هل صحيح أن الأمس أفضل من اليوم

 مَوْسُوعَةُ الْهُلًاْلِيُّ- سؤال ربما يسأله جيل اليوم، هل صحيح أن التراث الثقافي والشعبي للمواطن العربي بالأمس أو في الماضي، كان أفضل مما نحن فيه اليوم، وهل كانت محبة الناس لبعضها البعض سابقاً، أفضل مما هو حاصل اليوم، وهل الأقارب كانت علاقاتهم أفضل من اليوم، وهل كان العرب عامة حالهم أفضل بكثير من حالهم اليوم، ولماذا؟ وكيف؟ وما هي مؤكدات واثباتات صحة تلك الظواهر الحسنة، ومتى حصل التراجع والتقهقر والتفرق وما هي أسباب ذلك؟

حقيقة أن هناك مجموعة من العوامل التي كان لها الأثر المباشر في تحسين وتجميل الظواهر والأنشطة والعلاقات الاجتماعية في مجتمعنا العربي قديما، أهم هذه العوامل: معظم الناس كانوا متساويين من حيث المستوى الثقافي، كما أن معظم الناس كانوا يعيشون في متسع من الأرض، كما أن الناس قديما كانوا بعيدين كثيراً عن المؤثرات الفكرية والثقافية الخارجية فكانوا على طبيعتهم وموروثاتهم النقية، فكانوا متمسكين ومفتخرين بعاداتهم الأصيلة والتي يتربع على رأسها الكرم والنخوة، كما كانت أغلب أعمالهم متقاربة وأغلب ملابسهم متشابهة، وأغلب مساكنهم متشابهة، وتكاد لا ترى فوارق طبقية في المجتمع مثل التي تظهر اليوم، كما كان لكل حي أو تجمع سكني، أو أي عائلة مكان يجتمع فيه الرجال للتسامر وللحديث فيما بينهم، حتى كان من يتغيب منهم يوم واحد، الكل يسأل عنه ويحاول الجميع الاطمئنان عليه، كما كانوا متعاونين فيما بينهم في أثناء الحصاد أو جز صوف الغنم أو حينما تقام الأفراح، أو حينما يقوم أي منهم بأي مهمة في الحي من بناء بيت جديد، أو ترميم البيت أو يقوم بأي مناسبة اجتماعية في منطقة سكناهم، فالكل كان يشارك ويساهم من تلقاء نفسه، كما كانت تكثر في مجتمعهم العزومات أو الولائم التي يصنعها الناس من أجل التقرب لله من ناحية ومن أجل المحبة والألفة من ناحية أخرى..

كل ذلك من مظاهر اجتماعية متعددة كانت منتشرة في أي مجتمع عربي من عالمنا العربي الكبير، تتشابه العادات والتقاليد العربية في كافة الأقاليم الاجتماعية، واستمرت هذه الأنماط الجميلة في المجتمعات حتى بدأت تظهر التغييرات الدخيلة والمستوردة والمتسللة إلى المجتمع، فتفسد الأنماط الاجتماعية التي كانت سائدة..

بدأت العوامل الخارجية تسلل إلى المجتمعات العربية بالتدريج مع ظهور جملة كبيرة من الاختراعات التي ساهمت في تفكك الترابط المجتمعي ومنها على سبيل المثال ظهور الأحزاب السياسية 1907م - 1920م، التي ساهمت في زرع الكراهية بين الناس، وظهور مبارايات كرة القدم بدء من عام 1872م - 1921م والتي ساهمت في ايجاد بدائل للتسلية واشغال وقت الفراغ بمتابعتها، ثم بدء ظهور دور السينما سنة 1930م والتلفزيون 1927م، والتي أدت إلى تفرق الناس وتركهم للمجالس المحلية في الأحياء والحارات، وكذلك ظهور جمعيات حقوق المرأة في 1947 -1952م والتي أدت هي الأخرى بظهور دور المرأة ثم خروج النساء بلباس الموضة العصرية كاشفة مفاتنها، كل هذه العوامل ساهمت في تفرق وتشتت الترابط المجتمعي وتفكك النسيج وانهيار العلاقات الاجتماعية مع مرور الوقت، حيث أخذ الناس يسلطون أنظارهم على مشاهدة المسلسلات والأفلام والمباريات في بيوتهم، وتكاثرت الانقسامات في وجهات النظر حول الأحداث السياسية والرياضية والترفيهية والاجتماعية، وتعلم الناس أنماط اجتماعية جديدة وتحفظ آخرين على ذلك، فتعددت في المجتمع وجهات النظر والاختلافات الحادة في كل شيء، ومع ظهور الآلات الحديثة والماكينات التي ساهمت في تطور الصناعة والزراعة وازدياد النمو السكاني، حتى انشغل الناس بها وانخفضت العلاقات الاجتماعية التعاونية بين الناس في المجتمع الواحد، وتقلصت نفوذ القيادات والزعامات المحلية وتضاءلت سلطتها وتكاثر التمرد عليها حتى انقرضت وصارت شكلية ورمزية، كل ذلك ساهم في انقراض الظواهر الاجتماعية القديمة واصبح الناس أقل اختلاطا مع بعضهم البعض، ثم مع ظهور الانترنت الحديث طمست كافة الظواهر الاجتماعية التي كانت سائدة في الماضي البعيد والقريب، وأصبح الناس أكثر انطواءً وأكثر التزاماً في أعمالهم وبيوتهم..

وفي حقيقة الأمر يمكن أن نطلق على تلك العوامل التي أثرت تأثيرا قويا في المجتمع العربي وانتجت ظواهر اجتماعية سلبية، عوامل الغزو الفكري والثقافي التي تسللت إلينا بطرق يصعب مقاومتها، حيث استسلم لها وانساق معها كافة العلماء العرب دون انتباه، وانهالت في هذه المرحلة المؤلفات والكتب الثقافية التي أخذت تصدر للمجتمع مجموعة ضخمة من المصطلحات والمفاهيم والنظريات التي تهاجم المجتمع العربي دون انتباه بمدى فوائدها أو أضرارها، ظناً منهم أنهم يسلطون الضوء على نهضة المجتمع العربي، إلا أنها في الحقيقة كانت مدمرة بشكل كبير وقد أدت إلى انهيار كل القواعد والمبادئ التي تأسس عليها المجتمع العربي منذ فجر تاريخه..

ومن أخطر نتائج الغزو الفكري الغربي، لمجتمعنا العربي ظهور التيارات الفكرية المتصارعة ومنها: على سبيل المثال تيار التجديد الديني وما حمل معه من تغييرات قوية منها الإيجابية ومنها السلبية، والتيار الثقافي والذي يمزج بين الشرق والغرب، والتيار الثقافي الغربي، والتيار الإسلامي الذي يهاجم القومية ويعتبرها خطأ "عنصرية"، والتيار القومي العربي الذي يهاجم التعصب الديني، وقد ساهم في تعمق الخلافات وتعاظم الانقسامات التفسيرات الخاطئة والنظريات الجديدة كل ذلك يرتبط بكل مقومات بناء المجتمع ويؤثر فيه ويساهم بخلق ظواهر اجتماعية جديدة..


وفي نهاية هذا الشرح المختصر، أصبح من الواضح أن حياة الإنسان العربي في الماضي أفضل من حياته في الوقت الحاضر من حيث العلاقات الاجتماعية المحلية والاقليمية، بغض النظر عن التطور الحضاري الذي يخدم تغلب الإنسان على مصاعب الحياة في مجالات الصناعة والزراعة والاقتصاد والصحة والتكنولوجيا وغير ذلك..

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم