عرب سوريا

 
عرب سوريا في كتابات الغرب

كتب غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب

عرب سورية، كعرب الجزيرة، أهل حضر يسكنون المدن، وأعراب يقيمون بالبادية، ولم يكن في السيطرة المتتابعة التي أصابت سورية ما يتوجع منه أعرابها الذين لا يزالون يعتمدون في معايشهم على النهب وتربية المواشي منذ ثلاثة آلاف سنة، ونحن إذا ما استثنينا المدن نرى سورية قبضتهم بالحقيقة، فهم يهاجمون فيما وراء نهر الأردن، وفي أبواب دمشق نفسها، السياح والقوافل التي لم تؤد إليهم الفدى في مقابل خفرها وحمايتها والسماح لها بالمرور، وتجتمع في أعراب سورية صفة الشره وصفة الكرم المتناقضتان اللتان ألمعنا إليهما فيما تقدم، ويقدسون الضيف ما دام نزيلهم.
ولم يقدر أحدٌ على إلزام أعراب سورية بترك البادية التي تعودوا العيش فيها منذ قرون، وقد رفضوا كل أرض عرضت عليهم ليستقروا بها، وامتنعوا عن أي عمل زراعي.
ونرى في سورية، بجانب الأعراب الذين يدينون بدين محمد، قبائل ذات شعائر وعقائد مختلفة يسهل تمييز بعضها من بعضٍ؛ لعدم توالدها فيما بينها، وأهمها المتاولة والنصيرية والموارنة والدروز.
فالمتاولة: قبائل عربية جبلية تعيش في اعتزال، وهم من مسلمي الشيعة المتعصبين الذين يأبون تناول الطعام مع أي أجنبي كان، ونرى من أوصافهم أنهم مزيج من المغول والعرب والفرس، مع أن بعض الباحثين يظن أنهم منحدرون من بعض القبائل الكردية.
والنصيرية: قبائل جبلية أيضاً، وهم يدينون بديانة مشتقة من الإسلام بعيدة منه كل البعد، ويرى أن النصيرية من القائلين بالتناسخ، ويعبدون الشمس والقمر ... إلخ.
وللموارنة: مع قربهم من السوريين، طابع خاص، وهم أتباع طائفية مسيحية ذات عجب صاخبةٍ لم تكن على شيء كبير من البسالة كما أثبتت الحوادث ذلك.
والدروز: يشبهون الأعراب، وتتألف منهم طائفةٌ إسلامية عاتية حرة انفصلت عن السوريين والعرب منذ قرون، وتوجد بين الدروز الشجعان ذوي الصولة وموارنة لبنان عداوة متأصلة.
ويتألف من سكان مدن سورية وقراها مزيجٌ من المصريين والفينيقيين واليهود والبابليين والفرس والأفارقة والرومان والعرب والمغول والشركس والصليبيين والترك ... وغيرهم من الأمم التي استولت بالتتابع على سورية كلها أو بعضها، ولذا يشاهد السائح في سورية مثلاً كثيرة التباين، ويتصف سكان المدن من السوريين بالذكاء ولين العريكة والمكر والمخادعة على العموم، وقديماً نعت الرومان السوريين بأنهم ولدوا للعبودية، والسوريون، وقد رضوا بكل حكم أجنبي أصابهم منذ قرون كثيرة، لم يبق من نشاطهم سوى منازعاتهم الدينية، وقد عرفوا، فيما لا يمس عقائد الدين، بإذعانهم التام، وانقيادهم المطلق لكل ذي سلطان مما لا يتصوره أوربي، ويمكن القارئ أن يقف على ذلك من القصة الآتية التي رواها مسيو دوفوغويه عن أوربي كان في سورية أيام القمع الذي وقع بعد ملاحم سنة ١٨٦١:
روى ضابطٌ معلمٌ أوربيٌ كان في خدمة الترك أنه شاهد الأمر الآتي، وهو: أن أحد الجلادين الكثيرين في ذلك الوقت كاد يتم عمل نهاره، وأن الكلاب كان عالياً والكرسي واطئاً فلا يوصل إليه به، وأن مسلماً مسناً مر من هنالك راكباً حماراً حاملاً قطعة لحم، فأمره الجلاد بالوقوف فأطاعه فترجل ماداً عنقه للشنق طائعاً ظاناً أن أجله جاء، فأفهمه الجلاد أنه لم يقصد شنقه، وإنما يريد حماره؛ ليصعد فيه رجل محكوم عليه بالموت، ويوضع الحبل في عنقه، فلما وضع الجلاد الحبل ونخس الحمار هوى ذلك المحكوم عليه بالموت، فركب الشيخ الهرم حماره بعد أن حمل قطعة اللحم لائذاً بالفرار.
وإنني أقول مكرراً: إن ذلك الإذعان لا يتجلى إلا في الأمور التي لا تمس عقائد الدين، ولم يطرأ على الهدوء العميق الذي تتمتع به دمشق شيء من جراء الاضطرابات التي وقعت حديثاً في مصر، وعجبت من السهولة التي كان يضرب بها جندي واحدٌ جموعاً زاخرة ويدحرها لتفسح المجال لمرور أحد الأعيان أو السياح، ومع ذلك فقد سمعت في دمشق والقدس غير مرةٍ أن أقل نجاح لغرابي كان نذير قتل لنصارى سورية الذين يحمر الوجه خجلاً من جبنهم، وهؤلاء النصارى هم الذين كانوا يذبحون في سنة ١٨٦١ كالضأن من غير أن يبدوا أقل مقاومة؛ وهم الذين يكونون، لا ريب، جبناء أنذالاً لو حدث في سنة ١٨٨٢ من الإثخان فيهم ما كان يتوقعه الملأ.

 استقرار العرب بسورية

كان البلد الغني، سورية، قد أصبح رومانيا قبل الفتح العربي بنحو سبعة قرون، ويوجد ارتباك وغموض في أخبار المعارك الأولى التي أدت إلى فتح العرب السورية، فأما مؤرخو العرب، وعلى رأسهم الواقدي الذي يرجع إليه على العموم، فإنهم مزجوا الحقائق بالخيال، فحط ذلك من قيمة قصصهم، فأنت إذا أنعمت النظر في روايات الواقدي رأيته يذكر، حين بحثه في وقائع العرب الحربية، بأبطال أوميرث مع رفع لقيمة المرأة في تلك الوقائع، وأما مؤرخو الروم فقد التزموا جانب الصمت عن فتح سورية الذي كان كله عاراً على دولة بزنطة القوية.

ومهما تكن دقائق الفتح العربي السورية فإن سورية خضعت لحكم العرب بعد حرب سجال بين العرب والروم.

وفتح دمشق من أهم فتوح العرب في سورية، ولم تلبث دمشق الشهيرة أن أصبحت في العهد الأموي عاصمة الدولة العربية بدلاً من المدينة.

وتم فتح دمشق يوم وفاة الخليفة الأول أبي بكر في السنة الثالثة عشرة من الهجرة (٦٣٤ م)، وصرخ هرقل حين أتاه خبر سقوط دمشق قائلاً: «وداعاً يا سورية! »

حقاً لقد خسر الروم سورية، فقد استولى العرب بعد معركة اليرموك الشهيرة، التي دامت ثلاثة أيام وانتهت بانتصار العرب، على جميع مدن سورية، وفتحوا عنوة تذمر وبعلبك وأنطاكية وطبرية ونابلس والقدس وطرابلس وغيرها، وأكره القيصر على مغادرة سورية إلى الأبد بعد أن ملكها أسلافه منذ سبعة قرون.

وكان لفتح القدس دوي عظيم بين المدن التي استولى عليها المسلمون، وكان المسلمون يعلقون أهمية كبيرة على فتح هذه المدينة التي كانوا يقدسونها تقديس النصارى لها، ففيها توفي المسيح الذي هو عند المسلمين من أعاظم الأنبياء، وفيها الصخرة الشهيرة التي تخرج منها محمد في السماء.

هجم العرب على القدس بشدة كالتي أبديت للذب عنها، وحث البطرك صفرونيوس الحماة النصارى على الدفاع عن قبر الرب فلم يجد ذلك نفعاً تجاه القدر الذي قضى بأن تحل راية الإسلام محل الصليب فوق قبر يسوع، ورأي صفرونيوس أن يذعن بعد حصار دام أربعة أشهر، واشترط أن يتسلم الخليفة عمر القدس بنفسه فقبل ذلك، فركب عمر بعيراً، وغادر المدينة وحده تقريباً، ولم يأخذ معه من الزاد سوى قربة ماء وجراب شعير وأرز وتمر، وأغذ عمر في السير ليل نهار؛ ليصل إلى القدس في وقت قصير، فلما دخل القدس أبدي من التسامح العظيم نحو أهلها ما أمنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى جزية زهيدة عليهم.

وأبدى العرب تسامحاً مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلها، ولم يلبث جميع سكانها أن ترضوا بسيادة العرب، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلاً من النصرانية وأقبلوا على تعلم اللغة العربية، وظلت سورية بلداً عربياً إسلامياً كما كانت في أوائل الفتح العربي مع تداول كثير من الفاتحين لسيادتها بعد ذلك.

ولما توالت هزائم الروم في سورية استحوذ عليهم خوف عظيم من العرب الذين أمعنوا في ازدرائهم.

ومن الأدلة على ذلك الكتاب الآتي الذي أرسله عمر بن الخطاب إلى هرقل يطالبه فيه بإطلاق قائد عربي أسرة الروم في إحدى الوقائع:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله، من عبد الله عمر بن الخطاب إلى هرقل ملك الروم، أطلقوا الأسير المسلم، عبد الله بن حذافة، حين وصول كتابي هذا إليكم، فإن فعلتم ذلك رجوت من الله أن يهديكم الصراط المستقيم، وإن لم تفعلوا فإنني أبعث إليكم رجالاً لا تلهيهم تجارة ولا بيغ عن الجهاد في سبيل الله، والسلام على من اتبع الهدى.
ولم يكن القيصر هرقل ليغضب من هذا الكتاب الشديد، فقد أطلق الأسير مصحوباً بهدية ثمينة إلى الخليفة، وهرقل هذا هو وارث عرش القياصرة الجبارين الذين دوخوا العالم، فخلف من بعدهم خلف فقدوا المشاعر التي كان فيها سر عظمتهم.

وعاد عمر إلى المدينة بعد أن تم فتح سورية، ونظم شؤون الدولة الفتية موصياً قواده بتوسيع رقعتها، ووزع عمر الغنائم العظيمة التي أخذها المسلمون من الروم والفرس على أصحابه، وجعل لهم، على حسب قدم خدمهم، رواتب سنوية تترجح بين ألف درهم وخمسة آلاف درهم.
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم