قضية أصل الساميين وشبه جزيرة العرب


أصل الساميين وشبه جزيرة العرب

من 
كتاب العرب في العصور القديمة، لطفي عبد الوهاب، الناشر: دار المعرفة الجامعية الطبعة: الثانية عدد الصفحات: ٤٨٧

أصل الساميين

أ- ملاحظات مبدئية:

الحديث عن أصل عنصري واحد كأساس للتشابه أو التقارب الكبير بين الشعوب التي اصطلح الباحثون، خطأً أو صوابًا، على تسميتهم بالشعوب السامية يصبح، إذن، حديثًا غير وارد في ضوء الأدلة العلمية التي أسلفت الإشارة إليها. ولكن مع ذلك فيبقى التقارب اللغوي الكبير بينها، وهو أمر لا يمكن أن نسقطه من حسابنا، إذ هو يدل بدوره على تقارب كبير بين هذه الشعوب في صورة أو في أخرى، وهو تقارب يشير في رأي غالبية الباحثين إلى منطقة أولى أو موطن أصلي وجدت فيه مجموعة بشرية تتحدث لغة واحدة يمكن أن نطلق عليها "اللغة الأم" لكل اللغات السامية، ثم انطلقت جماعات من هذا الموطن الأصلي بشكل أو بآخر إلى بقية الأماكن التي ظهرت فيها في الفترة التاريخية الشعوب التي تتحدث باللغات السامية المنبثقة من هذه اللغة الأم.

ولنحاول الآن أن نناقش الآراء المختلفة في هذه القضية، وإن كنت أود قبل أن نقدم على هذه المناقشة أن أبادر بذكر تحفظين رئيسيين: أولهما هو أن الحديث عن موطن أصلي للغات السامية لا يفترض "بالضرورة" وجود مثل هذا الموطن الأصلي, وإنما هو في رأيي لا يعدو أن يكون "احتمالا" قد تثبت صحته وقد لا تثبت. ودليلي على هذا هو ما نلاحظه على مجموعة أخرى من اللغات المتشابهة أو المتقاربة, وهي مجموعة اللغات "الآرية" أو الهندوأوروبية" التي تنتشر في نطاق يمتد من شمالي شبه القارة الهندية إلى شمالي غرب شبه القارة الأوروبية, لا تعني بالضرورة موطنًا أصليًّا انتشرت منه أصول هذه اللغات وإنما قد تعني تدرجًا في التأثر نتيجة ظروف كثيرة أخرى.

أما التحفظ الثاني فهو أننا حتى إذا افترضنا وجود موطن أصلي لمجموعة بشرية كانت تتحدث اللغة السامية الأم, فإن انتشار هذه اللغة في المناطق المحيطة بها ليس معناه أن الجماعات التي حملتها معها أصبحت وحدها تشكل الشعوب السامية، وإنما كل ما هناك أنها نشرتها بين أقوام أخرى كانت موجودة في هذه المناطق وانتهت إلى اتخاذ هذه اللغة لسانًا لها لسبب أو لآخر بعد أن طبعتها بالتراث المحلي لمجتمعاتها وباحتياجات هذه المجتمعات وشتى ظروفها الأخرى. ومن هنا فإن حديثي عن الموطن الأصلي المفترض للساميين والأدلة التي تشير إليه سيكون من منطلق انتشار اللغة وليس من منطلق وحدة العنصر.

والافتراضات التي ظهرت حتى الآن متعددة ومتداخلة في كثير من الأحيان, ولكنها تقوم على أساسين: أولهما هو التشابهات اللغوية التي تظهر بين بعض المناطق وما قد يدعم هذه التشابهات من ظروف تاريخية أو جغرافية تشير، تقريرا أو احتمالا، إلى تحركات أو معاملات أو تأثيرات بين الجماعات البشرية, وترجح أن تكون هذه التحركات أو المعاملات أو التأثيرات قد اتخذت طريقا دون الآخر. أما الأساس الثاني فهو ما قدمته التوراة من حديث عن أبناء نوح "سام وحام ويافث" وعن الأماكن التي حلوا بها.

ب- افتراض أصلي إفريقي للساميين:

وأحد هذه الافتراضات الأساسية يرى أصحابه أن إفريقيا هي موطن الساميين. وهؤلاء يقدمون بين أدلتهم صلات لغوية تربط بدرجات متفاوتة بين الأحباش والعرب والبربر. ويرى بعضهم، بناء على هذه الصلات اللغوية والاعتبارات التاريخية والجغرافية التي يفترضون أنها تدعمها، أن شمالي غرب إفريقيا هو الموطن الأصلي للساميين ومنها انحدروا إلى شبه جزيرة العرب, بينما يرى البعض الآخر أن إفريقيا الشرقية تمثل الأصل المشترك بين الساميين

والحاميين وأن مجموعات من هذا الموطن الأصلي قد عبرت إلى شبه الجزيرة العربية عن طريق شبه جزيرة سيناء ومنها هبطوا إلى العربية الصخرية, في القسم الشمالي الغربي من شبه جزيرة العرب ثم إلى بقية شبه الجزيرة, أو عبرت مضايق الطرف الجنوبي للبحر الأحمر عند باب المندب إلى شبه الجزيرة، وأصحاب هذا الرأي الأخير يدعمون رأيهم بوجود عبادة الإله "ألمقه" في كل من الحبشة ومنطقة سبأ في العربية الجنوبية الغربية، كما يدعمونه كذلك بوجود تشابه بين الخط المسند الذي عرفت الكتابة به في كل من هاتين المنطقتين ثم ينتهي أصحاب هذا الافتراض الإفريقي إلى أن المجموعات التي استقرت في شبه الجزيرة العربية قد أكسبهم مكان إقامتهم الجديد خصائص جديدة ولكن هذه لم تتمكن من القضاء على الخصائص القديمة المشتركة التي لا تزال تشير إليها صلة التقارب بين اللغات الحامية واللغات السامية٩.

على أن هذا الافتراض الإفريقي للموطن الأصلي للساميين تعترضه بعض الصعوبات والاحتمالات التي قد تقلل من وقعه بعض الشيء. وعلى سبيل المثال فإن لغة البربر "على القسم الغربي من الساحل الإفريقي الشمالي" لا يمكن أن نؤكد أنها لغة محلية نقية، بل من المرجح أن يكون العكس هو الصحيح إذا أدخلنا في اعتبارنا أن قسما لا يستهان به من قبائل الوندال vandal الجرمانية التي أتت من أواسط أوروبا واخترقت حدود الإمبراطورية في الغرب لتستقر في شبه جزيرة أيبرية iberia "إسبانية والبرتغال في الوقت الحالي" بعد القرن الرابع الميلادي قد واصلت زحفها عبر المضيق "الذي عرف في العصر العربي باسم مضيق جبل طارق" ليستقر جزء منها في القسم الغربي من الشواطئ الإفريقية الشمالية. وقد كانت هذه القبائل التي عبرت إلى الشاطئ الإفريقي على قدر من العدد والقوة بحيث استطاعت أن تسقط الولاية الرومانية هناك وتقيم على أنقاضها مملكة خاصة بهذه القائل في ٤٢٩م١٠. ومثل هذا الزخم الاستقراري الاستيطاني يفترض تعاملا كثيفا، إن لم يكن اندماجا مع السكان الأصليين للبلاد، بما يستتبعه هذا من التأثير على لغة هؤلاء السكان أو على الأقل تفاعلًا معها.


هذا عن القسم الشمالي الغربي لإفريقيا, أما فيما يخص شرقي أفريقيا الذي يشير إلى الحبشة كموطن أصلي للساميين، فحقيقة: إن الصلة بين الحبشة وجنوبي غربي الجزيرة العربية تشجعها سهولة العبور بين الجانبين عبر مضيق باب المندب. وحقيقة: إن الأحداث التاريخية تؤكد هذه الصلة فيما نراه من احتلال الأحباش لمنطقة اليمن عدة مرات ربما كان أكثفها ما حدث في القسم الأول من القرن السادس الميلادي، بل أكثر من هذا لقد أقام عدد من الأحباش في اليمن حتى في غير أوقات الاحتلال الحبشي، بل إن هناك احتمالًا كبيرًا أن الأحباش كانت لهم مستوطنات في المنطقة١١، وهذا كله قد يشير إلى تأثير من جانب الحبشة على الجزيرة العربية على سبيل الترجيح طالما أن الحبشة هي الطرف القوي في هذا "الحوار" من الناحية العسكرية.

ولكن هذا الاتجاه مردود عليه, فإذا كان الغزو العسكري يحمل معه في بعض الأحيان تأثيرات الطرف الغازي، فإن هذا في حد ذاته لا يشكل في كثير من الأحوال قاعدة يمكن الاستناد إليها. ودليلنا على هذا أن الرومان غزوا بلاد اليونان والمناطق المتأثرة بالحضارة اليونانية على امتداد القرون الأخيرة قبل الميلاد, ومع ذلك فإن الحضارة اليونانية هي التي غزت الرومان طوال هذه القرون وبعد هذه القرون غزوًا يكاد يكون كاملا, سواء من جانب العلم أو الأدب أو الفلسفة أو المسرح أو الفن في كافة صوره، بل إنه رغم احتفاظ الرومان بلغتهم اللاتينية وتطويرها إلى مستوى النثر الفني والكتابة الفكرية الراقية إلا أن اللغة اليونانية بقيت رغم ذلك لغة الثقافة الأولى التي لا يستغني أديب أو خطيب أو مفكر أو سياسي روماني عن دراستها والتعمق فيها. والشيء ذاته يقال عن الفترة التي بدأت فيها الإمبراطورية الرومانية تترنح تحت ضربات القبائل الجرمانية المتبربرة القادمة من الشمال. لقد استمرت هذه الضربات نحو قرن من الزمان انتهت بسقوط روما "٤١٠م" ثم بإزاحة آخر الأباطرة الرومان عن العرش الروماني "٤٧٦م" وبقيام الممالك التي أسسها البرابرة قبل وبعد هذا التاريخ على أنقاض الإمبراطورية الرومانية، ولكن مع ذلك فإن الحضارة الرومانية هي التي غزت هذه الممالك ثقافة وفنًّا وتأثيرًا, لغة ودينًا١٢.


ومن هنا فالاحتمال قائم، فيما يخص سبأ والحبشة، أن الخط المسند قد يكون تأثيرا سبئيا على الحبشة وليس العكس، وأن التأثير اللغوي قد سار في الطريق ذاته، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن التأثير الديني الذي يرمز إليه الإله "إلْمَقَهْ" الذي لا يوجد من الأدلة القاطعة ما يثبت أنه كان بالضرورة حبشيا. كذلك فمن الأمور الواردة، إن لم يكن من الأمور المرجحة، أن يكون الأثر الذي تركته الديانتان اليهودية والمسيحية قد قرب ثقافة الحبشة من الثقافة السامية؛ ومن ثم أفسح الطريق أمام التأثير السامي في اللغة الحبشية..

ج- افتراضات أصل آسيوي للساميين:

هذا عن الافتراض الإفريقي للوطن الأصلي للشعوب السامية, على أن عددًا آخر من الباحثين في هذه القضية اتجهوا بأنظارهم صوب القارة الآسيوية محاولين أن يجدوا فيها البقعة التي تصلح في رأيهم أن تكون هذا الوطن الأصلي وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في تحديد هذه البقعة. وأحد هذه الآراء يرى صاحبه أن منطقة أرمينية هي أنسب المناطق في هذا الصدد. وهو يعتمد في رأيه هذا على قصة الطوفان كما جاءت في التوراة, ويرى أن أوصاف هذه المنطقة تتفق مع ما يمكن استنباطه مما جاء في التوراة. ولما كانت القصة تذكر أن نوحًا قد أخذ أسرته "بما فيها أبناؤه" في الفلك, فتكون الشعوب السامية والشعوب الآرية التي انحدرت من صلب هؤلاء الأبناء الذين عددتهم التوراة قد بدأت في أرمينية كموطن أصلي لها١٤.

ولكن هذا الرد تعترضه في رأيي صعوبتان: إحداهما هي أن قصة الطوفان لم يقتصر ورودها على التوراة كجزء من التراث العبري أو اليهودي. ولكنها ترك كذلك في تراث عدد كبير من الشعوب سواء في الفترة التي تسبق التوراة أو تلك التي تليها، وفي منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق في أرجاء مختلفة من العالم إذ هي تشير، احتمالًا، إلى الأمطار الغزيرة التي هطلت في دهر في عصر البلايستوسين، آخر العصور الجيولوجية، في المناطق المدارية في حقبة ما قبل التاريخ، واحتفظت بها الشعوب في ذاكرتها عبر الرواية من جيل لجيل حتى عبروا عنها كتابةً، كلٌّ بتصوره الخاص ومن هنا فإنه يوجد أكثر من مكان مناسب لهذه القصة حسب تصور كل شعب، والصعوبة الثانية، وهي امتداد للأولى, أن قصة الطوفان كما وردت في التوراة تأخذ هيكلها العام وأكثر تفاصيلها عن قصة الطوفان كما وردت في أساطير وادي الرافدين. وقصة الطوفان في وادي الرافدين سواء في ذلك روايتها السومرية أو البابلية أو روايتها كما وردت في ملحمة جلجامش تذكر أماكن في وادي الرافدين مثل مدينة أوروك uruk "الوركاء حاليا" ومدينة شورباك shuruppak "تل فاره حاليا" وكلتاهما تقعان في جنوبي وادي الرافدين، كما تحدد مكانًا في وادي الرافدين كذلك للجبل الذي وصلت إليه سفينة نوح، وهو جبل نيسير nisir الذي يحدده الباحثون عادة بجبل بير عمر كودرون الذي يقع جنوبي نهر الزاب الصغير "أحد روافد نهر دجلة" في سلسلة جبال زاجروس التي تمتد بطول المنطقة الشرقية لوادي الرافدين من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي١٥.


وإلى جانب هذا الرأي هناك رأي آخر يدخل كذلك ضمن الافتراض الآسيوي للموطن الأصلي للشعوب السامية, وأصحاب هذا الرأي الآخر يحاولون أن ينفذوا إلى اختيارهم لهذا الموطن الأصلي من طريق أخرى, فهم يلاحظون أن الجمل قد لازم الشعوب السامية منذ فجر تاريخهم, ولما كان الموطن الأصلي للجمل هو هضبة آسيا الوسطى أو المنطقة الواقعة إلى جنوب وجنوب شرقي بحر قزوين؛ فقد انطلقت الشعوب السامية إذًا من إحدى هاتين المنطقتين مرورًا بإيران والمناطق الآهلة بالشعوب الهندوأوروبية حتى وصلوا إلى بابل في القسم الجنوبي من وادي الرافدين ومن هناك كان تفرعهم إلى بقية أرجاء المنطقة التي استقرت فيها الشعوب السامية بصفة نهائية. وقد أيد هؤلاء رأيهم بشاهد لغوي مؤداه أن اللغات السامية يشترك أغلبها في عدد ملحوظ من الألفاظ الدالة على مسميات تتصل بأنواع من النباتات والحيوانات وجوانب العمران، وأنه بتحليل هذه الألفاظ وبمقارنتها وتتبعها بغية التوصل إلى أقدم المناطق التي ظهرت فيها المسميات التي نشير إليها, نجد أن هذه المسميات من صميم المنطقة التي تقع فيها بابل١٦.

وقد وجه إلى هذا الرأي ردان: أحدهما هو أنه لم يثبت ثبوتا علميا قاطعا أن المسميات التي تشير إليها الألفاظ المذكورة وجدت في إقليم بابل قبل غيره من المناطق التي عاشت فيها الشعوب السامية. هذا بالإضافة إلى أن عددا آخر من الألفاظ الدالة على مسميات أكثر التصاقا بحياة هذه الشعوب، لم تشترك فيها اللغات السامية مع أن هذا الاشتراك، إذا نظرنا من وجهة نظر لغوية صرفة، يصبح أمرا واردا ومنتظرا١٧، أما الرد الآخر فهو أن أية تحركات أو هجرات بشرية بغية الاستقرار تتجه بالضرورة من المناطق المقفرة إلى المناطق الخصبة وليس العكس١٨، ومن ثم فمن غير الممكن أن تكون الهجرات السامية قد انتقلت من جنوبي العراق، وهي منطقة على جانب كبير من الخصوبة، إلى مناطق صحراوية مثل شبه جزيرة العرب أو شبه صحراوية مثل المنطقة السورية.

وأود أن أؤيد هذا الرد الأخير بمثال من الحضارة السومرية التي ظهرت في جنوبي وادي الرافدين في الفترة المبكرة من تاريخ هذه المنطقة. إن قائمة ملوك سومر التي ترك لنا فيها السومريون تصورهم عن أسماء السلالات والملوك الذين حكموا المنطقة والمدن التي حكموا فيها، يمكن أن نستنتج منها أن مجموعات سامية كانت في حركة مستمرة ومتزايدة من المنطقة الصحراوية التي تلي وادي الرافدين غربا، أو على الأقل من المنطقة الرعوية التي تقع فيها هذه الحدود، إلى المنطقة الخصبة التي تقع في جنوبي الوادي. والدليل على ذلك أن القائمة المذكورة تظهر فيها بعض الأسماء السامية في الفترة الأولى من العصر السومري ولكن عددها قليل بالنسبة لعدد الملوك ذوي الأسماء السومرية، بينما نجد الأسماء السامية يزيد عددها في الفترة اللاحقة من هذا العصر، كما يظهر على سبيل المثال من أسماء ملوك مدينة كيش "الأحيمر حاليا" الذين بلغ عددهم ٢٣ ملكًا. فإذا أغفلنا اسما واحدا من هذه الأسماء "لم يستطع الناسخون القدماء أن يقرءوه جليا من الألواح الطينية التي سجلت عليها الأسماء" ليصبح عدد الأسماء الثابتة هو ٢٢, وجدناها تضم ١٢ اسما من أصل سامي وستة أسماء سومرية وأربعة أسماء لا يمكن تحديد أصلها. وهذه الزيادة المندرجة تشير في رأيي إلى هجرات سامية من خارج المنطقة الخصبة في جنوبي وادي الرافدين بدأت على هيئة مجموعات قليلة تثبت أقدامها في المنطقة بدليل وصول عدد من زعمائهم إلى حكم البلاد، ثم زادت أعداد هذه المجموعات حتى أصبحت تشكل أغلبية في السكان أو أغلبية في السيطرة على موارد الإنتاج, أدت إلى أن تكون أغلبية ملوك المدينة أو الدويلة المذكورة من بين زعمائهم١٩.

د- حول أصل الساميين وشبه جزيرة العرب:

هذا فيما يخص منطقة بابل في جنوبي وادي الرافدين كموطن أصلي انطلقت منه الشعوب السامية إلى الأماكن التي استقرت فيها في العصور التاريخية. وقد رأينا الصعوبات التي تقف في طريق أصحاب هذا الرأي بعد أن رأينا صعوبات من نوع آخر تعترض الرأي الذي يجد في منطقة أرمينية أنسب مكان للموطن الأصلي لهذه الشعوب. على أن رأيا ثالثا ضمن الافتراض الآسيوي لأصل الشعوب السامية استحوذ ولا يزال يستحوذ على مناقشات الباحثين بشكل موسع حتى الآن، وهو الرأي الذي يجد أصحابه أن شبه جزيرة العرب "بما فيها الصحراء السورية التي تشكل تخومها الشمالية" هي الموطن الأصلي للساميين.

وموجز ما توصل إليه أصحاب هذا الرأي هو أن شبه جزيرة العرب لم تكن منطقة صحراوية جافة في كل عصورها القديمة، فقد تعرضت لهطول أمطار غزيرة طوال عصر البلايستوسين "آخر العصور الجيولوجية" شأنها في ذلك شأن بقية المناطق المدارية "على الأقل في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية" وأنها كانت نتيجة لذلك منطقة تغطيها الغابات والنباتات والأعشاب, وتسكنها المجموعات البشرية على امتداد مساحتها. ولكن العصر البلايستوسيني انتهى بأمطاره حوالي ١٠.٠٠٠ق. م. وبدأ الجفاف يزحف على المنطقة لتحل محل هذه المناطق الخضراء المأهولة بالسكان امتدادات صحراوية جافة مجدبة "إلا حيث وجدت الأنهار التي نحتت لها مجرى واستقرت عليه مثل نهر النيل ونهري دجلة والفرات" وكانت شبه الجزيرة العربية إحدى هذه الامتدادات. وقد كانت نتيجة ذلك, في رأي هؤلاء الباحثين، أن موارد الغذاء من النبات والحيوان بدأت تتضاءل بالتدريج بحث اضطر سكان المنطقة إلى أن ينزحوا منها بالتدريج كذلك كلما زحف الجفاف والإجداب على هذه الموارد, الأمر الذي أدى إلى موجات متتالية من الهجرات البشرية من شبه الجزيرة العربية إلى المناطق الخصبة أو الأقل جفافا والتي كانت تقع على تخومها، وهي هجرات كانت آخرها، حسبما رأى بعض هؤلاء الباحثين, هي الهجرة العربية التي تمت في أعقاب الفتوح العربية الإسلامية في القرن السابع م. وقد استقرت هذه الهجرات في المناطق التي وصلت إليها بعد أن حملت معها لغتها، وكانت النتيجة هي هذه الشعوب السامية المتعددة التي تتقارب لغاتها إلى حد كبير سواء في ألفاظها أو في طريقة تركيب الألفاظ أو تصريفها٢٠.

وقد رتب أصحاب هذا الرأي هذه الهجرات، استنادا إلى ما استنتجوه من الشواهد التاريخية، بحيث كانت تفصل بين كل هجرة والتي تليها فترة تطول أو تقصر، هي الفترة اللازمة لكي يزيد عدد السكان عن موارد البلاد المتعرضة للجفاف والتراجع بالقدر الذي يدفع جماعات منها إلى الهجرة بحثًا عن موارد جديدة خارج المنطقة، ويمكن وضع صورة الهجرات التي توصلوا إلى ترتيبها على النحو التالي:

١- الأكديون, وقد استقروا في وادي الرافدين في الألف الرابعة. ق.م.

٢- الكنعانيون "بما فيهم الفينيقيون والآموريُّون" وقد استقروا في المنطقة السورية ووادي الرافدين خلال الألفين الثالثة والثانية ق. م.

٣- الآراميون, وقد استقروا في كل مناطق الهلال الخصيب، والعبرانيون الذين استقروا في المنطقة السورية في النصف الثاني من الألف الثانية ق. م.

٤- الأنباط وبعض القبائل العربية الجاهلية, وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب بين القرن الثاني ق. م. والقرن السادس م.

٥- العرب المسلمون, وقد استقروا في منطقة الهلال الخصيب ومصر وبقية شمال إفريقيا منذ القرن السابع الميلادي.

ويدعم أصحاب هذا الرأي القائل بموجات كبيرة شبه منتظمة من الهجرات, انطلقت من شبه الجزيرة العربية نتيجة للجفاف الذي حل بها "بعد أن كانت منطقة خضراء مأهولة بالسكان" بعدد من الملاحظات الصحراوية في شبه الجزيرة من القواقع المتحجرة أو التي جفت والتي لا تعيش إلا في المياه العذبة، ومن بقايا عظام وأدوات حجرية ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ مما يشير إلى وجود الماء والحياة في هذه المناطق الصحراوية في الماضي البعيد. ومن بينها عدد من الوديان الجافة في الوقت الحاضر مثل وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي السرحان التي ربما كانت قبل ذلك وديان أنهار جفت بعد تراجع عصر الأمطار. ومن بينها كذلك أن عددًا من الحيوانات والأشجار التي كانت معروفة في شبه الجزيرة والتي أوردها الكتاب الكلاسيكيون "اليونان والرومان، ٥٠٠ ق. م -٥٠٠م تقريبا" أو الكتاب العرب, ولكنها قلت أو اندثرت في الوقت الحاضر, وهو أمر يدعم نظرية استمرار الجفاف؛ ومن ثم زحف الإقفار على المنطقة حتى في العصور التاريخية٢١.

وقد انقسم أصحاب هذا الرأي حول تحديد المكان الذي انطلقت منه هذه الهجرات من شبه الجزيرة العربية, فقال بعضهم: إن وسط شبه الجزيرة وبخاصة منطقة نجد، هي الموطن الأول الذي انطلقت منه الهجرات السامية إلى حيث استقرت في العصور التاريخية, ويرى هؤلاء أن هذه المنطقة تمثل الصفات الأساسية التي تجمع بين الشعوب السامية خير تمثيل؛ ومن ثم فهي أنسب من غيرها من المناطق لكي تكون موطنا أصليا لهذه الشعوب٢٢, غير أن ضعف هذا الافتراض يبدو واضحًا في جانبين: الجانب الأول: هو أن منطقة نجد تفتقر كثيرا إلى أسباب الحياة التي تؤدي إلى تكاثر السكان وتضخم عددهم بالصورة التي تجعها خزانا بشريا لا يلبث أن يفيض بما فيه من هؤلاء السكان فينطلقون منه في موجات مهاجرة متعاقبة, فالمنطقة لا يوجد فيها إلا عدد قليل من الواحات المتناثرة وسط ساحات كبيرة مقفرة, كذلك فإن قيام هجرات من هذه المنطقة إلى أطراف شبه الجزيرة في الشمال والجنوب والشرق والغرب "كما يرى أصحاب هذا الرأي" تلزمه دابة نقل مثل الجمل الذي يستطيع أن ينقل أحمالًا ثقيلة لمسافات طويلة في الأرض الرملية وفي الجو الحار الجاف في ظروف قد تنقطع فيها المياه أيامًا متعاقبة. وفي هذا المجال فإن الجمل لم يظهر في مناطق الشعوب السامية إلا منذ القرن الثاني عشر ق. م. أما دابة النقل التي عرفتها المنطقة قبل ذلك فهي الحمار الذي لا يصلح إلا لنقل أحمال محدودة لمسافات محدودة٢٣.

أما القسم الآخر من أصحاب نظرية الهجرات المنظمة من شبه الجزيرة العربية فيرون أن اليمن هي الموطن الذي انطلقت منه الهجرات السامية. ودليلهم في ذلك أن إله القمر الذي عرفه اليمنيون ظهر كذلك بين بعض الشعوب السامية الأخرى، كما يرون أن الخط المسند الذي عرف في اليمن هو الذي اشتقت منه سائر الخطوط التي كتبت بها الشعوب السامية الأخرى ومنها الخط الفينيقي٢٤. على أن هذا الرأي يعتوره عدد من نقاط الضعف, ومن بين هذه النقاط أن اليمن ظل لفترة طويلة منطقة خصبة مستقرة, ودليلنا على هذا الاستقرار ما وصل إليه سكانه من مستوى حضاري مزدهر في عصوره السابقة للإسلام، وهو مستوى ظهر في أكثر من جانب, سواء في ذلك بناء السدود أو تنظيم الري والزراعة أو الطرز المعمارية أو انتشار العملة ورسوخها أو العلاقات السياسية الخارجية. وإذا كان اليمن قد ظهرت فيه بعض الاضطهادات أو الاضطرابات أو حتى بعض التراخي الحضاري في فترة أو أخرى من فترات تاريخه، فإن هذا لا يكفي لأن يدفع بسكانه إلى هجرات كبيرة منتظمة أو شبه منتظمة إلى خارج البلاد.

كذلك فإن انتقال عبادة إله القمر من اليمن إلى بعض الشعوب السامية لا يعني بالضرورة هجرات بشرية حملت معها هذه العبادة إلى مناطق أخرى. فهناك عقائد وعبادات قديمة انتقلت وانتشرت خارج المناطق التي ظهرت فيها دون هجرات على الإطلاق، مثل عبادة الإله آمون المصري التي عرفت طريقها إلى بلاد اليونان، ومثل الآلهة إيزيس المصرية التي انتشرت عبادتها في العالم اليوناني الروماني وكان لها معبد في روما، دون أن يستلزم هذا هجرات مصرية تنقل عبادة الإلهين إلى هذه البلاد٢٥, وما يقال عن هاتين العبادتين يصدق على غيرهما، فالعقيدة المسيحية انتشرت على امتداد الإمبراطورية الرومانية دون أن يستدعي هذا هجرة بشرية من فلسطين، بل لقد انتشرت هذه العقيدة رغم محاربة الأباطرة الرومان لها ورغم اضطهادهم لكل من كان يعتنقها وهو اضطهاد وصل إلى درجة المذابح الجماعية المنظمة كما حدث في روما على عهد الإمبراطور نيرون "٥٤م - ٦٨م" وكما حدث في الأسكندرية على عهد الإمبراطور دقلديانوس "٢٨٤م- ٣٠٥م"٢٦. أما اشتقاق الخط العربي الشمالي أو الخط الفينيقي من الخط المسند فهو أمر لا يزال غير ثابت حتى الآن، وحتى على افتراض احتماله فإن انتقاله من جنوبي الجزيرة إلى شماليها لا يستلزم بدوره أية هجرات بالضرورة، بل إن انتقاله عبر المعاملات التجارية هو أمر طبيعي ووارد.

أما القسم الثالث من أقسام شبه الجزيرة الذي اتجهت إليه أنظار بعض الباحثين ليروا فيه الموطن للهجرات السامية فهو منطقة البحرين في شرقي الجزيرة. وقد أقام هؤلاء رأيهم على بعض الدراسات التي قد تثبت أن الفينيقيين "وهم فرع من الكنعانيين، أحد الشعوب السامية" قد هاجروا إلى المدن الفينيقية من هذه المنطقة. ونحن نستطيع أن نزيد على هذه الدراسات، تأييدا للصلة بين منطقة البحرين والفينيقيين، نصا واستنتاجا، أما النص فهو للرحالة المؤرخ الجغرافي اليوناني سترابون strabo الذي كتب في أواخر القرن الأول ق. م. وأوائل القرن الأول الميلادي، وفيه يتحدث عن الخليج الذي تطل عليه منطقة البحرين فيشير فيه إلى جزيرتين هما: أرادوس arados وصور tyros ويحدثنا أن بهاتين الجزيرتين معابد تشبه معابد الفينيقيين وأن أهل الجزيرتين يؤكدون أن المدن والجزر الفينيقية التي تحمل هذين الاسمين "يشير إلى ميناء إرواد وإلى ميناء صور التي كانت في أصلها جزيرة ربط الفينيقيون بينها وبين الساحل السوري" هي مستوطنات لهم "أي لأهل جزيرتي الخليج"٢٧. وأما الاستنتاج فهو أن الفينيقيين حين ظهروا لأول مرة على مسرح التاريخ في مدنهم على الساحل السوري، ظهروا كملاحين مهرة دون أن نعرفهم في فترة بدائية فيها فن الملاحة وتدربوا عليه حتى وصلوا إلى درجة الصقل والإجادة -وهذا يرجح، استنتاجين: أنهم لا بد وقد مروا بهذه المرحلة التمهيدية على شواطئ أخرى قبل وصولهم إلى الشاطيء السوري. ومن هنا، وفي ضوء النص الذي أورده سترابون, تبرز منطقة البحرين كموطن أصلي محتمل هاجر منه الفينيقيون إلى الشاطئ السوري.

كذلك فأود أن أشير فيما يخص منطقة البحرين أن علاقات حضارية قديمة وجدت بينها وبين وادي الرافدين في الفترة المعاصرة لثقافة العُبَيْد "٤٠٠٠ - ٣٣٠٠ ق. م." وللحضارة السومرية في عصر فجر السلالات السومرية "٢٧٥٠ - ٢٣٠٠ ق. م" يدل على ذلك قدر لا بأس به من الآثار التي كشف عنها المنقبون الأثريون, من بينها قطع من الفخار المصنوع والمزخرف على النمط العبيدي والمعاصر لثقافة العبيد في وادي الرافدين عثر عليها في موقع الدوسرية على الشاطئ الغربي للخليج العربي "جنوبي الجبيل".

ومن بينهاكذلك تمثال يشبه التماثيل السومرية في جزيرة تاروت الواقعة على الخليج العربي مما يلي واحة القطيف٢٨. وفي مجال التأثير والتأثر الحضاري بين هذه المنطقة وبين وادي الرافدين, يصبح احتمال التأثير من منطقة البحرين على وادي الرافدين احتمالا واردا تماما مثل الاحتمال المعاكس طالما أن الدليل القاطع على اتجاه التأثير لم يكتشف حتى الآن, وإذا صح هذا الاحتمال الأول فقد يشير إلى هجرة من البحرين إلى المنطقة الجنوبية من وادي الرافدين وبخاصة إذا تذكرنا ما سبقت الإشارة إليه من أن قائمة الملوك السومريين ضمت بين أسماء ملوكها في دويلات المدن السومرية الجنوبية بعض أسماء سامية. وعلى أي حال فإن هذا، كما ذكرت، يظل احتمالا نضمه إلى ترجيح انطلاق هجرة من هذه المنطقة إلى الشاطئ السوري الفينيقي، ولكن كلاهما لا يرقى إلى مرتبة التأكيد، كما أنه حتى في حالة ثبوت كل من الترجيح والاحتمال, فإن هذا لن يدل إلا على هجرتين "بصرف النظر عن حجمهما" لا يستقيم الاعتماد عليهما وحدهما لافتراض منطقة البحرين وطنا أصليا لكل الشعوب السامية.

وأخيرا، ففي مجال افتراض شبه الجزيرة العربية كموطن أول لهجرات سامية استقرت في كافة المناطق التي يتكلم سكانها اللغات السامية الآن، نجد رأيا يقتصر على الحافة الشمالية لشبه الجزيرة العربية كمنطلق لهذه الهجرات٢٩, والرأي في حد ذاته منطقي من حيث إنه لا يصطدم بصعوبات جغرافية في وصول هذه الهجرات إلى منطقة وادي الرافدين أو المنطقة السورية على سبيل المثال. وفي الحقيقة إن افتراض هجرة آمورية إلى وادي الرافدين وهجرة آرامية إلى سورية من هذه المنطقة يبدو افتراضًا واردًا. ولكن مع ذلك فإن هذا الافتراض، إذا ثبتت صحته، لا يفسر إلا هجرتين اثنتين تمثلان شعبين اثنين من الشعوب المتكلمة باللغات السامية, وتبقى بقية الحالات المتصلة ببقية هذه الشعوب دون تفسير مقنع.

هذه، بإيجاز، هي آراء الباحثين الذين يرون أن شبه الجزيرة العربية هي موطن الساميين، وأعود فأذكِّر بأساس افتراضهم، وهو أن شبه الجزيرة كانت قبل الألف العاشرة ق. م. منطقة خضراء مأهولة بالسكان، ولكن ظروف الجفاف التي حلت بها دفعت بها نحو الإقفار التدريجي، ومن ثم فقد أخذت مواردها في النضوب مما دفع بسكانها إلى الانطلاق في هيئة هجرات متعاقبة إلى المناطق المتاخمة لها سعيا وراء موارد جديدة. ولكن أحد الباحثين البارزين الذين عكفوا على دراسة تاريخ شبه الجزيرة وأحوالها تصدى لهذا الافتراض بشقيه، سواء في ذلك الشق الذي يرد إقفار شبه الجزيرة إلى عوامل الجفاف الطبيعي, أو الشق الذي يفترض هجرات كبيرة انطلقت من شبه الجزيرة لتنتهي إلى تكوين الشعوب السامية الحالية. ويرى هذا الباحث أن إقفار الجزيرة لا يعود إلى عامل الجفاف فالبحوث الجيولوجية التي تتصل بهذا الموضوع لم تتم إلا في عدد محدود من أقسام شبه الجزيرة العربية, لا يكفي لأن يسري حكما على المنطقة بأكملها؛ ومن ثم فهو يستبعد الاعتماد على هذه البحوث الجيولوجية, ويقتصر على الدلائل التاريخية في التوصل إلى رأي في القضية٣٠.

ومن هذا المنطلق التاريخي يرى هذا الباحث أن تحول الأرض الخصبة إلى صحارٍ مقفرة جاء نتيجة لعامل آخر هو تدهور سلطة الحكومات التي كانت موجودة في شبه الجزيرة، الأمر الذي أدى إلى تخلخل الأوضاع في الداخل وخروج الزعماء المحليين ورؤساء القبائل عن طوع هذه الحكومات، وهذا بدوره أدى إلى انتشار النزاعات القبلية والتفكك والتفتت الذي يغري بالغزو الخارجي بما يستتبعه هذا من قمع وثورات واضطهادات تؤدي إلى مزيد من تدهور الأمور. وقد ترتب على هذا التدهور انعدام الاستقرار من جهة والانصراف عن العناية بموارد البلاد من جهة أخرى بكل ما يعنيه هذا من تقلص الرقعة المزروعة وتضاؤل وإهمال المدن والمنشآت الحيوية وتضاؤل النشاط التجاري الذي يؤدي بالضرورة إلى تحول الطرق التجارية. والنتيجة الطبيعية لكل هذا هي هجرة مجموعات من سكان البلاد إلى أماكن أخرى أكثر أمنا واستقرارا، ومن ثم أكثر ملاءمةً لحياة يجدون فيها من أسباب الحياة ما بدءوا يفتقدونه في مناطقهم الأولى -وإن كان الباحث يسارع فينفي عن هذا النوع من الهجرة الصفة الدورية شبه المنتظمة التي يتبناها أصحاب الرأي الذي انبرى للرد عليه.

والباحث يقدم دليلا على هذا ما حدث في اليمن حين ضعفت الحكومة المركزية وبرزت سلطة الزعماء المحليين من الأقيال والأذواء وتفاقم ما بينهم من شقاق ونزاع؛ فوقعت البلاد فريسة للتدخل الخارجي سواء من جانب الفرس أو من جانب الحبشة في النصف الأخير من القرن السادس الميلادي. ويستطرد الباحث ليذكر أن تصدع سد مأرب في تلك الفترة كان نتيجة مباشرة لضغط الماء على جوانبه ضغطًا أدى إلى انهياره، ومن ثم إلى حرمان منطقة واسعة من الأرض الزراعية من المياه التي كانت تعتمد عليها في ريها، ومن ثم إلى هجرة القبائل التي كانت تقطن هذه المنطقة وتعتمد على زراعتها كمورد حيوي لها. وواضح أن تصدع جدران السد هو نتيجة مباشرة لإهمال الحكومة القائمة في ذلك الوقت للمنشآت الحيوية للبلاد, وسد مأرب هو من أبرز هذه المنشآت. وأخيرا فإن الباحث يحاول تدعيم نظريته هذه التي ترد زحف الإقفار على الأراضي الخصبة نتيجة لتدهور الحكومات وانصرافها عن شئون العمران وليس إلى عوامل الجفاف الطبيعي بأمثلة من لتقدم الذي حدث في عدد من البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر والذي كانت نتيجته إنشاء عدد من المدن في مناطق صحراوية واسترجاع قدر كبير من الأراضي المقفرة وتحويلها إلى أراضي مزروعة عن طريق حفر الآبار وشق القنوات وتعمير القرى.

وينتهي هذا الباحث من أدلته إلى أن فكرة الهجرات الدورية الكبيرة من شبه جزيرة العرب ليس لها ما يبررها, فليس هناك من يثبت مثلا أن العبرانيين أو الهكسوس قد جاءوا من شبه الجزيرة، كما أن الحديث عن أن قبائل يمنية هاجرت إلى تخوم الشام والعراق وأسست هناك إمارتي الغساسنة والمناذرة قول لا تؤيده المصادر الكلاسيكية "اليونانية واللاتينية" أو السريانية التي تشير بوضوح إلى أن هذه التخوم كانت مناطق عامرة بالسكان تعيش على الموارد التجارية نتيجة لمرور خطوط القوافل بهذه المنطقة، وأن الحكومتين اللتين قامتا هناك أسسهما زعماء أو رؤساء قبائل من المنطقة ذاتها دون أن نضطر إلى افتراض يخرج بنا عن حدودها, كذلك فهو يرى أن الفتوح الإسلامية لم تشكل هجرة كبيرة بالمعنى المتعارف عليه انطلقت من شبه الجزيرة. وفي رأيه أن القوات التي فتحت العراق والمنطقة السورية لم تقتصر على القبائل الحجازية أو النجدية، وإنما أسهمت فيها قبائل من نصارى العراق وسورية رأوا أن المقاتلين المسلمين من بني جلدتهم, فانحازوا إليهم رغم اختلاف الدين ضد الفرس والبيزنطيين.

وفي رأي هذا الباحث عدد من نقاط القوة دون شك, وبخاصة فيما يتعلق باعتراضه على فكرة الهجرات الدورية الكبيرة, وفي ذكره لعامل القلاقل المحلية التي قد تدعو إلى هجرات صغيرة غير منتظمة. على أني أجد في رأيه عددًا من نقاط الضعف أود أن أرد عليها في إيجاز, وأول هذه النقاط هي أن تجاهل نظرية كسبب أساسي للإقفار اعتمادا على أن البحوث الجيولوجية التي تمت في شبه الجزيرة العربية محدودة سواء في عددها أو في عدد المناطق التي أجريت فيها ليس كافيًا لتجاهل العلاقة بين الجفاف والإقفار كسبب ونتيجة مترابطين ترابطا وثيقا. ودليلنا على هذا هو أن المنطقة المقفرة لا تقتصر على شبه الجزيرة وحدها بحيث يمكن أن نرد الإقفار إلى إهمال الحكومات فحسب، فشبه الجزيرة العربية تشكل جزءا واحدا من امتداد صحراوي مقفر كبير يمتد من الشواطئ الغربية الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي غربا إلى نهر الإندوس في الهند شرقا لا يخفف من حدته إلا منطقتان كانت الأنهار الكبيرة فيهما قد نحتت مجراها واستقرت عليه قبل حلول عصر الجفاف, وهما وادي النيل في مصر ووادي دجلة والفرات في العراق. ونحن لا نستطيع أن ندعي أن كل هذا الامتداد الصحراوي "الذي يضم إلى جانب شبه الجزيرة العربية، الصحراء الغربية إلى غربي النيل والصحراء الشرقية -وتسمى أحيانا صحراء العرب- إلى شرقي هذا النهر، ثم هضبة إيران" قد جاء إقفاره نتيجة لضعف الحكومات وانصرافها عن الاهتمام بالموارد الحيوية للبلاد, فقد كانت بعض هذه الصحاري ضمن حدود دول شهدت فترات من القوة والوحدة والتماسك والازدهار مثل مصر وفارس. ومع ذلك بقيت الامتدادات الصحراوية والمقفرة كما هي دون أن تمتد إليها الخصوبة.

أما الاستشهاد بأن يد الإنسان قد تمكنت بعد القرن التاسع عشر من انتزاع مساحات من الأرض المقفرة الصحراوية في البلاد العربية وإدخالها في دائرة الخصوبة والزراعة والعمران فردنا عليه هو أن إمكانات العلم الحديث قد أتاحت لإنسان القرن العشرين قدرًا من السيطرة على الطبيعة لم يكن متاحا له في العصور القديمة, سواء في تعمير الأراضي المقفرة أو في غيرها من المجالات.

وحتى مع ذلك فإن مساحات الأراضي المقفرة التي أمكن استصلاحها ومد العمران إليها لا تشكل حتى الآن نسبة على قدر كبير من الضآلة إذا قورنت بمساحة الامتدادات التي لا تزال على إقفارها في هذه البلاد.

وأخيرا، وليس آخرا، فإن استشهاد الباحث بما حدث في حالة اليمن في القرن السادس الميلادي هو استشهاد محدود زمنًا ومكانًا؛ فشبه الجزيرة العربية، وإن كانت تخضع في عمومها لظروف جغرافية واحدة، فإن أقسامها المختلفة تختلف فيما بينها في حظ كل منها من هذه الظروف، سواء في ذلك عامل الجفاف الذي لم يكن متماثلا في كل أقسام شبه الجزيرة, وإنما كان يقسو أحيانا قسوة بالغة يظهر أثرها واضحا في حياة الارتحال والتفكك, وتخف قسوته أحيانا فتحظى بعض المناطق بأنصبة متفاوتة من الماء والخصوبة, أو عامل الموقع الذي يتأثر بالضرورة بطرق المواصلات والخطوط التجارية، كما يتأثر بالقوى والعلاقات الدولية المحيطة به في فترة أو في أخرى من فترات الحركة التاريخية النشطة غالبا المتراخية في بعض الأحيان، بين القوى الشرقية والغربية المتصارعة والتي ظهر صراعها بشكل خاص في المنطقة التي تشغل نقطة الوسط بين هذه القوى، وهي منطقة الشرق الأوسط، وشبه الجزيرة العربية. وقد كانت نتيجة كل ذلك اختلافًا في طبيعة القوام السياسي بين منطقة ومنطقة، ابتداءً بالقوام القبلي ومرورًا بالتجمعات أو الأحلاف القبلية وبالإمارات وانتهاءً بالقوام الناضج للدولة في بعض المناطق -وهو وضع طبع شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام بطابعها المميز الذي تجاورت وتناوبت فيه الحضارة باستقرارها وثروتها وعمرانها وثقافتها وأديانها السماوية، مع البداوة بترحالها وفقرها وقفرها وتخلفها ووثنيتها البدائية.

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم