المصادر والمراجع في تحقيق التُّراث

المصادر والمراجع في تحقيق التراث
مَوْسُوعَةُ الْهُلًاْلِيُّ - استكمالاً لموضوع تحقيق التُّراث التي تم نشره سابقاً، وهو الفصل الثالث من كتاب " مقدمة في أصول البحث العلمي وتحقيق التراث" للدكتور السيد رزق الطويل رحمه الله المتوفي سنة 1419هـ..
وهذه المقالة تابعة لموضوع تحقيق التراث وهي من المهام الرئيسية في عمليات التحقيق العلمي، وكيفية استخدامها وتوظيفها في سير خطوات عملية تحقيق التُّراث.. 

المصادر والمراجع

سبق لنا حديث عن المصادر والمراجع ونحن نتحدث عن قواعد البحث العلمي, ونعيد القول مرة أخرى هنا؛ لنؤكد أهمية ذكر المصادر والمراجع في تحقيق التراث.

والمصادر والمراجع في عملية التحقيق لها صور ثلاث:

أ- أولاها: نسخ المخطوطة التي يقوم الباحث بتحقيقها؛ إذ هي من المصادر الضرورية.

ب- ثانيتها: المصادر التي اعتمد عليها المؤلف نفسه ورجع إليها في تصنيفه لا بد أن يعمل فهرسًا لمراجع المؤلف, ومصادره.

جـ- ثالثتها: المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المحقق في إنجاز التحقيق على الوجه الأكمل.

وإضافة إلى الكلام السابق عن المصادر والمراجع، وما قيل من الفروق بينهما أو أنهما مترادفان، نذكر أن المتمسكين بالتفريق يصنعون قائمتين لفهرس المراجع والمصادر, للمصادر قائمة وللمراجع الأخرى، والذين يقولون بالترادف يصنعون قائمة واحدة. هو إذًا اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

تنظيم المراجع:

أما تنظيم المراجع, فيمكن أن نعمد إلى طريقة من الطرق التالية:

١- البدء باسم الكتاب حسب الترتيب الهجائي، أو حسب تاريخ النشر.

٢- البدء باسم المؤلف وفق الترتيب الهجائي، أو وفق تاريخ الوفاة.

٣- البدء بلقب المؤلف حسب الترتيب الهجائي, أو تاريخ الوفاة.

كما يراعى في تنسيق المراجع:

البدء بالمطبوعات، ثم بالمخطوطات، ثم بالدوريات، ثم بالمراجع الأجنبية إن وجدت.

كما نلاحظ وضع القرآن الكريم في صدر المراجع ما دام مرجعًا للباحث, ولا ينبغي وضعه حسب الترتيب الهجائي.
مصطلحات في تحقيق التراث وملاحظات:

على طريق تحقيق التراث نجد عدة مصطلحات مطروحة يجدر بنا أن نجلي مفاهيمها للباحث المبتدئ، ونذكر بها من هو بسبب ودربة على البحث، كما أن هناك ملاحظات نرى من المفيد التنبيه إليها.

وسنتناولها فيما يلي:

إجازة المخطوط:

الإجازة هنا: يقصد بها توثيق نسبة المخطوط إلى مؤلفه, إذ إن المخطوطة بعد اختبارها بالسماع أو الإقرار تعد سليمة ومطابقة لتصنيف المؤلف معنى ومبنى.

وهي مأخوذة من إجازة الرواية التي تعني الإذن برواية الحديث لثقة المجيز في علم المجاز وأمانته.

وإجازة المخطوط من المصنف تعد من أعلى درجات التوثيق.

وأحيانًا يكتب على المخطوطة إجازة لها, وإجازة لروايتها لثقة المصنف في الراوي.

ومن أمثلة الإجازات: ما كتب على ورقة العنوان من المجلد الحادي عشر من كتاب "تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام" للذهبي "٧٤٨هـ" من نسخة بخط المؤلف، وقد سجل عليها قراءة الصفدي "٧٣٥هـ" على المؤلف وإجازته برواية الكتاب.

والإجازة تعتمد على أمرين هما: الإقراء والسماع.

أما الإقراء: فهو أن يقرأ الكتاب على المؤلف أو غيره دون أن يكون معهما مستمع أو مستمعون, وأما السماع: فهو أن تكون القراءة للكتاب بمحضر آخرين يستمعون للقراءة, عدا القارئ والمقروء عليه.

وللسماع صور عدة منها:

أن يكتب المصنف بخطه أن طالبًا سمع عليه كتابه، أو يقر طالب بسماع كتاب على مصنفه، أو يخبر بسماع الكتاب على شيخ غير مصنفه١.

ومن أمثلة هذه السماعات:

ما كتب على مخطوطة "الموجز في النحو" لابن السراج "٣١٦هـ".

ذكر المحققان للنسخة وهما: د. مصطفى الشويمي وأ. بن سالم "مرجي": عثر عليها سنة ١٩٥٨ بمدينة تمغروت جنوب المغرب.

يقول كاتب المخطوط في نهايتها: إنه اكتتبها سنة ٣٥٤هـ من نسخة مقروءة على أبي علي الفارسي -تلميد المؤلف- وعارضها بنسخة بغدادية أملاها المؤلف على تلاميذه مجلسا مجلسا, ابتداء من سنة ٣٠٤هـ.

أما فائدة الإجازة, وما يتبعها من سماعات وإقراء، فذلك مثال من أمثلة التثبت العلمي كما أنها وثائق لثقافات العلماء الماضين وما سمعوه، وما قرءوه من كتب، وهي دليل على صحة الكتاب وقدمه وتاريخه، كما أنها وسيلة لمعرفة مراكز العلم في البلاد الإسلامية وحركة تنقل الأفراد بينها، وأخيرًا تعد مصدرًا للتراجم الإسلامية.

علامات الترقيم:

من المصطلحات الهامة المعول عليها في التحقيق، ولها ضوابط سبق الحديث عنها في الباب الأول من هذا المصنف.
الاختصارات:

لا يستغني المحقق عن استخدام رموز تعفيه عن كلمات وعبارات، وذلك مثل:

إلخ= إلى آخره. ا. هـ= انتهى. رض= رضي الله عنه. ح= حينئذ.

ثنا= حدثنا. م= مفرد. ج= جمع. ش= شرح أو شارح.

ص= أصل أو مصنف. م= تاريخ ميلادي. هـ= تاريخ هجري.

ص= صفحة.

س= سطر. صح= صحح. جـ= جزء، وأحيانا جواب. س= سؤال.

مج= مجلد.

على أن الاختصارات مجرد اصطلاحات عرفية لمن شاء، ومن الناس من يتوسع فيها ولا يوافق على بعضها، ومن ذلك استخدام ص أو صلعم بدلا من: صلى الله عليه وسلم. أو: ع بدلا من عليه السلام، أو رض بدلا من رضي الله عنه.

وهناك من مصادر التراث ما يصطفي مؤلفوها رموزًا خاصة للاختصار، وذلك ما ذكره الفيروزآبادي في القاموس المحيط:

وما فيه من رمز فخمسة أحرف ... فميم لمعروف، وعين لموضع

وجيم لجمع ثم هاء لقرية ... وللبلد الدال التي أهملت فع

المسودة:

هي الصورة الأولى لتدوين المصنف، وتعرف بكثرة ما يشيع فيها من اضطراب وخلط ومحو، وكشط واستدراكات وحواشٍ، وقد يدرك المحقق أن هذا المخطوط على مسودته ولم يتم تبييضه، وذلك من خلال كتابة الفهارس.

ومن ذلك ما كتبه ابن النديم في الفهرست من أن ابن دريد صنع كتاب أدب الكاتب على مثال كتاب ابن قتيبة، ولم يجروه من المسودة. وكذلك جاء في بغية الوعاة للسيوطي: أن لابن هشام الأنصاري من المؤلفات سرح التسهيل, وهو مسودة.

الخطأ:

هو تغيير في الكلمة أو الجملة يأتي مخالفًا لقواعد النحو أو الصرف، أو الضوابط المعجمية, أو الرسم الإملائي، وما إلى ذلك.

ومثل هذا يطالب المحقق بإصلاحه وفق القواعد على نحو ما ذكرنا في تقويم النص.

التصحيف:

التصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة، ويعني اللغويون بذلك الخطأ في قراءتها، ومن هنا سمي من يخطئ في قراءة الصحيفة صحفيا.

ثم توسع في استخدام اللفظ فصار يشمل الخطأ في الكتابة أيضًا، ولا سيما في استعمالات المعنيين بالتراث وتحقيقه.

جاء في المعجم الوسيط: صحف الكلمة: كتبها أو قرأها على غير صحتها؛ لاشتباه الحروف.

وعلى هذا الأساس وضع له صاحب معجم مصطلحات الأدب هذا التعريف: الكلمة المصحفة هي الكلمة الموضوعة خطأ نتيجة لإهمال الناسخ أو الطابع، أو جهل كل منهما.
ومن العلماء من لا يفرق بين التصحيف والتحريف, ويعدونهما مترادفين.

وهناك من يفرق بينهما، ومنهم العلامة ابن حجر في "شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص٢٢" قال: "فإن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق، فإن كان ذلك بالنسبة للنقط فالمصحف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرف".

ويعني ابن حجر بالشكل هنا: هيئة الحرف لا حركاته.

وقد شاع التصحيف عند القدماء، وكثر في المصنفات، ووقع فيه كثير من أفاضل العلماء في اللغة والحديث, حتى قال الإمام أحمد: ومن يعرى من الخطأ والتصحيف١؟!!

هذا, وقد وقع التصحيف في الكلمات المعجمية، كما وقع في أسماء الأعلام, ولكثرته اهتم العلماء وصنفوا فيه كتبًا.

فمما ألف في تصحيفات الكلمات:

١- كتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن الحسن الأصفهاني ٣٦٠هـ.

٢- كتاب التصحيف للحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري ٣٨٢هـ.

٣- كتاب التصحيف والتحريف لعثمان بن سعيد اليلطي ٦٠٠هـ.

٤- كتاب التطريف في التصحيف للسيوطي، كما خصص النوع الثالث والأربعين من كتابه المزهر لذلك.

ومما ألف في تصحيفات الأعلام:

١- المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء وكناهم وألقابهم وأنسابهم للآمدي الحسن بن بشر ٣٧٠هـ.
٢- المتفق والمفترق، للخطيب البغدادي أحمد بن علي ٤٦٣هـ.

٣- المشتبه بالرجال: أسمائهم وأنسابهم، للذهبي محمد بن أحمد ٧٤٨هـ.

٤- ضبط الأعلام، أحمد تيمور، ١٣٤٨هـ.

أمثلة للتصحيفات:

١- الآية الكريمة: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: ٨] قرئت كلمة حزنًا تصحيفا: حربا.

٢- قال الزبيدي: حدثني قاضي القضاة منذر بن سعيد، قال: أتيت أبا جعفر النحاس فألفيته يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون, حيث يقول:

خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها

قد أسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها

فلما بلغ هذا الموضع قلت: باتا يفعلان ماذا, أعزك الله؟ فقال لي: وكيف تقول أنت يا أندلسي؟ قلت: بات وبان قرينها.

٣- روى الأصمعي بيت الحطيئة:

وغدرتني وزعمت أنـ ... ـك لاتني في الصيف تامر

فقال أبو عمر: إذا صحفتم فصحفوا مثل تصحيفه, وإنما هو:

وغدرتني وزعمت أنـ ... ـك لابن في الصيف تامر

٤- ومن التصحيفات الطريفة: ما روي أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة: أحص المخنثين قبلك، فوقعت من قلم الكاتب نقطة على الحاء فجعلتها خاء، فوصل الكتاب والي المدينة وقرأه كاتبه، فقال له الأمير: لعله أحص المخنثين، فقال:
يا أيها الأمير, إن على الحاء نقطة مثل سهيل، فأمر الأمير بإحضارهم, فتهارب أكثرهم ووقع أقلهم.

ومن أمثلة التصحيفات:

١- إخراج, إحراج.

٢- أبواب, أثواب.

٣- جنان, حنان.

٤- حاد, جاد.

٥- حنايا, خبايا.

٦- خبيث, حثيث.

٧- صانع, ضائع.

٨- سديد, شديد.

٩- غالي, عالي.

١٠- صر, ضر.

١١- بشر, نشر.

١٢- جنائب, خبائث.

١٣- باب, ناب, تاب.

١٤- تمر, نمر, ثمر.

١٥- فصم, قصم, قضم.

١٦- موازنة, مواربة.

١٧- قتيل, قبيل, فتيل.

١٨- نبي بين أنبياء, نبي بين أبيناء.

التحريف:

الذين يفرقون بين التصحيف والتحريف يرون أن التحريف هو التغيير في الحرف, بأن يوضع حرف مكان آخر قريب الشبه به.

ومن أمثلة التحريف:

١- جاء في جمهرة اللغة مادة: أن، وأن يقال: أن الرجل الماء: إذا صبه، وفي بعض كلام الأوائل: أن ماء وأغله أي: صب، وقال ابن الكلبي: إنما هو أز ماء وزعم أن "أن" تصحيف.
وهاك بعض الكلمات التي وقع فيها تحريف:

ضاع, ضاء. قتال, قتاد. حيف, صيف. دانية، رانية. حريق, غريق. صب, حب. وجوم, رجوم. قريب, غريب.

تعدد الإخراج:

من الملاحظات على ما ورثناه من مخطوطات التراث, أن منها ما أخرجه مؤلفه وكتبه عدة مرات.

في كتاب التنبيه والإشراف للمسعودي ٣٤٦هـ، جاء في آخره: وكان سلف لنا قبل تقرير هذه النسخة نسخه على الشطر منها في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، ثم زدنا فيها ما رأينا زيادته وكمال الفائدة به، فالمعول من هذا الكتاب على هذه النسخة دون المتقدمة.

وذكر ابن النديم في ترجمة محمد بن جابر البتاني أن "له من الكتب كتاب الزيج, وهو نسختان أولى وثانية، والثانية أجود من الأولى".

ومن هنا ينبغي للمحقق أن يطلع على إخراجات الكتاب, إذا كان له أكثر من إخراج.

التصفيح:

من عادة الأقدمين ألا يرقموا الصفحات, ويستبدلوا بذلك عملية التصفيح, وذلك بأن يثبت الكاتب في آخر الصفحة "في هامشها" أول كلمة في الصفحة التالية، أو يثبت آخر كلمة في الصفحة السابقة في أول الصفحة التالية، وذلك ليمكن تسلسل صفحات الكتاب في غيرما حاجة إلى الترقيم٢.
سلبيات على طريق التحقيق:

على نحو ما فصلنا في الفصول السابقة توفر على نشر التراث مؤسسات عدة، قديمة وحديثة، حكومية وشعبية على امتداد العالم الإسلامي, بل والعالم الغربي الذي شارك في هذا المجال من خلال المستشرقين دعمًا للتراث الإنساني أو لأهداف أخرى يعلمها الله، ونعلم بعضًا منها.

ولأجل هذا لست في حاجة إلى إعادة لأمر وضحته؛ وذلك لأن مراحل نشر التراث التي بسطت جوانبها تكشف عن المراحل التي مر بها التحقيق العلمي للتراث, حتى وصل إلى الصورة التي هو عليها الآن.

وجهود القائمين على نشر التراث لا تحتاج إلى دليل, أو برهان.

لكن هذه الأعمال العظيمة لا تخلو من شوائب نحب أن ننبه إليها حتى لا يقع المعاصرون في شيء مما وقع فيه سابقوهم.

١- الازدواجية:

في مقدمة هذه السلبيات: الازدواجية في مجال نشر التراث، فقد نجد مخطوطًا واحدًا نشرته عدة جهات، بعضها مجرد نشر خالٍ من أصول التحقيق العلمي، وبعضها محقق تحقيقًا واحدًا.

ومن هنا نأسى على الجهد الضائع، والمال المهدر؛ إذ لو كان هناك تنسيق صادق أمين لوفرنا هذا الجهد لإحياء مخطوط حبيس على رفوف المكتبات هنا وهناك، بل إن بعض الجهات القائمة على هذا الأمر عندها مخطوطات محققة ومعدة, ويعوزها المال لإخراجه.

بل إننا بكل أسف نجد هذه الازدواجية في الرسائل الجامعية, وفي مجال التحقيق
العلمي مما يؤكد ضرورة وجود لون من التلاقي, والتنسيق بين الجامعات الإسلامية توفيرًا للجهد، ولكي نسير في هذا المضمار خطوات إلى الأمام.

ولعل رابطة الجامعات الإسلامية، ومقرها الرباط, تنهض بهذا العبء الهام، وأرى أنها بقيادتها مؤهلة لذلك.

قد تسد الدوريات الصادرة عن بعض مؤسسات التحقيق جزءًا من هذه الثغرة, لكن حاجتنا إلى تنسيق كامل لا تزال قائمة.

٢- ما التراث الذي نحييه؟:

الإجابة عن هذا السؤال تكشف عن خلل واضح في هذا الصدد, إنه مما لا ريب فيه أن تراثنا لحق به قدر لا بأس به من الزيف والدخيل الذي يعصف بما فيه من قيم فاضلة، ومبادئ سامية، وهذا الأمر يفرض علينا أن نتخير ما نخرجه للناس وما ننشره فيهم، منه ما هو كفيل باستمرار المسيرة على الدرب الصحيح، وما سوى ذلك مما لحقه الزيف فهو قطعة شاهدة على جزء من التاريخ، فليظل مكانه مقصورًا على أهل البحث والدرس القادرين على أن يميزوا الخبيث من الطيب.

وإننا لنعجب للمستشرق آرثر جفري لم يجد أمامه كتابًا ينشره من تراثنا إلا كتاب المصاحف للسجستاني، وهو كتاب فيه ما فيه مما يزلزل إيمان المؤمنين بالكتاب العزيز. إن اختيار هذا المخطوط بصفة عامة إنما يريد الطعن في ديننا وتراثنا من خلال التظاهر بالحرص على نشر تراث المسلمين.

وإذا حدث هذا من المستشرق جفري، فهو أمر غير جديد على هؤلاء.

لكن عندما نرى الأزهر الشريف ومجمع البحوث يتصدى لنشر الجامع الكبير للسيوطي، وفيه الكثير من الموضوع والضعيف، فذلك أمر غير مستساغ، أو أن يسهم في فترة من الفترات في نشر كتاب الأخلاق المتبولية للشعراني، وفيه من الزيف ما لا يطاق ولا يحتمل، فهذا دليل على وجود خلل في خطة إحياء التراث.
وكذلك نرى وزارة الثقافة المصرية تسهم مشكورة في إحياء التراث، ثم تطالعنا بالفتوحات المكية لابن عربي، وفيه نظريته الملحدة في وحدة الوجود، فهذا أمر يتطلب وقفة من الغيرة على التراث.

لا بد أن نفكر أولا: ما التراث الذي ينبغي لنا إحياؤه؟

٣- أدعياء التحقيق:

إن التحقيق العلمي عمل مجيد، وجهد مشكور متى التزم المحقق الدرب الصحيح، وراعى الأصول، والتزم بالقواعد، وبذل الجهد من أجل إخراج النص صحيحًا مستقيمًا، وثقت نقوله, وخرجت فيه الآيات والأحاديث، وضبط الغريب.

أما أن يخرج النص كثير التصحيفات والتحريفات، والأخطاء، تفسر الكلمة الواضحة وتترك الغامضة والغريبة، تضبط الكلمات البينة وتترك المشتبهة، فذلك لون من العبث لا يمكن أن نسميه تحقيقًا.

وبكل أسف نجد هؤلاء يكتبون أسماءهم بحروف بارزة على الغلاف "تحقيق فلان" والمؤلف القديم الذي بذل العرق والجهد، وأكد الفكرة يكتب اسمه بحروف صغيرة تحت العنوان!! إنه لون من العدوان على جهود الآخرين.

٤- احتجاز المخطوطات النفيسة:

بعض ذي الكفاءة من أهل التحقيق يحتجزون مخطوطات نفيسة ذات قيمة, على أساس أنهم سيقومون بتحقيقها، ثم يدركهم الملال فلا تخرج ولا يتركون الفرصة لسواهم.

وأحيانًا تتصدى بعض مؤسسات التحقيق لإخراج مخطوط معين فتخرج منه جزءًا أو جزأين، ثم تقصر بها النفقة فتعجز عن إخراج بقية الأجزاء.

٥- خروج بعض المطبوعات باسم التحقيق:

وهو مجرد نشر لا تتوافر فيه أصول التحقيق, مما يعد جناية على هذا العمل العلمي.
من توصيات لجنة تحقيق التراث المنعقدة في بغداد:

عقدت هذه اللجنة في بغداد في المدة من "٦-١٥ رجب ١٤٠٠هـ, ٢٠-٢٩ مايو ١٩٨٠" بإشراف معهد المخطوطات العربية، التابع للمنظمة العربية للثقافة والعلوم, وبالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام بالجمهورية العراقية.

وقد شارك في الندوة التي عقدتها اللجنة, عدد من الأعلام من خبراء التراث، وأصحاب الدراية بالتحقيق، نذكر منهم:

د. شكري فيصل, عضو المجمع السوري، والأستاذ محمد بهجة الأثري، عضو المجمع العراقي، والدكتور فؤاد سزكين أستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا الغربية، والدكتور أحمد سليم سعيدان عميد كلية العلوم، القدس، وعضو مجمع اللغة العربية الأردني.

وبعد مناقشة البحوث المقدمة, انتهت اللجنة إلى إرساء القواعد التالية:

١- أن يكون تحقيق التراث في أيد أمينة قادرة عليه، فلا يقحم نفسه فيه من لم تكتمل أدواته اللغوية والعلمية والفنية.

٢- أن يبنى التحقيق على مناهج منظمة, وأولويات مرتبة.

٣- أن تخضع أعمال حديثي العهد بالتحقيق للتدقيق والمراجعة, على أن يتحمل الأستاذ المراجع التبعة في ذلك كاملة.

٤- أن تصرف عناية خاصة للتراث العلمي؛ استجابة للحاجة الحضارية الراهنة، وتحقيقًا للتوازن بين التراثين: العلمي والأدبي.

٥- أن تنشأ في العواصم العربية فروع لمعهد المخطوطات, يودع في كل فرع منها نسخ من الرقوق المصورة المحفوظة في مقر المعهد.
٦- أقرت اللجنة أن تكون للتحقيق ثلاثة مقاصد, وأن تراعى هذه المقاصد في وضع المنهج والتوصيات:

الأول: تقديم النص صحيحًا مطابقًا للأصول العلمية.

الثاني: توثيق النص نسبة ومادة.

الثالث: توضيح النص وضبطه.

في ضوء هذه المنطلقات والقواعد اتخذت اللجنة سلسلة من التوصيات وهي:

اختيار المخطوط, معرفة النسخ وجمعها, دراسة النسخ وتعرف مراتبها في الصحة, ضبط النص, التعليق على النص, المقدمة, الفهارس, الطباعة والنشر.

ومن توصياتهم في مجال اختيار المخطوط:

تقديم الأهم على المهم، والأصول على الفروع، وما لم ينشر على ما نشر، والتسامح في تجديد نشر المطبوعات التي لم تراع القواعد العلمية في تحقيقها، واختيار طوائف من المخطوطات يرى المختصون ترشيحها للتحقيق، والاهتمام بتحقيق التراث العلمي.

وفي مجال معرفة النسخ, أوصت اللجنة معهد المخطوطات بعمل فهرس موحد شامل لما دون في فهارس المخطوطات العامة والخاصة، وعلى المعهد أن يتعرف مكان المخطوطات القيمة التي لم تصل إليها يده بعد، ووضع فهارس تفصيلية للمخطوطات تنشر على المؤسسات التراثية في العالم العربي.

وفي الفهارس أوصت بفهرسة كل ما يمكن فهرسته من العمل المحقق.

وأوصت في فهرسة الأعلام بأن نبدأ بالأسماء المبدوءة بألفاظ: ابن، ثم ابنة، ثم أبو، ثم أم، ثم بنت، ولا يذكر هنا الصفحات إذا كانت الأسماء معروفة, وإنما يحال على الاسم في موضعه من توالي الحروف الهجائية، فالعلم: أبو اليمن الكندي يذكر في "أبو اليمن" ويذكر اسمه إلى جانبه زيد بن الحسن، ويحال عليه وتذكر أرقام الصفحات في حرف الزاي.
ثم تبدأ فهرسة الأسماء على ترتيب حروف الجهاء، بدءًا بالهمزة الممدودة مثل: آدم ونحوه، ثم ما يكون بعد ذلك: الهمزة والباء.

والألفاظ التي تداخلها الهمزة يراعى في موضعها الحرف الذي توضع عليه الهمزة.

وفيما عدا ذلك من الأمور التي ذكرتها سابقًا في قواعد التحقيق, أرى أن ما أوصت به اللجنة لا يزيد عما ذكرته فيها من قواعد وأصول.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

وكان الفراغ من تصنيف هذا المؤلف -ولله الحمد والمنة- في تمام الساعة العاشرة من مساء الاثنين، السابع والعشرين من ربيع الأول ١٤٠٩هـ, الموافق السابع من نوفمبر ١٩٨٨م, الدقي.

المعتز بالله وحده

كتبه د. السيد رزق الطويل
عميد سابق لكلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم