هلالي حكيم يصف الأهل والصديق

هلالي حكيم..||

حدثني أبو حامد العلوي، وكان من الحجاز، سنة 370هـ بمدينة السلام قال: رمى أعرابي من بني هلال عن حيه إلى أطراف الشام فقيل له: من خلفت وراءك؟ قال: خلفت والداً ووالدة، وأختاً، وابن عم، وبنت عم، وعشيقة، وصديقاً، قيل له: فكيف حنينك إليهم؟ قال: أشد حنين، قيل: فصفه لنا؟ قال: أما حنيني إلى والدي فللتعزز به، فإن الوالد عضد وركن يعاذ بهما، ويؤوى إليهما، وأما نزاعي إلى الوالدة فللشفقة المعهودة منها ولدعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله، وأما شوقي إلى الأخت فللصيانة لها، والتروح إليها، وأما شوقي إلى ابن العمم فللمكانفة له والانتصار به، وأما ابنة العم فلأنها لحم على وضم أتمنى أن أشبل عليها بالرقة، أو أصلها ببعض من يكون لها كفؤاً، ويكون لنا إلفاً، وأما صبابتي بالعشيق فذاك شيء أجده بالفطرة والارتياح الذي قلما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض، وفي المجون جواد راكض. وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك لأني أباثه بما أجل أبي عنه، وأجبأ من أمي فيه، وأطويه عن أختي خجلاً منها، وأداجي ابن عمي عليه خوفاً من حسد يفقأ ما بيني وبينه، وأكني عن بنت عمي بغيرها لأنها شقيقة ابن العم، ومعها نصف ما معه، وهي من الشجرة التي تلفنا عيصها، وتلتقي علينا أفنانها، ويجمعنا ظلها. فأما العشيقة فقصاري معها أن أشوب لها صدقاً بكذب، وغلظة بلين لأفوز منها بحظ من نظر، ونصيب من زيادة، وتحفة من حديث، وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني، وانتسابهم إلي دون الصديق الذي حريمي له مباح، وسارحي عنده مراح، أرى الدنيا بعينه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، إذا عززت به ذل لي، وإذا ذللت له عز بي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظاً للغيب، ولا يتراءى لي إلا ساتراً للعيب. قيل له: فهل نمى إليك خبره منذ بان عنك أثره؟ قال: نعم، لحقني بعض فتيان الحي أمس فسألته قرابتي وعشيرتي فنعت لي كلاً، وأطاب أخبارهم، حتى إذا سألته عن الصديق قال: ماله هجيري سواك، إن عبر فباسمك يستقل، وإن تنفس فبذكرك يقطع، وإذا أوى إلى ندوة الحي فبلسانك ينش وجودك يذكر، لا يمر بمعهد لك إلا حياه، ولا بمكان حله معك إلا تبواه، فقلت له: كف قليلاً فقد أججت في صدري ناراً كانت طافئة، وأبديت صبابة كانت خافية، وما أراني منتفعاً بالعيش دون أن أشخص إليه غير مبال بهذه الميرة والغيرة التي خرجت من جراهما.
المصدر:
الصداقة والصديق
المؤلف: أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفى: نحو 400هـ)
المحقق: الدكتور إبراهيم الكيلاني
الناشر: دار الفكر المعاصر - بيروت - لبنان، دار الفكر - دمشق - سورية
الطبعة: الأولى، 1419هـ - 1998 م
ص139
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم