتعمير القرى الخاربة، ومتابعة الضرائب وبقايا الضرائب، وضبط الأمور المالية ومنها الموازين والمكاييل والنقود، وضبط طريق الحج الشامي وإصلاح البرك ومنع التعدي على الحجاج. ومن البرك التي تم إصلاحها برك الجيزة والرمثا والقطرانة، ووضع مخافر على الطرق في شرقي الأردن، وتأمين المياه والمحطات. وأهم ما يميز فترة إدارته، منح الرهبان امتيازاً خفضّ بموجبه الضرائب عنهم. وقد ساندت إدارته طائفة الروم الأرثوذوكس من أهالي البلد، ضد تعدي الافرنج على حقوق النصارى الأرثوذوكس.وكلها أمور لها دلالاتها الكبيرة، ومنها أيضاً الاهتمام بالحجاج الأجانب إلى بيت المقدس، فقد أرسل إبراهيم باشا إلى المفتي والوالي في كل من القدس ونابلس طالباً منهما معاملة المسيحيين بالتسامح كما أرسل إلى قاضي القدس وشيخ الحرمين فيها، بضرورة تنفيذ أوامره إلى جميع المسلمين في أيالة صيدا وألوية القدس الشريف ونابلس وجنين، للعناية بالطرق التي يمر بها الحجاج المسيحيون القادمون من كل فج لزيارة المعابد والأديرة، وتذكر المصادر أيضاً أن إدارة محمد علي باشا عينت كتاباً مسيحيين في الجيش.
هذه المتغيرات التي أعطت للمسيحيين في بلاد الشام امتيازات، ساوت بينهم وبين المسلمين وغيرت من سياسة الدولة العثمانية، وأرست قواعد الحكم المدني المباشر الذي أكد على المساواة السياسية والدينية، وقد أدى هذا الأمر إلى إعطاء المسيحيين من أهالي بلاد الشام عموماً ومنهم أهالي شرقي الأردن، إحساساً بالانتعاش، وانعكس هذا الأمر على نشاطهم الاقتصادي، مما تسبب في الأحداث الدامية سنة 1860م، أي بعد خروج إبراهيم باشا بجيشه من بلاد الشام بعشرين عاماً بالتمام. يقول مصدر محلي معلقاً على عهد محمد علي باشا ببلاد الشام:
   (إن الله منّ بالفرج على البلاد الشامية بدخول إبراهيم باشا بن محمد علي باشا والي مصر إليها، فما لبث أن وصل حتى أمن الناس في الحال على أرواحهم وأموالهم، وعدل في قضاياهم، ونظم أمورهم، وسهل طرق المعيشة والراحة عليهم وكان ذلك أواسط سنة 1831م) ويضيف إلى ذلك قوله:
(إن حكم إبراهيم باشا هو عهد التنوير والإصلاح، فقد كان الذمي قبل أيامه لا يعد من الآدميين، فلما انتشرت راية العدل وعمّ الأمن وتساوى الناس أمام المحاكم، وظهرت القوة التي كانت كامنة في الصدور، خطا النصارى خطوات واسعة في ميدان الحضارة، ونشطوا إلى القيام بالأعمال الكبيرة).
تتفق المصادر المعاصرة على تراجع الأمن بعد انسحاب جيش إبراهيم باشا، الذي مرّ بأراضي شرقي الأردن، وانسحب منها إلى مصر، وقد انعكست كل هذه الأحداث على جنوبي بلاد الشام، فخضعت من جديد لسلطة والٍ عثماني ضعيف وعادت الإدارة العثمانية إلى تقسيماتها السابقة، وعاد (والي الإيالة) والمجلس وهو " مؤلف من بعض علماء المسلمين والوجهاء، وتنحصر مهامه في النظر بالأموال الأميرية ومال الجزية، وليس له وقت منظم للاجتماع، وأما القضاء، فيتم الفصل بالقضايا لدى القاضي باش ومركزه في بيت سراي الوالي، والأحكام الحقوقية تابعة للأحكام الشرعية، وتقوم كل طائفة بتسيير أحوالها الشخصية تبعاً لقواعد دينها" وهذا بالتأكيد سينعكس على الأهالي وعلاقتهم بالدولة من جديد.
أما المفصل الثاني في هذه المرحلة فهو بداية عهد التنظيمات الإصلاحية في الدولة العثمانية، ففي شهر تشرين الثاني عام 1839م، أصدر السلطان العثماني عبد المجيد بن محمود الثاني (1839- 1861م) مرسوم خط شريف كلخانه وهو مقدمة للدستور والإصلاحات، لأنه (منح فئة العموم الأمن على نفوسهم وأموالهم وأعرافهم ونواميسهم، بما يوافق أحكام الشرع الشريف المقدس واعتبر مقدمة للدستور، وقد تعهد المرسوم باحترام الحريات العامة والممتلكات وأمن الأفراد بغض النظر عن عقيدتهم أو قوميتهم، والتزم بالمحاكمة العلنية والتوزيع العادل للضرائب وطرق جبايتها، وتحديد فترة الخدمة العسكرية، وكانت أهم مواده مساواة المسلمين وغير المسلمين في المعاملة. وعند صدور المرسوم، علق محمد علي باشا عليه قائلاً: (في الاستانة يمكن تطبيقه بعد مئة سنة).
مراجع:
1- نوفل نعمة الله نوفل، حسر اللثام عن نكبات الشام (وفيه سجل أخبار الحرب الأهلية المعروفة بحوادث سنة 1860م) مع تمهيد في وصف البلاد الجغرافي والسياسي، ط. أولى، مصر سنة 1895هـ، ص45، نشر شاهين مكاريوس.
2- انظر ترجمة الخط الشريف السلطاني والقانون الأساسي، مطبعة الجوائب، الاستانة العلية بأمر الباب العالي سنة 1293هـ. (نسخة محفوظة في المجموعة الخاصة بالجامعة الأردنية) انظر ترجمته في: الدستور، ترجمة نوفل نعمة الله نوفل، مجلد1- 2، ص4، وانظر ترجمة رسالة عبد المجيد الثاني إلى مدحت باشا، مطبعة الجوائب، سنة 1293هـ/ 1876م، مكتبة الجامعة الأردنية، المجموعة الخاصة.
3- رسالة عبد الحميد الثاني إلى مدحت باشا، مطبعة الجوائب، سنة 1293هـ/ 1876م، المجموعة الخاصة، مكتبة الجامعة الأردنية.
4- أسد رستم، الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا (مجلد 1-2) الجامعة الأمريكية، بيروت، مجلد 1، ص36- ص37.
5- محمد عدنان البخيت ونوفان الحمود، دفتر مفصل لواء عجلون (رقم 970) منشورات الجامعة الأردنية، 1990م، عمان، ص14.
هناك مصادر متعددة
( الموضوع مقتطف ومنقول من الملفات المنشورة في شبكة الأنترنت)

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم