الملالحة في سواحل افريقيا الشمالية (ج1)

إن الأبحاث التاريخية التي تهدف إلى كشف الحقائق التي اندثرت تحت تراكمات الوقائع التاريخية والاجتماعية المتعاقبة في البلاد العربية، هي من الأمور المعقدة والمهام الصعبة، ومهما توصلنا لنتائج جديدة لا بأس بها، إلا أننا نبقى دائما نتطلع للمزيد منها، خصوصا في بلادنا العربية التي توالت عليها عواصف الزمن برياح عاتية، طمست أغلب ملامح تاريخنا العظيم..
وفي هذا البحث المصغر والمختصر توصلنا إلى أشياء جديدة، قمنا بمحاولة احيائها من جديد بشكل أكثر ترابط ووضوح، علَّنا نكون سبباً لمن يأتي خلفنا ويتتبع خطواتنا بالوصول إلى المزيد واظهار هذه المعلومات بشكل أكثر وضوحا مما هي عليه الآن، والله الموفق والمستعان..
الملاحة جمع ملاح، والملاحات جمع ملاحة، والملالحة جمع أيضاً لكلمة ملاحي، وفي اللغة العربية الملاح من يعمل في الملاحة البحرية وركوب البحر، والملاح أيضاً من يعمل في حرفة استخراج الملح من سواحل بحر الملح ( بحر الروم أو البحر المتوسط) أو أي موقع آخر، والملاح أي مليح الهيئة والشكل والكلام، والملاحة الموقع الذي يستخرج منه الملح، والملاحة قرية من قرى غرناطة في الأندلس كانت من القرى التي استوطنت فيها قبائل عربية منذ أيام الدولة الأموية..
وقبيلة الملالحة، قد تكون سميت بذلك نسبة للملاحة البحرية أو لحرفة استخراج الملح وتجارته، أو نسبة إلى أحد أجدادها "ملاح أو مليح".. واسم الملالحة أو ملالحة أو الملاح اسم واسع الانتشار في ربوع الوطن العربي في مشارقه ومغاربه، وفي هذا المقال سنتطرق إلى هذا الإسم في شمال افريقيا، وفق ما جمعناه من معلومات متناثرة ومتفرقة، لكي نضعها للقارئ والباحث المهتم.
الملالحة كجماعة وقوم أو طائفة جاء ذكرها باسم "الملحية" [1] في مغارب مصر في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله حوالي العام 442هـ كانت هذه الطائفة " القبيلة" تسكن في البحيرة وما حولها غرب النيل، وأنها كانت من القبائل التي خرجت على حكم الخليفة الفاطمي واعلنت العصيان ضده، مما دفعه باستحضار قوات من قبل قائده العسكري بدر الدين الجمالي من سواحل عكا لمحاربتهم في حوالي العام 467هـ [2] ويبدو ان هذه عبارة عن قوات اضافية، بالفعل تم مهاجمة جميع العربان في البر الشرقي والغربي على حد سواء للقضاء على حركة العصيان والتمرد ضد الخليفة الفاطمي، وقتل في هذه المعارك آلاف المقاتلين وشرد الباقين، في نفس هذه الفترة الزمنية كانت قبائل بني هلال وبني سليم غرب النيل، وحسب توقعاتنا يبدو أن قبيلة أو طائفة الملحية هذه قد اندمج جزء منها مع القبائل القيسية من بني هلال وبني سليم المتجهين للمغرب العربي، الأمر الذي يفسر وجود اسم الملالحة الأشراف في نفس المناطق التي وصلت إليها قبائل بني هلال وبني سليم في الشمال الافريقي، وهناك كانوا بدو تماماً أي بدو رحل، ولم يعرفوا التحضر أو التمدن، واستمروا فترات طويلة جدا على طابعهم البدوي، يمارسون حرفة رعي الإبل والأغنام والفروسية في سواحل تلك البلاد، ولا زال بعضهم حتى اليوم محتفظا بباديته ومتمسكاً بتراثه وثقافته..
حيث يذكر أغسطيني صاحب كتاب سكان ليبيا قبل 100 عام أن العرب الأشراف الحقيقين في سواحل ليبيا هم أشراف الملاحة وأشراف الوسط وأشراف النوفليين.. وغيرهم [3] وقال أن هؤلاء الأشراف في الأقسام الثلاثة : ( شرفاء الملالحة وغرود الملاحة وشرفاء الوسط) متفقون في رد أصلهم لجدهم عبد اللطيف بن عبد الله من فروع الأدارسة [4] ويبلغ عددهم التقريبي حوالي 12000 نسمة..
وهؤلاء الأشراف الأدارسة يعودون بنسبهم إلى (إدريس وسليمان ومحمد) من سلالة علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء..
ويطلق أحياناً عليهم اسم المرابطين، ويتواجد المرابطون هؤلاء في سواحل افريقيا وفي غرب مصر ومنهم عائلات نزلت في مدينة يافا بفلسطين وفي لبنان، ويتوزع منهم قبائل وفروع في قبيلة أولاد علي والسعادي من بني سليم في غرب مصر وليبيا..
كما أن هؤلاء الأشراف والمرابطين اختلط معهم أفراد من قبيلة بني هلال وخاصة من بني عامر (العوامر) ومن بني عامر أولاد معرف والعوامر الذين نزلوا ترهونة [5] وذكر أوغسطيني أن غرود الملالحة الأشراف يتشكلون من الهلالات والخليفات ويعتبرون قبيلة واحدة تشمل اللحمات التالية: جعافرة  ومراغمة والخشيبات والبنابنة والضيافات والعوامر والعثامنة، ويشكل أشراف الملالحة من عائلة ابن عمر والضواوي والمويسات (بن موسى) والسعايدة (بن سعيد) واليحيات (بن يحيى) والارياح والطرارمة (الاطرم) والحنيشات والقارات والقنادرة، ويشكل الزياتين والملالحة مع أولاد خليفة المقيمين بغرود الملالحة قبيلة شريفة نازحة من المغرب، وقد استقرت طبقا للروايات المحلية أولا في الزاوية ثم انتقلت إلى الساحل [6]
ومن قبائل السعادي في برقة قبيلة "الدرسة" وهم الأدراسة الذين اندمجوا مع قبيلة السعادي السليمية، وقد أدى تدافع وتنازع تلك الجموع الهائلة من القبائل العربية في الساحل الافريقي من غرب مصر وحتى تونس والجزائر، إلى تغير وتراجع واختلاط بين القبائل العربية وبين بعض سكان تلك الديار الذين اندمجوا معهم، ففي نهاية القرن 17 الميلادي حدثت حروب بين القبائل العربية أثرت على توزيعها الجغرافي من الغرب إلى الشرق وصولا إلى أعالي النيل والدلتا بمصر [7] كما تدخلت القوات العثمانية أيضاً بشن هجمات على القبائل في سواحل ليبيا مستعينة ببعض القبائل ضد الأخرى، مما أدى إلى انقسامات وتفكك للأحلاف والتشكليلات التي كانت سائدة، كما ظهر عقب ذلك تشكيلات جديدة للتكتلات القبلية، وقد انقرضت بعض الأسماء أيضاً، وتسارعت الأحداث في سواحل افريقيا بعد ذلك نتيجة الاستعمار الفرنسي والاستعمار الايطالي، فقد نزحت قبائل من المغرب العربي إلى المشرق ومثال ذلك قبيلة بني عامر التي ورد ذكرها في سجلات الهجرة عام 1835م والتي هاجر جزء منها نحو المشرق [8] وفي هذه الفترة هاجرت عائلات عديدة إلى مصر وفلسطين ممن يعود جذورها في الاصل إلى قبائل بني هلال وبني عامر وبني تميم وبني سليم والأشراف، ومن تلك العائلات نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
ابن ربيع وابن عطية وابن الحاج والجبالي وقد نزلوا في الاسكندرية، وعائلة علال والرماح والحنيني وعياد نزلوا في القاهرة، وعائلة غانم، وابن شداد وابن المهلهل نزلوا في القاهرة والاسكندرية [9] هذا مثالاً نستدل به على وقائع الهجرات الداخلية في الوطن العربي والتي استمرت على دفعات وفترات تاريخية متعددة وتحت عوامل عديدة..
وبالعودة إلى الأشراف في سواحل افريقيا، فقد كان لهم لباس يميزهم عن غيرهم، وأهم ما يلبسونه العمامة الخضراء، هذه العمامة كان يلبسها بعض أبناء قبيلة الملالحة قبل 100 سنة في وسط فلسطين، وخاصة بالقرب من قرية سيدنا علي حيث يوجد في القرية مقام "ضريح" له قبة مطلية بطلاء أخضر، ويعتقد أن قرية الملالحة في جنوب لبنان تعود جذورهم إلى سواحل افريقيا، كما أن رواياتهم تقول: أن نسبهم يعود إلى السيد يحيى الملاح المتصل نسبه إلى السيد عبيد الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وعائلة الملاحي في يافا وغزة منهم الشيخ الصالح ابراهيم الملاحي له مسجد ومزار في يافا [10]
والملالحة في المغرب العربي أيضاً أشراف ادارسة يعودون إلى السلالة التي تنحدر من ادريس الأول بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانت سلالة الأشراف الأدارسة احدى السلالات التي حكمت المغرب.
وفي طرابلس الشام كان العلامة الأديب الشيخ محي الدين أبو الفضل بن السيد حسن بن ابراهيم بن الشيخ محمد تقي الدين الشهير بالملاح.
وفي الجزائر ايضا توجد عائلة ملاح وهي من العائلات الكبيرة والمحافظة والمجاهدة منهم الشهيد علي ملاح الذي استشهد عام 1957م والذي كان يلقب بالعقيد سي الشريف، وهو من مواليد 1924م بولاية تيزي وزو، والشاعر علي محمد ملاحي من مواليد عين الدفلة، وتوجد عائلة الملاح في عدة أماكن بالجزائر مثل : (ولاية غليزان، والمدية، وتبسة، والجلفة وبشار ومستغانم ونواحي الداموس والارهاط وقوراية، وتيارت، وسعيدة وباتنة وغيرها)
أما الملالحة في تونس سنة 1900م منهم مشيخة الملالحة  (الملاله وأولاد ماضي) ومشيخة الملالحة في بلاد ورغمه واولاد ابو زيد تضم ( الجنادلة والجراري والصيودة والشواوطة والهيوات والطايش والقويات) وهم قبائل مختلطة من سكان تلك البلاد، ولسنا متأكدين من وجود روابط قربى تاريخية بين هذه العائلات جميعاً، لكننا لا نستبعد على الأقل وجود قواسم مشتركة نوعا ما بين بعض العائلات العربية التي تعود بالفعل إلى عرب القيسية ولكن ربما اندمج معهم آخرين من سكان تلك البلاد ففي نهاية المطاف تجمعهم الاخوة الإسلامية وتربطهم العادات والقيم الأخلاقية التي يعتبر العرب مدرستها الأولى في التاريخ..
وبحسب ما تبين من البحث الذي قام به فريق القافلة العربية للأبحاث التاريخية، أن الأشراف في بعض الأحيان يطلق عليهم "المرابطين" وهم قبائل كثيرة متفرقة في سواحل افريقيا ومصر، ومن قبائلهم قبيلة السمالو "السمالوس" وهي من القبائل القوية التي كانت دائما في حالة حرب، ويذكر أن هذه القبيلة عملت بتجارة الملح ونقله من بحيرات النطرون واستوطنوا منطقة الفيوم وكانوا يعيشون في حرب مع قبائل الضعفا والفرجان [11] وقبيلة السمالوس موجودة في مصر وفي منطقة تاجوراء على ساحل ليبيا، ويعتقد أن الساحل الليبي هو المهد الأول لها قبل زحفها إلى مصر..
أما قبيلة العوامر في ساحل ليبيا قبل 100 عام كان عددهم التقريبي نحو 200 نسمة، وهؤلاء هم الذين كانوا مع أشراف الملالحة، وهم يرجعون بنسبهم إلى بني عامر الزغبية الهلالية، ويضم العوامر معهم الصوالح وأولاد زواية [12] واخوانهم أولاد محرز " المحارزة" من فروع بني زغبة الهلالية كانوا معهم أيضاً، والمساعيد الذين معهم يعودون إلى أولاد سالم من بني دباب من قبيلة بني سليم، ومن بني عامر الزغبية هذه يتفرع منها بني مزروع والغريب وبني زغبة موجودة في الجزائر وفي مصر والشام وغيرها.
وكانت القبائل البدوية ينظرون إلى المرابطين نظرة خاصة فيها تبجيل وهيبة واحترام لما لهؤلاء المرابطين[13] من صلة بالمجاهدين الأوائل الذين كانوا يرابطون على الثغور، وكان البدوي يقول " تستور اهل الرباط" كما كانوا يقولون تستور يا اهل الصلاح، وتستور يا جدودي الصالحين، وتستور يا سيدنا علي، وهكذا انتخاءا بطلب البركة أو الشفاء، وهي عادات كانت معروفة عند البدو البسطاء قديما.
ونعود لتقصي أخبار الملالحة، فنجد أن بنو الملاح القرطبيون من مدينة قرطبة الشهيرة بالأندلس، ذكرهم ابن خلدون، وكانت عائلة غنية يعملون في سك العملة الإسلامية (الدينار والدرهم) وكانوا مشهورين بالأمانة والتدين، وفدوا على يغمراسن بولاية تلمسان الجزائرية، واهتموا بفلاحة الأرض فولى منهم على أشغاله عبد الرحمن بن محمد بن الملاح، وكانوا أصحاب دولة أبي حمو الأول عام 1307م الذي أضاف إليهم الحجابة، فتولاها محمد بن ميمون الملاح ثم ابنه محمد الأشقر، ثم ابنه ابراهيم، ومعه علي بن عبد الله بن الملاح، وكانوا من مشاهير رجال المال، وقتلوا مع أبي حمو سنة 718هـ [14] ويذكر أن قرطبة كانت مدينة عربية إسلامية قصبة الأندلس في زمانها كان قد نزلها من العرب القيسية من بني هوازن وبني سليم وبني كلاب بن ربيعة وقريش وبني أمية وقضاعة والأزد وغيرهم، كما يذكر أن بني الملاح كانوا في الأندلس قد حاولوا السيطرة على مدينة جيان وسط الأندلس، وذلك في مراحل ضعف الدولة الإسلامية، حيث تكونت بعض الامارات ممن خرجوا على السلطة واستقلوا بالنواحي، من العرب والبربر والمولدين، وكان زعيم بني الملاح في تلك الحقبة عمر الهنزولي الملاحي [15].
وابن الملاح في الشام شهاب الدّين أحمد بن محمد بن علي الرّملي ثم الدمشقي الشافعي، المتوفي سنة 923هـ، وكان على جانب كبير من العلم والدّيانة وصفاء القلب، إماما في القراءات، تولى مشيخة الإقراء بالمدرسة السيبائية والإمامة بها، وناب في إمامة الأموي مرات، وابن الملاح محمد بن علي بن مسعود الطرابلسي، وابراهيم بن سليمان بن أبي زرعة الملاح المصري، وهناك أسماء أخرى وجدناها تنتهي باسم الملاح كاسم عائلي أو لقب منسوب لملاحة البحرية أو غير ذلك.
...................................

المراجع والهوامش
[1] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج7، ص154
[2] المواعظ والاعتبار، المقريزي
[3] سكان ليبيا، أغسطيني، ص39
[4] المرجع السابق، ص85
[5] المرجع السابق ص33
[6] المرجع السابق ص 101- 102
[7] برقة ( القبائل البرقاوية وتفريعاتها) ص25
[8] مذكرة الهجرة الجزائرية، ص26
[9] البيوت المغربية في مصر العثمانية، د. حسام عبد المعطي، ص59
[10] اتحاف الاعزة بتاريخ غزة، الطباع، ج3، ص444
[11] العربان ودورهم في المجتمع المصري،إيمان عبد المنعم، ص58
[12] سكان ليبيا، مصدر سابق، 171
[13] قبائل العرب في مصر ، للدكتور عبد العظيم الفرجاني ص15
[14] تاريخ الجزائر في القديم والحديث، مبارك الجزائري، ص454
[15] تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، د. السامرائي وآخرون، ص127
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم