النقط والشكل والإعجام

النقط والشكل والإعجام في الخط العربي

يقول الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" تحت عنوان "النقط والشكل والإعجام" ما يلي:

وهذه النقوش تقودنا إلى الحديث في نقطة أخرى لها خطرها الكبير في تاريخ الكتابة العربية في الجاهلية. ونحن نعرض في هذا الموضوع ما وصلنا إليه في بحثنا؛ وسنكتفي بالعرض المجرد وحده، لا نثبت ولا ننفي، فحسبنا أن نثير هذا الموضوع ونجعله ميدانًا للبحث لعل مُقبل الأيام يتكفل بجلائه ويمدنا بما نستطيع أن نلقي به القول الفصل مطمئنين واثقين.

تلك هي مسألة النقط والإعجام. فهذه النقوش التي عرضناها جميعًا خالية من النقط خلوًّا كاملًا، فليس فيها حرف واحد منقوط، وكذلك كانت الكتابة النبطية -التي يرجح أن الخط العربي مشتق منها ومتطور عنها- لا تعرف النقط والإعجام١. وقد كان من الجائز أن نقف عند هذا الحد الذي أوقفتنا عنده هذه النقوش، وأن نردد مع جميع الباحثين قبلنا رأيهم في أن الكتابة العربية، في أول نشأتها، كانت غير منقوطة، بل إنها استمرت خالية من النقط حتى زمن عبد الملك بن مروان٢. ولكن وجهًا آخر استبان لنا في أثناء الدراسة فوجدنا حقًّا علينا أن نعرضه. وخلاصة ذلك أننا عثرنا في خلال بحثنا على قول أورده القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه "العواصم من القواصم"، قال٣:

"وكان نقل المصحف إلى نسخه على النحو الذي كانوا يكتبونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابة عثمان وزيد وأبي وسواهم من غير نقط ولا ضبط. واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط".

وقد استوقفنا كلام ابن العربي على غموضه وحاجته إلى فضل بيان يوضحه، فلما قرأنا ما سنعرضه من كلام ابن الجزري كان خير موضح، قال١ " ... ثم إن الصحابة رضي الله عنهم لما كتبوا تلك المصاحف جردوها من النقط والشكل ليحتمله ما لم يكن في العرضة الأخيرة مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهةً بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين. فإن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى بتبليغه إليهم من القرآن: لفظه ومعناه جميعًا، ولم يكونوا ليسقطوا شيئًا من القرآن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولا يمنعوا من القراءة به".

وقول ثالث رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال٢ "جردوا القرآن ليربو فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم.." وقد ذكر الزمخشري شارحًا قول ابن مسعود أنه "أراد تجريده من النقط والفواتح والعشور لئلا ينشأ نشء فيرى أنها من القرآن".

وهذه الأقوال الثلاثة يُفهم منها أن النقط أمر قد كان معروفًا قبل كتابة مصحف عثمان، ثم عدل عنه عدلًا مقصودًا، وجرد القرآن منه تجريدًا متعمدًا.

والقول في "تجريد" القرآن طويل، ونحن نعلم أن من ضمن ما يقصد من "التجريد" أن يُكتب القرآن وحده في الصفحة لا يختلط به شيء من التفسير أو الحديث أو القصص أو أية كتابة أخرى، لئلا يختلط على القارئ فيتوهم أن جميع المكتوب هو من القرآن الكريم. ولكن كلام الزمخشري وابن العربي وابن الجزري واضح وضوحًا لا لبس فيه، وهو ينص على أن "تجريد القرآن" يتضمن تجريده من النقط أيضًا.

وقد يكون المقصود من النقط هنا "النقط بالنحو" أي نقط أبو الأسود الدؤلي، وهو بيان حركات أواخر الكلام بوضع نقطة فوق الحرف للدلالة على الفتحة، ونقطة تحت الحرف للدلالة على الكسرة، ونقطة بين يدي الحرف للدلالة على الضمة، بحبر يخالف لونه لون حبر الكتابة نفسها١.

ومع تقريرنا لهذا المعنى فإننا نرى في قول ابن الجزري: "وإنما أخلوا المصاحف من النقط والشكل لتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين المسموعين المتلوين شبيهة بدلالة اللفظ الواحد على كلا المعنيين المعقولين المفهومين" تفريقًا بين النقط والشكل، وذكرًا لكل منهما وحده؛ ونرى كذلك أن تجريد الكلمات من النقط لاحتمال الكلمة القراءات المختلفة يقتضي أن يكون من معاني النقط المعنى الذي نفهمه منه اليوم. وللقراءات التي تحتملها الكلمة الواحدة الخالية من النقط أمثلة كثيرة٢، لعل أوضحها وأشهرها ما ورد في سورة النساء آية ٩٤:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}

وفي قراءة: "فتثبتوا" ورسم هذه الكلمة "فسوا" محتمل للقراءتين.

كانت إذن هذه الأقوال الثلاثة: قول الزمخشري وابن العربي وابن الجزري، أول ما وقفنا عند أمر النقط، فمضينا في أثناء بحثنا نجمع من الروايات والنصوص والأدلة ما قد يدعم هذا الوجه؛ فكان من ذلك:

١- ما رواه الفراء قال١: "حدثني سفيان بن عيينة، رفعه إلى زيد ابن ثابت، قال: كتب في حجر: ننشزها، ولم يتسن، وانظر إلى زيد بن ثابت فنقط على الشين والزاي أربعًا، وكتب "يتسنه" بالهاء".

٢- ورُوِي عن ابن عباس قال٢: "أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان، وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة، وهم: مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة -ويقال مروة وجدلة- فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام".

وقد ذكرنا في صدر هذا البحث أن صحة هذه الرواية وأمثالها عن أصل الخط العربي لا تعنينا في شيء، ونحن هنا لا نسوقها إلا لأمر واحد لا نعدوه، وذلك أن في هذا القول لابن عباس -إن كان قاله- دليلًا واضحًا على أن ابن عباس كان يعرف الإعجام، وأن من قبله كانوا يعرفونه؛ وأما إن لم يكن قاله فما زال يحمل من الدلالة ما لا يصح معها أن نغفله، وذلك أن واضع هذا القول وناسبه إلى ابن عباس كان لا بد يعرف أن ابن عباس كان يعرف الإعجام وإلا لما قبل الناس قوله.

٣- وقد ذكر السجستاني أن "الحجاج بن يوسف غيَّر في مصحف عثمان أحد عشر حرفًا، قال: ... وكانت في يونس "آية ٢٢" "هو الذي ينشركم" فغيره "يسيركم".

وقد نقبل أن يكون الحجاج هو الذي نقط هذه الكلمة وكانت من قبل غير منقوطة كما يزعمون، ولكن أن يكون غير نقطها فذلك هو ما نقف عنده، ونفهم منه أنها كانت منقوطة قبله، ثم غير هذا النقط، وإلا فالكلمة من غير نقط تحتمل الوجهين ولا سبيل إلى ذكر أن الحجاج قد غير نقطها.

٤- ولقد كانت الكتابة الحميرية والصفوية والثمودية واللحيانية، والكتابة النبطية التي يرجح أن الكتابة العربية مشتقة منها -كانت كل هذه الكتابات غير منقوطة١، ولكن المدقق فيها يجد أن الكثرة الغالبة من حروفها يختلف بعضها عن بعض اختلافًا يمنع اللبس والاختلاط، ومن هنا لم تكن في حاجة إلى نقط. وأما الخط العربي فكثير من حروفه متشابهة في الكتابة تشابهًا كاملًا، مختلفة في الصوت اختلافًا تامًّا؛ ولا سبيل إلى التفرقة بينها إلا بالنقط، بل إن هذا التشابه العجيب بين الحروف ليكاد يجعلنا نظن أن الحرف منذ أن وجد وجد معه نقطه، وأن النقط ضرورة من ضرورات هذه الحروف منذ نشأتها٢، إلا إذا كان يفرق بينها بوسيلة أخرى من وسائل الخط توضحها وتمنع اختلاطها مع غيرها. وإلا لكانت الكتابة، وخاصة الطويلة منها، عسيرة القراءة لا سبيل إلى فهمها. ولا عبرة في تجريد القرآن الكريم فإن الأصل فيه أن يكون محفوظًا في الصدر، وأن يرجع الحافظ إلى الكتاب للتذكر، أو أن يتلقاه المتعلم من معلم يحفظه إياه ثم يعود إلى الكتاب للاستذكار.

٥- ومن أوضح الأحاديث وأصرحها عن النقط ما أورده ابن السيد البطليوسي وهو يتحدث عن الكتاب، قال٣: ".. فإذا نقطته قلت: وشمته وشمًا، ونقطته نقطًا، وأعجمته إعجامًا، ورقمته ترقيمًا". وكان من اليسير علينا أن نمر بهذا القول مرًّا هينًا ثم نتجاوزه من غير أن نقف عنده، معتقدين أنه ينصرف إلى أزمنة تالية للقرن الأولى الهجري لولا أن ابن السيد نفسه يستشهد -بعد قوله المتقدم- بأشعار جاهلية فقد أورد -دليلًا على هذه الألفاظ الدالة على النقط- أبياتًا لأبي ذؤيب والمرقش وطرفة. قال أبو ذؤيب:

برقم ووشم كما نمنمت ... بميشمها المزدهاة الهدى

وقال المرقش:

الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم

وقال طرفة:

كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه

وقد كدنا ننسب قول ابن السيد إلى التعجل والتسرع وإغفال الدقة في تحديد أزمان الألفاظ -فقد كان يبدو لنا أن الوشم والرقم والترقيش، في هذه الأبيات، لا تعني أكثر من تجويد الخط وتحسينه، لولا أن الأعلم الشنتمري يذكر ما ذكره ابن السيد. قال الأعلم في شرح بيت طرفة المتقدم١: "وقوله: كسطور الرق: شبه رسوم الربع بسطور الكتاب، ومعنى رقشه: زينه وحسنه بالنقط" ولولا أن أبا علي القالي قد ذهب إلى ذلك أيضًا، قال٢: "رقشت الكتاب رقشًا ورقشته: إذا كتبته ونقطته". ثم استشهد ببيت طرفة.

٦- وربما كان أخطر ما يوجه إلى من يدعي نقط الكتابة في الجاهلية هو هذه النقوش الجاهلية الخالية من النقط. وهو دليل لا سبيل إلى إنكاره، وإن كان لا بأس في التحدث عنه حديثًا قد يكون فيه بعض حجة؛ وذلك أن جميع ما عثرنا عليه من الكتابة الجاهلية كان نقوشًا على الحجر والصخر، وكان سطورًا قلائل بل كلمات معدودات؛ ولم نعثر على كتابة جاهلية على الرق أو البردي مثلًا كثيرة السطور والكلمات. فربما كان عدم النقط ناجمًا عن اطمئنان الكاتب إلى أن كلماته هذه المنقوشة في نجاة من التصحيف والخلط في القراءة؛ لأنها أسماء أعلام، وسنوات، وكلمات بينهما من اليسير معرفتها؛ وربما كان مما يسوغ له إهمال النقط فوق ذلك صعوبة فنية ومشقة عملية في النقش.

٧- ولعل خير ما يدعم هذه النقطة السابقة من حديثنا: تلك الوثيقة البردية التي يرجع تاريخها إلى سنة ٢٢ هجرية على عهد عمر بن الخطاب وهي مكتوبة باللغتين العربية واليونانية١. والذي يعنينا من هذه البردية أن بعض حروفها منقوط معجم وهي حروف: الحاء والذال والزاي والشين والنون. وكذلك الشأن في نقش وجد بقرب الطائف ومؤرخ في سنة ٥٨ هجرية على عهد معاوية بن أبي سفيان، فإن أكثر حروفه التي تحتاج إلى نقط منقوطة معجمة٢.

فنحن نرى إذن أن تاريخ الوثيقة البردية وهو سنة ٢٢ هجرية سابق بسنوات كثيرة على ما ذكره الكُتَّاب العرب في نشأة النقط والإعجام، وكذلك هذا النقش المؤرخ في سنة ٥٨ هجرية. وثمة أمر آخر يجدر بنا أن ننبه عليه وهو أن أكثر الوثائق البردية -التي عُثر عليها مؤرخةً في القرن الأول الهجري- غير منقوطة ولا معجمة، وذلك يعني أن إهمال النقط فيما عثرنا عليه من نقوش جاهلية ضرورة أن النقط لم يكن معروفًا مستعملًا؛ لأن إهمال النقط في النقوش وأوراق البردي الإسلامية لم يمنع وجود وثائق ونقوش منقوطة. وجدير بالذكر أن إهمال النقط أمر كان شائعًا في العهود الإسلامية قرونًا متوالية، بل لقد عد بعضهم الإعجام والنقط مما لا يليق في الكتب والرسائل؛ لأنه يدل على أن الكاتب يتوهم فيمن يكتب إليه الجهل وسوء الفهم١.

وحسبنا ما قدمنا عن النقط، ونحن أول من يعرف أن هذا كله لا يقوم وحده دليلًا قاطعًا على وجود النقط قبل الإسلام، ولكننا أحببنا أن نثبته للأسباب التي قدمناها، فلعل غيرنا قادر من بعدنا على الوصول إلى مفصل من الأمر يتم به ما بدأنا...

المرجع/ كتاب مصادر الشعر الجاهلي، ناصر الدين الأسد، دار المعارف بمصر الطبعة: الطبعة السابعة ١٩٨٨

الدكتور ناصر الدين الأسد ولد بمدينة العقبة في الأردن ١٩٢٢ م، وتلقى تعليمه الجامعي وحصل على درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز من جامعة القاهرة عام ١٩٥٥، وحاضر في عدد من الجامعات ومعاهد البحوث في الأردن وليبيا ومصر، وأسس الجامعة الأردنية ثم عُيِّن رئيساً لها خلال الفترة من عام ١٩٦٢ - ١٩٦٨.

عمل سفيراً للمملكة الأردنية الهاشمية لدى المملكة العربية السعودية من عام ١٩٧٧ - ١٩٧٨، ورأس العديد من المجامع والمجالس مثل المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية «مؤسسة آل البيت» ومجلس الأمناء في جامعة الإسراء بعمّان، ومجلس أمناء جائزة عبد المجيد شومان الدولية للقدس. يشغل الآن رتبة أستاذ الشرف في اللغة العربية

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم