تحقيق التُّراث

تحقيق التُّراث
مَوْسُوعَةُ الْهُلًاْلِيُّ - " من كتاب مقدمة في أصول البحث العلمي وتحقيق التراث" مقدمة في أصول البحث العلمي وتحقيق التراث الناشر: المكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة: الثانية عدد الصفحات: ٢٤٠" 
من تأليف االدكتور السيد رزق الطويل، المتوفي سنة 1985م- مصر ،  رحمه الله ورحم جميع أموات المسلمين، ونتمنى للجميع الاستفادة من مناهل العلم والثقافة وبناء وطناً حضارياً مزدهراً، وينعم الجميع بحياة ملؤها المحبة والسلام..

[الفصل الثالث: تحقيق التراث]
...
معنى التحقيق:
الحق: هو الأمر الثابت والواجب, حققت الأمر: إذا بحثت عن وجه الحق فيه وصرت منه على يقين. والمحقق: هو من يتحرى الحق فيما يقول وما يعمل, ويقال: تحقق عنده الخبر أي: صح، وحققت قوله وظنه تحقيقا أي: صدقت, وكلام محقق أي: رصين1.
معنى هذا أن لفظ التحقيق يدور حول الصحة والثبات واليقين والبعد عن الزيف.
وكلمة التحقيق في تراثنا لها معنى يختلف عن معناها الاصطلاحي المعاصر، إذ هي تعني عملا علميا يتناول المسألة بالبحث ويتحرى وجوه الخلاف، ويحدد محل النزاع، ويخرج برأي في المسألة يقرب من الصواب ويبعد عما في الآراء المتناقضة من أوهام؛ ولذلك نرى في كتب التراث هذه العبارة: ويرى المحققون كذا، أو: وذلك عند المحققين.
وأما كلمة "التحقيق" هذا المصطلح المعاصر، والسائد في هذه الأيام فتذكر مقرونة إما بلفظ "النصوص" أو المخطوطات، أو التراث؛ فيقال: تحقيق النصوص، أو تحقيق المخطوطات، أو تحقيق التراث.
وبإضافتها لهذه الألفاظ يتحدد المفهوم الحديث لها.
مع ملاحظة أن المفهوم الحديث للفظ "النص" وهو: صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف2, يختلف عن معناه المعجمي، نقول: نصصت الحديث أنصه: إذا أظهرته3 وجاء في مجالس ثعلب: وقال أبو العباس: نصه أي: ظهره، وكل مظهر فهو منصوص، وأصله من نصه: أقعده على المنصة4.
ولعل المعنى الحديث يرجع بسبب إلى المعنى القديم؛ لأن الظهور والوضوح والالتزام سمة للنص بمفهومه المعاصر الذي يعني تحديد كلام معين على الصورة التي صدرت من قائله.
ولا يوجد اختلاف واضح بين الألفاظ الثلاثة التي تضاف لكلمة تحقيق؛ لأن التراث مخطوط باليد، وهو لا يعدو كونه مجموعة من النصوص.
على ضوء هذا نستطيع أن نقول: إن تحقيق النصوص أو المخطوطات يعني اتباع وسائل معينة للوصول بالنص المخطوط إلى الصورة التي يغلب على الظن أنها كلام المؤلف الذي نسب إليه هذا النص. يقول الأستاذ عبد السلام هارون في تعريف الكتاب المحقق بأنه: الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه5.
هل العرب عرفوا تحقيق النصوص قديما بالمعنى الذي عرفت به حديثًا؟:
أستطيع أن أقول: إن أسلافنا الأوائل عرفوا التحقيق بمعناه المعاصر أو على صورة قريبة منه.
فهم عرفوا "الضبط" بمعنى عملية تقويم نص الكتاب والتأكد من صحته. نقول كما جاء في المعجم الوسيط: ضبط الكتاب ونحوه: أصلح خلله وشكله، وضبط الكتاب بمعنى: تقويمه وتصويبه، مأخوذ من الضبط والرواية الشفوية.
وعرفوا "التحرير" وهو مرادف للفظ الضبط؛ إذ يريدون به تأكيد الكتابة والتأكد من صحتها أيضًا، وهو تحرير الكتاب من العناصر الزائفة والدخيلة التي حشرت بمرور الزمن.
وأما المقابلة فهي مقابلة نسخ الكتاب المختلفة بعضها على بعض, من أجل ضبط النص وتصحيحه.
ومما يدل على أن هذه الأعمال الثلاثة التي تعد من جوهر عملية التحقيق عرف بها أسلافنا الأوائل, هذه الأحداث التي أسوقها فيما يلي:
جاء في جذوة المقتبس: أمرنا الحكم المستنصر بالله -رحمه الله- بمقابلة كتاب العين للخليل بن أحمد مع أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي، وأحضر من الكتاب نسخا كثيرة، في جملتها نسخة القاضي منذر بن سعيد التي رواها بمصر عن ابن ولاد، فمر لنا صور من الكتاب بالمقابلة6.
ويقول الأستاذ علي النجدي ناصف في كتابه سيبويه إمام النحاة: كان للقدماء عناية ملحوظة بضبط النصوص، والمحافظة على صحتها، وكانوا يروون أخبارها بالسند حتى يرفعوها إلى أصحابها على نحو ما كانوا يصنعون بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينسبون نسخ الكتاب التي يكتبونها فرعا إلى أصل حتى يبلغوا بها أوائلها التي تحدرت منها، وكانوا يقرءونها معارضة على الأصول التي ينقلون عنها7.
إن هذه الأحداث تعني أن العرب عرفوا التحقيق قبل الأوروبيين بزمن مديد، لكنه لم يكن عندهم علم يدرس على أيدي الشيوخ أو المدارس ومراكز البحث، وإنما كان أسلوبا يهدف إلى الحفاظ على النص، وتيسير أسباب سلامته8.
غير أن المحققين المعاصرين زادوا أشياء هي أدنى إلى الصنعة، لكنها خبرات عرفوها ممن سبقوهم مثل: علامات الترقيم، والتبويب الجيد، والفهارس المتعددة التي تيسر البحث للأجيال المقبلة.
مراحل التحقيق:
في الفصل الأول من هذا الباب تحدثنا عن التراث والجهود في نشره، كما أشرنا إلى المراحل التي مرت بها حركة النشر، وأنها انتهت إلى صورتها المثلى فيما سمي بالتحقيق.
ومن هنا أستطيع أن أحيل القارئ إلى ما كتبته عن مراحل نشر التراث؛ إذ هي في حقيقتها تصور المراحل التاريخية لتحقيق التراث.
وكانت البداية -كما ذكرنا- مجرد طباعة للمخطوطات بآلة الطباعة في صورتها الأولى التي اكتشفت بها؛ من غير اهتمام بمقابلة النسخ، ولا التصحيح، ولا الفهرسة لها.
ثم جاءت مطبعة بولاق فكانت مطبوعاتها خطوة هامة على طريق التحقيق، وكان فيها مصححون على درجة عالية من الكفاءة والخبرة، فكانت المطبوعات تخرج من أيديهم غاية في الصحة والإتقان، بالرغم من أنهم أحيانا كانوا يطبعون أكثر من كتاب في مطبوع واحد، لكنهم لم يأخذوا بوسائل التحقيق ومناهجه العلمية التي عرفت بعد.
وفي المرحلة التالية التي ظهر فيها أعلام الناشرين ونابهوهم, رأيناهم قد خطوا خطوات واسعة نحو التحقيق بمعناه الصحيح من حيث ذكر المخطوطات وأوصافها، وإثبات صور لبعض صفحاتها وإن لم يتم ذلك على الوجة الأكمل.
وبرغم هذا طبعت أمهات الكتب وكثير من الموسوعات العلمية، وتخلصت الكتب من شكلها التقليدي, وهو جمع أكثر من كتاب في مطبوع واحد.
ثم انتهينا إلى الصورة الكاملة للتحقيق العلمي، تراعى فيها أصوله ومناهجه وظهر فيها محققون مبرزون، كما ظهرت هيئات تتوفر على التحقيق، وتضع له قواعده وتقوم بتعليمه لأجيال العلماء، لتظل عملية نشر التراث قائمة، ومسيرته مستمدة وصلا لحاضرنا بماضينا المجيد.
ومن هذه الهيئات: دار الكتب المصرية، والقسم الأدبي بها، ومعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، ومراكز تحقيق التراث الملحقة ببعض الجامعات في العالم العربي، بجانب دور النشر البارزة التي كان يهيمن عليها علماء، وكانوا يعدون نشر التراث وتحقيقه رسالة لا وسيلة للكسب.
أضف إلى هذا وذاك بعض الشخصيات العلمية التي عرفت بالتحقيق العلمي, حتى إن الواحد منهم كان يعد مدرسة في هذا الصدد، له تلاميذه ومريدوه الذين تمرسوا على يديه المهمة الصعبة.
وكان للاتصال بالمستشرقين -ولهم سابقة في هذا المجال وسبق إليه- دور هام في نشر التحقيق، ومناهجه، والوسائل العلمية التي ينبغي أن تتبع حتى يخرج النص على صورة سليمة قويمة9.
شروط المحقق:
الباحث الذي يريد التصدي لتحقيق مخطوط عربي ينبغي أن يكون ملما بالخبرات العلمية والعملية التالية:
وأولها: المعرفة باللغة العربية بكل مستوياتها: صوتية وصرفية ونحوية، مع الخبرة بأساليبها وخصائص التعبير فيها، ولغات القبائل، والغريب.
وكذلك معرفة بالخطوط العربية، والمراحل التاريخية لتطور الخط العربي، وما يتميز به كل نوع من أنواع الخطوط، فالخط المشرقي يختلف في بعض الأمور عن الخط المغربي؛ إذ إن الأخير تتشابه فيه الفاء مع القاف في أن الإعجام بنقطة واحدة توضع فوق الحرف في القاف وتحت الحرف في الفاء.
وبجانب ذلك لا بد أن يكون على دراية جيدة بالببليوجرافيا العربية، وفهارس وقوائم الكتب العربية، المطبوع منها والمخطوط.
وقد قدمت في الفصول السابقة إلماما كافيا بهذه الأمور.
ثم المعرفة بأصول التحقيق وقواعده وأصول نشر الكتب.
هذه شروط عامة.
وهناك شروط خاصة تختلف باختلاف الكتاب الذي يتصدى الباحث لتحقيقه.
فإذا كان المخطوط في النحو، فلا بد أن يكون ملما بقواعد هذا العلم واصطلاحاته ومدارسه وتاريخه ونشأته وأعلامه المشهورين فيه وبالمكتبة النحوية المطبوعة, والمخطوطة.
وبجانب ذلك علوم اللغة الأخرى وآدابها، وكذا العلوم الأخرى التي تربطها بالنحو صلة ما، كالمنطق، والفلسفة، وعلم الكلام، وعلم أصول الفقه.
وكذلك إذا كان البحث بصدد تحقيق كتاب فقهي, فإنه يطالب بالإلمام بأحكام الفقه ومدارسه وأصوله، وأساليب الفقهاء، وتاريخ الفقه، ونشأة الاجتهاد، وكذلك المنطق الذي هو آلة العلماء، ثم الخبرة الكافية بالمصنفات الفقهية، المخطوط منها والمطبوع.
وقل مثل ذلك في مخطوط في العقيدة.
أو في التفسير وعلوم القرآن.
أو في الحديث الشريف وعلومه.
وهذا كله بجانب صفات خُلُقية لازمة للباحث كالأمانة في النقل، والحيدة في الحكم، والنزاهة في النقد.
وأن يتوخى الإجادة والإتقان حتى يخرج النص المحقق على أحسن وجه, وأكمل صورة.
أصول التحقيق وقواعده:

أصبح التحقيق في المرحلة الراهنة عملا علميا يستند إلى أصول وقواعد منهجية يلزم اتباعها, حتى يخرج النص في صورة يغلب على الظن كما قلنا: إنها أقرب صورة لما كتبه المصنف.

ولأن التحقيق في الفترة الأخيرة دخل في دائرة البحوث الجامعية، وأصبحت أعمال التحقيق مؤهلة لصاحبها للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه، رأيناه قد أخذ بعدًا، لم يكن مطروحا لدى كبار المحققين من العرب والمستشرقين، وذلك بأن يتحول التحقيق إلى دراسة للنص، وثوثيق النقول وتحقيق الخلاف، والترجمة للأعلام, ونحو ذلك.

وهذا البعد -كما أشرت سابقًا- كان معروفا عند أسلافنا، ومن كان يتصدى منهم لذلك كانوا يعرفون بالمحققين؛ إذ يحسمون الرأي في المسائل الخلافية باجتهاد وسط أقرب إلى الاعتدال.

لكن الالتزام بقواعد التحقيق النصي يصبح هو المسئولية الأولى، وسنبسطها هنا بإذن الله وحده.

خطوات التحقيق:

عندما يتخير الباحث كتابا من كتب التراث يتصدى لتحقيقه يكون مطالبا بالتزام الخطوات التالية حتى يخرح عمله على الصورة اللائقة، ويكون جهده في الوقت نفسه مثمرًا ومفيدًا:

الخطوات الأولى:
أن يطمئن إلى أن هذا المخطوط لم يسبق تحقيقه في مكان ما، وقد يكون سبق نشره، ولكنه مجرد نشر بدون تحقيق، مثل هذا لا بأس من تحقيقه؛ لأن النشر في بداية الأمر -كما عرفنا- كان مجرد طباعة فحسب، لكن بالتحقيق ستكون الفائدة أكبر وأعظم، وانتفاع الباحثين به أكثر.
وهذا الأمر يتطلب من الباحث مراسلة المؤسسات المعنية بالتحقيق, والآن صدرت مجلة عن معهد المخطوطات التابع للجامعة العربية، وفيها إشارات لأعمال التحقيق التي تقع في ساحة العالم العربي وجامعاته، بجانب مجلات كثيرة لها هذا الاهتمام.
وهناك جمعية إحياء التراث بالكويت ولها مراكز للمخطوطات, وتتصدى لمثل هذا الأمور10.
الخطوات الثانية:
جمع أكبر قدر متاح من نسخ المخطوطة المراد تحقيقها.
ويمكن الحصول عليها بمتابعة فهارس المخطوطات التي أثبتنا أكثرها في الفصل السابق؛ لتكون بين يدي الباحث، بالإضافة إلى المجلات والدوريات المعنية بالتراث عربية وأجنبية، نذكر منها ما يلي:
١- مجلة اللغة العربية، بالقاهرة.
٢- مجلة المجمع العربي، بدمشق.
٣- مجلة المجمع العربي العراقي، ببغداد.
٤- مجلة التراث العربي، بدمشق.
٥- مجلة اللسان العربي، بالرباط.
٦- مجلة معهد المخطوطات العربية، بالقاهرة "الكويت الآن".
٧- مجلة "اليونسكو للمكتبات، بالقاهرة".
٨- مجلة "مجمع اللغة العربية، بعمان".
٩- مجلة "عالم الكتب, بالرياض".
١٠- النشرة البيلوجرافية اللبنانية, دار الكتب الوطنية, بيروت.
١١- البيلوجرافيا الجزائرية, المكتبة الوطنية, الجزائر.
١٢- إعلامات بيلوجرافية, دار الكتب الوطنية, تونس.
ومن الدوريات الأجنبية المعنية بشئون المخطوطات العربية:
١- المجلة الآسيوية الفرنسية, ورمزها: JAF.
٢- مجلة الإسلاميات "إسلاميكا" ورمزها: ISIGA.
Journal Asia Tique Franciais
Islamica. Ed A. Fischer et E. Leipzig. ١٩٢٧
٣- مجلة الدراسات الإسلامية, ورمزها: REI
Revue des Etudes IsIamiques.
٤- مجلة عالم الإسلام، ورمزها: RMM.
Revue Du Monde Musulman
وهناك دوريات كثيرة بالعربية واللغات الأوروبية غير ما ذكرت.
وارجع إلى: الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية, رودي بارت, ترجمة الدكتور مصطفى ماهر, القاهرة، وكذلك مثال:
ما أسهم به المستشرقون الأسبان في الدراسات الأندلسية الإسلامية، د. محسن جمال الدين, مجلة المورد, بغداد مجلد ٩ عدد ٤ سنة ١٤٠١هـ -١٩٨١م, والمستشرقون للأستاذ نجيب العقيقي، واقرأ كذلك بروكلمان في تاريخ الأدب العربي، واقرأ تاريخ التراث لفؤاد سزكين.
المرحلة الثالثة: اعتماد النسخة الأصل
قد يكشف البحث عن نسخ أخرى للمخطوط أنه ليس له إلا نسخة واحدة فريدة، وعند ذاك لا مفر من الاعتماد واعتبارها أصلًا.
وقد حققت كتب كثيرة اعتمادًا على نسخة واحدة, ومن ذلك:
١- كتاب شرح أبيات سيبويه، لأبي جعفر النحاس "٣٥٨هـ".
ولا توجد له إلا مخطوطة واحدة محفوظة بمكتبة أحمد الثالث بطوب قبو في إستانبول تحت رقم ٢٦٣٥.
وقد اعتمد هذه النسخة المحققان: د. زهير غازي زاهد في طبعته الأولى سنة ١٩٧٤ النجف بالعراق، والأستاذ أحمد خطاب في طبعته الأولى سنة ١٩٧٤، مطابع المكتبة العربية في حلب.
٢- التوطئة لأبي علي الشلوبين "٦٤٥هـ" وليس لهذا الكتاب إلا نسخة وحيدة محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم "٦٦٨هـ" نحو تيمور، وقد اعتمدها د. يوسف أحمد المطوع، وحقق هذا الكتاب وصدرت طبعته الأولى سنة ١٩٧٣م.
٣- كتاب منال الطالب شرح طوال الغرائب، لأبي السعادات مجد الدين بن الأثير المتوفى سنة ٦٠٦هـ، لا توجد له إلا نسخة وحيدة احتفظت بها الخزانة العامة بمدينة الرباط، بالمغرب تحت رقم ١٨٢ أوقاف، وقد اعتمد الدكتور محمود الطناحي هذه النسخة في تحقيق الكتاب، وصدر في مجلد واحد عن مركز البحث العلمي وتحقيق التراث، بجامعة أم القرى، مكة المكرمة ١٩٨٤.
تعدد النسخ:
أما إذا تعددت النسخ، وتفاوتت درجاتها من حيث الزمن وجودة الخط، وشخصية الناسخ ونحو ذلك، فإنه يلزمنا أن نعمل مفاضلة نستخرج على أساسها نسخة نعدها أصلا، نقابل عليه النسخ الأخرى وتذكر وجوه الاختلاف بينها.
وتقوم المفاضلة على الأسس التالية، أو قل: على هذا الترتيب من حيث الأهمية:
١- النسخة المكتوبة بخط المؤلف.
٢- النسخة التي أملاها المصنف على طلابه.
٣- نسخة قرأها المؤلف بنفسه، وكتب بخط يده عليها ما يثبت قراءته لها.
٤- نسخة قرئت على المؤلف, وأثبت عليها ما يفيد سماعه لها.
٥- نسخة منقولة عن نسخة المؤلف، أو قوبلت على نسخة المؤلف.
٦- نسخة كتبت في عصر المؤلف، وأثبتت عليها سماعات من العلماء.
٧- نسخة كتبت في عصر المؤلف وليس عليها سماعات.
٨- نسخة كتبت بعد عصر المؤلف وليس عليها سماعات.
وهناك اعتبارات أخرى تجعل بعض النسخ أولى من بعض في الثقة كصحة المتن، ودقة الكاتب, وقلة الإسقاط11.
وإذا كان بين أيدينا نسختان: نسخة قديمة كثيرة التصحيفات، والتحريفات, والنقصان، وأخرى حديثة لكنها صحيحة, فالأولى الاعتماد على الحديثة الصحيحة؛ لأن سلامة النسخة الحديثة يكون راجعًا إلى كونها مكتوبة بخط ناسخ محقق، له دراية فأصلح الخطأ وقومه أثناء عملية النسخ، وقد تكون النسخة الحديثة منقولة عن نسخة أخرى قديمة صحيحة، وتسرب إليها التلف.
أيا ما كان الأمر، فإن هذا المنهج الذي ذكرناه في الموازنة بين النسخ المتعددة أفضل بكثير من المنهج الذي ذكره برجستراسر في المفاضلة بين النسخ؛ إذ جعله قائمًا على الأسس التالية:
١- النسخ الكاملة أفضل من النسخ الناقصة.
٢- الواضحة أحسن من غير الواضحة.
٣- القديمة أفضل من الحديثة.
٤- النسخ التي قوبلت بغيرها أحسن من التي لم تقابل12.
ذلك لأن هذه الأسس عامة وينقصها التحديد الدقيق لتتم على أساسها المفاضلة، وقد ذكر برجستراسر في محاضراته التي ألقاها على طلبة كلية الآداب، وهي تعد في طليعة ما كتب عن قضية تحقيق النصوص، أن هناك كتبا حققت، ولم تلتزم هذه القواعد، ومنها:
١- كتاب اللمع في التصوف، لأبي نصر عبد الله بن علي بن محمد بن يحيى السراج الطوسي، الصوفي، المتوفى سنة ٣٧٨ والذي نشره رينولد نيكلسون سنة ١٩١٤ في ليدن، وله مخطوطتان كتبت أقدمهما سنة ٥٤٨هـ، وكتبت الأخيرة منهما سنة ٦٣٨هـ والقديمة فيها نقص يصل إلى نحو ثلث الكتاب, والموجود منها غير مرتب ترتيبًا واضحًا، فبنى الناشر طبعته على النسخة الحديثة، ولم يستعمل القديمة إلا في بعض المقابلات لتصحيح النص.
وخروج الناشر هنا عن القاعدة صحيح, لما ذكرناه سابقًا؛ لأن قدم النسخة في حد ذاته ليس مسوغا كافيا.
٢- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لموفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن أبي أصيبعة بن خليفة السعدي الخزرجي، نشره المستشرق أوجست موللر، كتبت نسخته القديمة سنة ٧١٢هـ، أي: بعد وفاة المؤلف بأقل من نصف قرن، وأخطاؤها كثيرة، وأحسن منها نسخة أخرى أحدث منها بثلاثة قرون أي: إنها كتبت سنة ١٠١٧هـ، لكنها وإن كانت فاسدة في بعض أجزائها إلا أنه يبدو أنها نسخت من أصل قديم جيد؛ لأن أخطاءها قليلة13.
ومن هنا كان الناشر على صواب في عدوله عن القديمة.
وإذا تعددت النسخ وهي غير مؤرخة، فعلى الباحث أن يجد في البحث عن القرائن والشواهد والأمارات التي تميز واحدة من الأخرى تأتي بين السطور أو على الهوامش كاسم الناسخ، وعصر النسخ، ونوع الخط وطريقة الكتابة، والورق والحبر المستعملين في عملية النسخ، فإذا لم توجد أمارة ما اعتمدت جميع النسخ.
المرحلة الرابعة: توثيق نسبة المخطوطة:
وهذه قضية بالغة الأهمية أن يتعرف المحقق مؤلف الكتاب الذي يريد تحقيقه، إذا لم يكن مكتوبًا على الصفحة الأولى للمخطوط.
ويمكن محاولة ذلك بقراءة جيدة للنص المخطوط، فقد يعثر القارئ على اسم المؤلف، أو على عصره، أو يذكر أثناء الصفحات اسم أحد شيوخه، وقد يعرض آراء منسوبة إلى المؤلف المجهول، وهذه الآراء معروفة لدى جمهرة العلماء صاحبها وقائلها.
وفي أغلب الظن سيعثر الباحث على أمارات، أو إشارات تدل على مؤلف بعينه يغلب على الظن نسبة المخطوط إليه، أو على الأقل تضييق دائرة الظنون.
وإذا لم نصل إلى القطع يمكن أن ينشر النص المخطوط وتيسر قراءته للناس، ويذكر المحقق جهوده التي بذلها وما انتهى إليه الأمر بشأنها.
وإذا ذكر للمخطوط مصنف معين فلا يعفينا هذا من توثيق ما كتب.
وذلك بإحدى الوسائل الآتية:
أ- قراءة النص لعل الباحث يجد فيه ما يؤكد خطأ النسبة المثبتة على الصفحة الأولى، أو ما يشير إلى علم آخر هو أولى بنسبة المخطوط إليه.
ب- فهارس المؤلفين والكتب.
جـ- كتب التراجم والطبقات.
د- فهارس المكتبات العامة والخاصة، بما فيها من مخطوط ومطبوع.
وهذه بعض الشواهد لما توصلت إليه اجتهادات الباحثين من نتائج هامة في قضية التوثيق:
١- كتاب تنبيه الملوك والمكايد، منسوب للجاحظ "٢٥٥هـ" ومخطوطته بدار الكتب المصرية رقم ٢٣٤٥ أدب, درس نصه الأستاذ عبد السلام هارون فوجد بين سطوره ما ينفي هذه النسبة تمامًا؛ إذ وجد من بين أبوابه: نكت مكايد كافور الإخشيدي، ومكيدة توزون بالمتقي بالله، وكافور الإخشيدي كان يعيش في الفترة بين سنتي ١٩٢-٢٥٧هـ، والمتقي كان يعيش في الفترة بين سنتي ٢٩٧-٣٥٧هـ أي: بعد وفاة الجاحظ بنحو أربعين سنة.
كما أن أسلوب المقدمة يتعارض تمامًا مع ما عرف من خصائص لأسلوب الجاحظ14.
٢- إعراب القرآن المنسوب للزجاج "٣١١هـ" المنشور في سلسلة تراثنا سنة ١٩٦٣ بتحقيق إبراهيم الإبياري غلب على ظن محققه أنه من تأليف مكي بن أبي طالب القيرواني سنة ٤٣٧هـ، ولكن لو تدبرنا نص الكتاب نجد أنه ذكر الرأي النحوي القائل بأن اسم الفعل قسم رابع للكلمة، والنحويون ينسبون هذا الرأي لأبي جعفر أحمد بن صابر الذي عاش في القرن السابع, مما يشير إلى أن مؤلف الكتاب معاصر لابن صابر أو متأخر عنه.

٣- شرح ديوان المتنبي، نسب إلى أبي البقاء العكبري، المتوفى ٦١٦هـ وطبع أربع طبعات, منها: طبعة بولاق سنة ١٢٨٧هـ وآخرها طبعة الحلبي سنة ١٣٩١هـ، بتحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي.
وقد انتهى الأستاذ مصطفى جواد إلى أنه من تأليف: عفيف الدين علي بن عدلان الموصلي المتوفى سنة ٦٦٦.
وهذه النتيجة ثمرة لقراءة متأنية لمضمون الكتاب، فاكتشف هذه القرائن:
أ- البكري كان ضريرًا، وترجم له الصفدي في "نكت الهميان" ثم تجد في مقدمة الكتاب أن مؤلفه قرأ الديوان على الشيخ مكي بن ريان الموصلي.
ب- يذكر الشارح أثناء الشرح أنه انحدر من الموصل مارا بسامرا، ورأى موضع الغيبة المعروف عند الشيعة الإمامية.
جـ- ذكر أنه نقل بخطه فوائد من كتاب الأمالي لابن الشجري.
هذه الشواهد لا تنطبق على عالم ضرير، فقد بصره وهو شاب ولم يترك بغداد إلا إلى مواضع قريبة منها، وإنما هذه الأوصاف تنطبق على رجل آخر، هو سمي العكبري، وانتهت حياته في منتصف القرن السابع، وهذه الأوصاف تنطبق عليه، وهو الذي ورد اسمه أثناء الشرح15.
والمطلع على فهارس المكتبات العامة والخاصة يجد أن مؤلفيها كشفوا عن خطأ النسبة لبعض الكتب إلى مؤلفين غير مؤلفيها، أو اختلاف في نسبتها إلى أكثر من مؤلف.
ومن ذلك ما جاء في الفهرست لابن النديم؛ إذ قال عن الفتح بن خاقان: وله من الكتب كتاب البستان, منسوب إليه، والذي ألفه رجل يعرف بمحمد بن عبد ربه، ويلقب برأس البغل.
المرحلة الخامسة: ضبط عنوان الكتاب، واسم المؤلف
قد يذكر للمخطوط العنوان الذي وصفه له مؤلفه على الصفحة الأولى، أو ذكره في مقدمة كتابه، أو أشار إليه في خاتمة الكتاب، أو أثنائه.
وقد يأتي المخطوط بلا عنوان، وذلك يرجع لضياع الورقة الأولى، أو يكون هناك خرق في موضع العنوان بفعل الأرضة, أو بتلاعب النساخ والتجار لحاجة في نفوسهم، أو يكون العنوان مطموسًا بسبب الرطوبة.
وهناك وضع ثابت بأن يأتي المخطوط وقد تغير عنوانه إما للجهل بعنوانه، أو تزييف العنوان لأهداف شخصية، أو تجارية، أو بسبب اجتهاد خاطئ.
في الحالتين الأخيرتين يمكن التعرف على العنوان الصحيح للكتاب بما يأتي:
١- القراءة المتأنية للكتاب.
٢- الرجوع إلى فهارس الكتب للوقوف على العنوان، وذلك بذكر موضوع الكتاب، أو مؤلف الكتاب.
وسنسوق شاهدًا واحدًا على الخلط في عناوين الكتب المخطوطة، وكيف كشف البحث عن الزيف والتلفيق الذي يحدث في بعض عناوين الكتب:
كتاب الروضة الندية في شواهد علوم العربية، منسوب لابن هشام الأنصاري، والكتاب مخطوط ومحفوظ في مكتبة برلين برقم ٦٧٥٢.
وكثير من الباحثين ذكروا هذا المؤلف بين مؤلفات ابن هشام، ومنهم فايز فارس في مقدمة كتاب اللمع لابن جني، على أساس أن الكتاب شرح لشواهد "اللمع" كما ذكر ذلك أيضًا الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في مقدمة كتاب أوضح المسالك، كما قال ذلك أيضًا د. عبد العال سالم مكرم في مقدمة كتابه: المدرسة النحوية في مصر والشام، والدكتور أحمد محمود الهرميك أشار إلى ذلك في مقدمة كتاب الجامع الصغير لابن هشام.
والحقيقة التي هدى إليها البحث: أن الكتاب المسمى الروضة الندية هو بعينه كتاب الاقتراح في أصول النحو للسيوطي، وقد كشف هذا التلاعب وأثبته، ومن أحضر صورة الكتاب من مكتبة برلين، وطابقها مع كتاب الاقتراح تأكدت له النتيجة16.
وهناك شاهد آخر على اختلاف العناوين وتعددها:
كتاب شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر, لأبي علي الفارسي النحوي "٣٧٧هـ".
محقق الكتاب د. علي جابر المنصوري, ذكر في المقدمة ما يلي: "ولقد جاء اسم هذا الكتاب بأشكال مختلفة، سواء على ظهر المخطوطة أو في المصنفات الأخرى، فقد ذكر باسم: أبيات الإعراب, كتاب الشعر, الشعر العضدي, شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر.
ويبدو لي أن الاسم الأخير هو الاسم الكامل للكتاب، وقد آثرنا هذه التسمية لأنها وردت في كتاب "الحجة" أولا، ولأنها أقرب إلى واقع المضمون فيها ثانيًا"16.
وتبقى بعد ذلك مهمة المحقق في أن يتخير الاسم الملائم لمضمون الكتاب، أو لقرائن أخرى تدل عليه.
وأما أسماء المؤلفين, فيقع فيها الخطأ نتيجة التشابه بين الأسماء, منها اسم الأب مع الابن، وأحيانا مع الجد، أو يقع التشابه في الكنى والألقاب، فهناك -مثلا- الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي "١٧٥هـ" وهناك الخليل بن أحمد أبو عبد الله المتوفى سنة ٢٧٩هـ، ومن هنا نسب الدكتور رمضان عبد التواب إلى الأول كتاب معاني الحروف سنة ١٩٦٩م، ثم جاء الدكتور رمضان ششن في كتابه نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا ١/ ٤٥٩، ونص على أن هذا الكتاب وكذلك كتاب جمل الإعراب للثاني "٣٧٩هـ".
وكذلك تعددت في كتب التراث اسم ابن تيمية: الابن والأب والجد، وكذلك الإبياري: أبو البركات أو أبو بكر، ومن هنا فمن واجب المحقق أن يرجع إلى كتب الفهارس، والتراجم، والكتب التي عنيت بالمؤتلف والمختلف، والمتشابه, ونحو ذلك، وفي تراثنا منها كثير، وذلك ليضبط الاسم ضبطا صحيحًا قويمًا.
المرحلة السادسة: المقابلة بين النسخ:
عندما ينتهي المحقق إلى نسخة يعدها أصلًا، ويرمز إليها برمز معين، وليكن هذا الرمز هو الحرف "أ" أو "ص" أو "صل" ثم يأتي إلى النسخ الأخرى، ويجعل لكل منها رمزًا يعينها بأن يرمز إليها بحرف من حروف الهجاء أو برمز يشير إلى ناسخها، أو المدينة الموجودة فيها, أو المكتبة التي تحتويها.
فالباحث أو المحقق ينسخ نسخة الأصل على أوراق مناسبة، ينسخ نحو نصف الصفحة ويترك النصف الأسفل لإثبات ما تسفر عنه المقابلة بين النسخ مما يأتي:
١- الزيادة والنقصان.
٢- بياض أو خروم.
٣- أخطاء, أو تصحيف، أو تحريف.
والمحقق إزاء هذه الأمور المشار إليها مطالب بأمرين:
أولهما: إثبات الفروق بين النسخ.
وهذه هي المرحلة الأولى في التحقيق، وتعرف بالتحقيق الابتدائي18.
جاء في معجم المصطلحات العربية: التحقيق الابتدائي، مصطلح يطلق على المرحلة الأولى في تحقيق النصوص القديمة من جمع النسخ للمؤلف المخطوط، ومعرفة تاريخها، ومقابلتها بعضها ببعض، وذكر كل الاختلافات بينها، واختيار الأقرب منها للصواب حتى يكون أساسًا للتحقيق النهائي19.
والآخر: تقويم النص بالتصويب والتكملة والتعليق.
تقويم النص:
لا نكتفي بإثبات الفروق بين النسخ، ولكننا نقوم معوجها، ونعالج خطأها.
ويمكن تعريف تقويم النص بأنه: تحرير النص في شكل يجعله أقرب ما يكون إلى الصورة التي كتبها مؤلف الكتاب.
والفساد الذي يطرأ على النص في شكل صورة من الصور السابقة يرجع إلى سهو المؤلف, أو من غفلة الناسخ، أو جهله، أو تعمده لغاية "ما" أو بسبب من الإهمال ومؤثرات الجو الطبيعية.
ومظاهر الفساد التي تحتاج إلى تقويم تتمثل في:
١- التصحيف.
٢- التحريف.
٣- الخطأ.
ويمكن كشف هذا الفساد بالقراءة المتأنية للنص والخبرة بأسلوب المؤلف، وكذا مراجعة كتبه الأخرى إن تيسرت، أو مراجعة الكتب المؤلفة في المادة موضوع المخطوط.
ولتقويم هذه المظاهر الثلاثة طريقتان:
الأولى: أن نبقي في النص الكلمة التي وقع فيها التصحيف أو التحريف أو الخطأ، ثم يوضع عليها رقم، ويذكر الصواب في الهامش، مع التعليل أو بدونه, مع الإشارة إلى نوع الخطأ.

والأخرى: أن يذكر التصويب في صلب المخطوط، ثم نذكر في الهامش الكلمة على حالتها الأولى مع الإشارة إلى ما حدث فيها، وهذه الطريقة أولى وأجدى.
أما إذا كشفت المقابلة عن خروم أو بياض، فلنا أن نشير إلى أن هذا بياض أو خروم في الأصل، أو نأتي بعبارة تنسجم مع السياق توضع بين معقوفين، وتشير في الهامش إلى أنه من تأليف المحقق، ومكانها بياض في الأصل20.
وإذا كشفت عن زيادة كلمة أو عبارة أو سطر في نسخة وعدم وجودها في نسخة أخرى، فإن كانت الزيادة في نسخة الأصل فقط، أو في الأصل وبعض النسخ الأخرى، تثبت الزيادة ويوضع لها رقم, ويشار في الهامش إلى أنها موجودة في كذا وغير موجودة في كذا.
وإن كانت الزيادة في غير نسخة الأصل والسياق يتطلبها، توضع مع الأصل بين قوسين، ويشار في الهامش إلى النسخة التي فيها الزيادة، أما إذا كان السياق لا يقتضيها فيوضع رقم في الأصل على الموضع الذي كان ينبغي أن توضع فيه، وتثبت الزيادة في الهامش ويشار للنسخة التي وجدت بها.
وهذا التقويم الخاص بعملية الزيادة والنقصان داخل في مرحلة التحقيق الابتدائي.
أما تقويم الفساد بمظاهره الثلاثة فيدخل في مرحلة التحقيق النهائي التي هي إلى العلم والخبرة والفطنة أقرب منها إلى الصنعة.
أمور يكتمل بها التحقيق:
١- التخريج.
٢- التعليق.
٣- التشكيل.
٤- الترقيم.
٥- التهميش.
٦- الفهارس "التكشيف".
١- التخريج:
مصدر خرّج, ويراد به: إرجاع النصوص المنقولة إلى مصادرها الرئيسية التي استمدها منها المؤلف.
وعرفه بعض المعاصرين بأنه: "تحديد مواطن النقول في النص، وتصحيحها، وضبطها وإكمالها ونسبة ما لم ينسب منها إلى مصادره, وأصحابه"21.
وأصل هذا المصطلح: أنه يستخدم في علوم الحديث، ثم توسع في استخدامه فأصبح يستعمل فيما يأتي:
١- الآيات القرآنية.
٢- القراءات القرآنية.
٣- الأحاديث النبوية.
٤- الأقوال المأثورة.
٥- الخطب والوصايا والأمثال.
٦- الشعر والرجز.
٧- الآراء والأقوال.
٨- العبارات والجمل التي لها تميز خاص.
ومما يضاعف من قيمة التخريج أن أكثر كتب التراث أو كلها لا تهتم بذكر أكثر من النقول منسوبة إلى مصادرها, اعتمادًا على أن ذلك في عصرهم كان في حكم المعارف الميسورة أو البدهيات.
٢- التعليق:
التعليق: مصدر علّق, وفي المعجم الوسيط: علق على كلام غيره: تعقبه بنقد, أو بيان، أو تكميل، أو تصحيح، أو استنباط.
ويضيف صاحب معجم مصطلحات الأدب واللغة إلى ذلك: أنه يشمل التفسير الطويل أو القصير ما ورد في النص منسوبًا إلى مؤلف النص, أو إلى غيره.
التعليق إذًا مصطلح من مصطلحات تحقيق التراث، ومن الأمور الهامة التي يكتمل بها هذا العمل العملي، وهو يرادف ما كان معروفا من قديم باسم: الحاشية، وهو خواطر علمية وأفكار تتصل بالنص المؤلف يثبتها على حاشية الكتاب مؤلفه، أو عالم آخر درس هذا الكتاب واهتم به، وأهم الأمور التي تتطلب التعليق عليها:
١- الكلمات الغريبة.
٢- المصطلحات العلمية غير المشهورة.
٣- الأعلام وبخاصة المغمورة منها وغير المشهورة.
٤- المواضع الغامضة أو المشتبهة.
٥- ما يذكر المؤلف من إشارات تاريخية, أو أدبية، أو دينية إذا كانت غير مشهورة.
٦- إكمال ما ينبغي إكماله من عبارات الكتاب.
٧- الإشارة إلى المواضع التي يحيل إليها المؤلف في كتابه.
٣- التنقيط والتشكيل:
التنقيط، والمراد به: النقط المزيل للإعجام، والكلمات المنقوطة تسمى معجمة، أي: أزيلت عجمتها التي كانت عليها عندما كانت مبهمة أي: بدون نقط.
بعض كتب التراث لا يهتم بالنقط كما ينبغي، فيصبح من مهمة المحقق أن يحافظ على النقط ويلاحظ ما أهمله صاحب المخطوط.
يذكر الدكتور عبد الهادي الفضلي: أن كتاب الناسخ والمنسوخ للعتائقي، والذي قام بتحقيقه متعمدًا على نسختين, كانت إحداهما مهملة التنقيط إهمالا يكاد يكون تاما22.
وأما التشكيل فيراد به حركات الإعراب، أو البناء، أو حركات البنية، وهو هام في الآيات القرآنية والكلمات الغريبة والأعلام المشتبهة من أسماء الناس والأماكن ونحوها، وكذلك في مواضع يمكن أن يصعب فيها الفهم في حالة عدم التشكيل.
٤- علامات الترقيم:
مضى فيها حديث مفصل في الباب الأول من هذا المصنف، وهو الخاص بأصول البحث العلمي.
٥- التهميش:
هو مصدر الفعل "همّش" وهمّش الكتاب: علق هامشه، والهامش: حاشية الكتاب، والكلمة مولدة كما جاء في القاموس المحيط مادة "همش".
والكلمة تستعمل الآن في كل شيء بعيد عن جوهر الشيء وحقيقته, أو ليس أساسيا فيه.
ويتم هذا العمل بوضع رقم على المكان الذي يراد التعليق عليه أو تخريجه، وتكتب المعلومة في الهامش إزاء هذا الرقم نفسه.
وهناك طريقتان للتهميش:
الأولى: أن توضع لكل صفحة هوامشها الخاصة بها أسفلها، وهي الأكثر شيوعًا.
والأخرى: أن تؤخر الهوامش وتوضع في ملحق آخر الكتاب.
ويذهب آخرون إلى طريقة وسط وهي: وضع هوامش المقابلات أسفل الصفحات، أما هوامش التعليق والتخريج فتوضع في ملحق آخر الكتاب.
طرق التهميش:
١- بالنسبة للآيات القرآنية: يذكر رقم السورة ثم رقم الآية هكذا: ٩/ ١٥٧ أو اسم السورة ورقم الآية مثل: سورة النساء آية: ٩٢، أو رمز السورة ورقمها، ورمز الآية ثم رقمها: س: ٣ آ: ٣٥.
وقد يبدأ بالآية ثم السورة مثل: آية ٤٦ سورة الأعراف.
تهميش تخريج النقول غير الآيات القرآنية:
إذا كان الغرض من التهميش ذكر مصدر لم يذكر من قبل يتم على الوضع التالي:
اسم الكتاب، فاصلة، اسم المؤلف ولقبه، اسم المحقق أو المترجم, فاصلة، مكان الطبع: نقطتان، الناشر، وتاريخ النشر ومكانه بين قوسين، رقم الطبعة، نوع الطبعة, بين خطين صغيرين, رقم الجزء فرقم الصفحة، مثال ذلك: الكشف عن القراءات السبع وعللها لمكي بن أبي طالب تحقيق محيي الدين رمضان بيروت، مؤسسة الرسالة سنة ١٩٨١م، ط ٢٠ جـ٢ ص٢٢٥.
وإذا كان للكتاب أكثر من مؤلف أو من محقق يذكر الأول ثم يقال: وزميله أو زملاؤه.
وفي حالة تكرار ذكر المرجع يكفي اسم المرجع والجزء والصفحة، مثل: وفيات الأعيان جـ٣ ص٩٥.
وإذا كان له أكثر من طبعة لا بد من ذكر الطبعة التي رجع إليها، وإذا كان له أكثر من تحقيق أو محقق يذكر المحقق الذي أخذت من تحقيقه.
وإذا لم يذكر رقم الطبعة لأن الكتاب طبع عدة مرات عن طريق جهات مختلفة, يذكر محل وتاريخ الطبع واسم المحقق أو الناشر.
وإذا كان المرجع من كتب الأحاديث التي اعتمد لها رموز معينة, يمكن أن تعتمد على الرمز في التهميش، وفي فهرس المراجع يذكر المرجع كاملًا ومعه رمزه.
وفي الباب الخاص بأصول البحث العلمي قدمنا فكرة موجزة عن التهميش.
٦- الفهارس:
الفهرسة أو التكشيف هو عمل الكشافات والفهارس.
والفهرس -كما جاء في القاموس المحيط- الكتاب الذي تجمع فيه الكتب، وهو معرب "فهرست".
وفي المعجم الوسيط شرح لعبارة فهرس كتاب أي: جعل له فهرسًا، ثم يعرف الفهرس بأنه: الكتاب الذي تجمع فيه أسماء الكتب مرتبة بنظام معين، وملحق يوضع في أول الكتاب أو آخره يذكر فيه ما اشتمل عليه الكتاب من الموضوعات والأعلام والفصول والأبواب, مرتبة بنظام معين، معرب فهرست الفارسية.
وتضبط هذه الكلمة بكسر الفاء وسكون الهاء وكسر الراء, وقد دخلت العربية في زمن مبكر؛ إذ ورد استعمالها في العصر العباسي كالفهرست لابن النديم ٣٨٥هـ, والفهرست لأبي جعفر الطوسي ٤٦٠هـ.
ويقابلها بالعربية كلمة "ثبت" وقد استخدمت بمعنى فهرس في زمن مبكر جدا.
يقول ابن النديم في الفهرست في ترجمة النضر بن شميل "٢٠٣هـ": وله من الكتب "كتاب الصفات" وهو كتاب كبير ويحتوي على عدة كتب، ومنه أخذ أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه "غريب المصنف".
قرأت بخط أبي الحسن بن الكوفي "ثبت كتاب الصفات" على ما قد ذكرته23.
وقد استخدمت حديثا كلمة "كشاف" بمعنى "ثبت" أو "فهرس" وهي لم تدخل بعد المعاجم العربية، وإن دخلت في المصطلحات المكتبية مرادفة للكلمة الإنجليزية "Indox".
ومما يستعمل أيضًا بمعنى "ثبت" أو "فهرس" كلمة "محتوى" أو "محتويات" وهو استخدام محدث أيضًا24.
واستخدمت كلمة "مسرد" -بكسر الميم وسكون السين وفتح الراء- بمعنى ثبت أو فهرس، وإن كان هذا الاستخدام لم تشر إليه المعاجم المعاصرة، ولعله مأخوذ من سرد الحديث وتواليه، فأشبه توالي الموضوعات في الفهرس.
نخلص من هذا إلى أن الفهرس له استخدامان:
١- الكتاب الذي يجمع أسماء الكتب، مثل: الفهرست لابن النديم، وفهارس المكتبات.
٢- القائمة التي تفهرس موضوعات الكتاب ومحتوياته.
وفهرس موضوعات الكتاب, له صورتان:
أ- عرض مجمل لعناوين الأبواب والفصول ونحوها, وهذا فهرس إجمالي.
ب- عرض شامل للموضوعات الجزئية التي تندرج تحت الأبواب والفصول، وهذا فهرس تحليلي.
أما موضوع الفهرس من البحث، فذاك مجرد اصطلاح وعرف.
فالباحثون الإنجليز يضعون فهارسهم في أول الكتاب.
والباحثون الفرنسيون يضعون الفهرس آخر الكتاب.
وأما الكتب العربية، فأحيانا تضع الفهارس أول الكتاب, وأحيانًا في آخره.
ولأهمية الفهرسة اتسعت آمادها وصورها زيادة في تيسير الفائدة للباحثين، فأصبحت تتناول أشياء كثيرة.
وعلى سبيل المثال: وضع الدكتور صبحي الصالح محقق كتاب نهج البلاغة، اختيار الشريف الرضي, عشرين فهرسًا للكتاب "بيروت ١٩٦٧ط١" ووضع الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة "القاهرة ١٣٨٨هـ" أربعة عشر فهرسًا لكتاب المقتضب للمبرد الذي قام بتحقيقه.
ووضع الدكتور محيي الدين رمضان لكتاب الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها اثني عشر فهرسًا هي: مقدمة التحقيق, موضوعات الكتاب, الآيات, الأخبار والآثار, أسباب النزول والتفسير, مسائل الإعراب والاشتقاق, الشعر, اختيار مكي, الأعلام, الأقوام والأماكن ونحوها, مصادر المؤلف, مصادر التحقيق ومراجعه.
وضع المحققان د. مازن المبارك والأستاذ محمد علي حمد الله عشرة فهارس لمغني اللبيب لابن هشام "بيروت ١٩٥٩ ط٥" وهي: الآيات، والأحاديث، والأمثال والأقوال المأثورة، والشعر، والأعلام، والقبائل، والأماكن، والكتب المذكورة في المغني، والمراجع، وأبواب المغني.
في نهاية التحقيق:
عندما يصل الباحث إلى نهاية التحقيق, يجد نفسه مطالبًا بأمرين:
أولهما: مقدمة التحقيق.
والآخر: الخاتمة.
ثم ثبت المصادر والمراجع في آخر الفهارس.
المقدمة:
برغم اسمها، وأنها أول ما يقدم من شيء أخذًا من مقدمة الجيش، لكنها آخر ما يكتبه الباحث؛ نظرًا لأن المعلومات المطلوب تناولها لا يستطيع المحقق تحصيلها إلا بعد الفراغ من عملية التحقيق.
وقد سبق لنا حديث عن المقدمة عند حديثنا عن قواعد البحث العلمي, لكن مقدمة التحقيق تختلف عن مقدمة أي بحث من البحوث التي يتصدى لها أهل العلم.
وقد عرف بعض الباحثين المقدمة بأنها: "فصل يعقد في أول الكتاب, يمهد لمضمونه"25.
وتنطق بتشديد الدال مفتوحة، أو مكسورة، والتزم ثعلب فتح الدال.
ومقدمة المحقق ينبغي أن تشمل النقاط التالية:
١- تعريف عام بالكتاب المخطوط.
٢- مقارنة بالمؤلفات المشتركة معه في موضعه، سابقة ولاحقة لإبراز أهميته.
٣- التعريف بالمؤلف وذكر مصادر ترجمته.
٤- تقديم بيان وصفي للمخطوط من حيث عدد الصفحات، ومقاس الصفحة، وعدد الأسطر في الصفحة، وعدد كلمات السطر، ونوع الخط، ونوع الحبر ولونه, ونوع الورق.
٥- اسم الناسخ إن وجد، والتعريف به، وبتاريخ النسخ، وذكر القراءات والسماعات والتملكات وما إليها إن وجدت.
٦- وصف النقوص والتغيرات والزيادات والإضافات والاختلافات بين النسخ.
٧- ذكر طريقة التحقيق والتعليق التي يسير عليها المحقق، وكذا الصعوبات التي مرت به.
٨- ذكر أمور يرى المحقق فائدة من ذكرها, في مجال التحقيق.
٩- تتبع المقدمة بذكر صور لبعض صفحات المخطوط.
وأما الخاتمة التي ينهي بها تحقيقه للمخطوط, فتتضمن بعض النتائج التي حصل عليها من خلال معايشته لعمليات التحقيق، وكذا بعض النتائج العلمية التي انتهى إليها من خلال دراسته للكتاب الذي حققه.

---الهامش -----------
1 انظر الصحاح للجوهري جـ٤ باب القاف, فصل الحاء.
2 انظر: المعجم الوسيط, المجمع اللغوي بالقاهرة.
3 جمهرة اللغة, لابن دريد "مادة: نص".
4 مجالس ثعلب جـ١ ص١٠.
5 انظر: تحقيق النصوص ونشرها ط٢ ص٢٩ عبد السلام هارون.
6 جذوة المقتبس ص٥١.
7 سيبويه إمام النحاة ص١٥٤ وما بعدها.
8 جاء في أول النسخة الخطية لكتاب سيبويه المحفوظة في دار الكتب برقم ١٤٠ عن تحقيق نسبتها وموادها: "قال أبو عبد الله محمد بن يحيى: قرأت على ابن ولاد، وهو ينظر في كتاب أبيه، وسمعته يقرأ على أبي جعفر أحمد بن محمد, أبو جعفر عن الزجاج عن المبرد، ورواه المبرد عن المازني عن الأخفش عن سيبويه".
9 ارجع إلى الفصل الخاص بمراحل نشر التراث من هذا الكتاب.
10 عنوانها: مركز المخطوطات والتراث، جمعية إحياء التراث الإسلامي ص. ب ٥٥٨٥ الصفاة، الكويت, الرمز البريدي ١٣٠٥٦.
11 تحقيق النصوص ونشرها ص٣٥، عبد السلام هارون ط. الثانية ١٣٨٥-١٩٦٥م.
12 أصول نقد النصوص ونشر الكتب، د. برجستراسر، إعداد الدكتور محمد حمدي البكري سنة ١٩٦٩، القاهرة ص١٤.
13 المرجع السابق ص١٤، ١٥.
14 انظر: تحقيق النصوص ونشرها، عبد السلام هارون ص٤٣.
15 انظر: مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق جـ١، ٢ مجلد ٢٢ ص٢٧-٣٠.
16 انظر: تحقيق التراث د. عبد الهادي الفضلي، كلية الآداب، جامعة الملك عبد العزيز، السعودية ص١٤١ وما بعدها.
17 مجلة المورد العراقي، مجلد ٩ سنة ١٤٠٠هـ ص٣١٧.
18 كانت هذه المرحلة في وقت من الأوقات يكتفى بها في نشر التراث، وقد أشرنا لذلك في مراحل النشر. وأذكر أني اشتركت مع العلامة محمد نصيف في مقابلة نسخ الحموية الصغرى لابن تيمية سنة ١٩٦١، وأثبتنا ذلك في الصفحة الأخيرة منها، بعبارة: روجع مقابلة ... رحم الله الشيخ نصيفا لقاء ما قدم من خدمة لتراث هذه الأمة.
19 انظر: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ص٥٢ بيروت سنة ١٩٧٩، مجدي وهبة وكامل المهندس.
20 هذا إذا لم نجد في النسخ الأخرى عبارة تسد هذا البياض, أو مكان الخرم.
21 انظر: د. حسين محفوظ، عالم الكتب, مجلد ١ ص٦٥٠.
22 انظر: تحقيق التراث ص١٩٠.
23 انظر: ص٧٧ من الفهرست لابن النديم.
24 انظر: معجم المصطلحات العربية ص١٧٠، ص١٨٧.
25 المعجم الأدبي "كلمة مقدمة" جبور عبد النور "بيروت ١٩٧٩" ط١.
-
أكمل قراءة بقية الموضوع "المصادر والمراجع في تحقيق التراث"
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم