تاريخ فلسطين في عهد الدولة العثمانية - مهم



شهدت نهايات القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر مجموعة من التطورات الهامة والمتمثلة في:
1- سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس (غرناطة) سنة 1494، وتطوين دولتي البرتغال وأسبانيا، وبدء موجة من التحرك الاستعماري الذي استهدف –من بين مناطق أخرى- أطراف الوطن العربي في شمال افريقيا، وفي جنوب الجزيرة العربية.
2- ضعف دولة المماليك، وانهزامها أمام البرتغاليين، وربما تكون أشهر الهزائم قد تحققت في معركة ديو البحرية سنة 1509.
3- قيام الدولة الصفوية بمهاجمة دولة المماليك والدولة العثمانية، إضافة إلى تحالف الصفويين مع الاستعمار البرتغالي.
4- بروز الدولة العثمانية كدولة قوية، فتحت القسطنطينية سنة 1453، وأسقطت الإمبراطورية البيزنطية، وتوسعت في شرق أوروبا، وأصبحت أمل الأمة الإسلامية في صد الغزو البرتغالي والأسباني.
ملاحظات حول كتابة التاريخ العثماني وعلاقته بالعرب:
يمكن تقسيم تلك الكتابات إلى الأقسام التالية:
أ: كتابات مليئة بالتعميمات النمطية التي تدمغ العهد العثماني كله بالاستبداد والقمع والتأخر والفساد وجباية الضرائب، هذا النمط من الكتابة نشأ في أوائل القرن العشرين الميلادي على أرضية نمو الحركة القومية العربية في بلاد الشام، والتي واجه قادتها قمع وملاحقة رجال الحكم العثماني في عهد حكومات الاتحاد والترقي. وتجدر الإشارة إلى أن القوميين العرب تعرضوا للإعدامات والسجون في تلك المرحلة، وقاسى الناس من التجنيد الإجباري الذي لم يقتنعوا بأسبابه. واستناداً إلى هذه الخلفيات فقد نشأ نوع من الكتابة التاريخية المعادية للعثمانيين والأتراك في كتابة التاريخ الفلسطيني والعربي.
ب: وفي المقابل ظهر اتجاه معاكس –عقب الحرب العالمية الأولى- يسود كتاباته التباكي على زوال الخلافة الإسلامية، وإبراز محاسن الحكم العثماني الزائل قياساً بحكم الاستعمارين الفرنسي والبريطاني.
ج: بعد الحرب العالمية الثانية، واستقلال الدول العربية، تعزز الاتجاه المعادي للأتراك.
د: ثم عادت كتابات امتداح التاريخ العثماني من جديد بعد بروز الحركات الإسلامية في ثمانينات القرن العشرين.
*يمكن القول أن كل الكتابات سابقة الذكر قد وقعت في خطأ التعميمات النمطية دون الاعتماد على دراسة وتحقيق جادين للمراجع والمصادر التاريخية، فالبعض ركز على المساوئ وضخمها، والبعض الآخر أبرز المحاسن وكبّرها، وبعضها تعامل بشكل انتقائي مع الفترة التاريخية الطويلة.
باختصار، لقد ظهرت آثار الأيديولوجية والموقف السياسي في تلك الكتابات.
*لكن الأخطر من كل تلك الكتابات هو ما كتبه المستشرقون من دراسات تدمغ التاريخ العربي الإسلامي بالتدهور والتأخُّر منذ أواخر العهد العباسي حتى قدوم الاستعمار الأوروبي والذي أدى إلى عصر من النهضة والتحديث حسب زعمهم.
وبخصوص فلسطين، فإن مثل هذه الكتابات تعمل لصالح الدعاوى الصهيونية، والتي تدعي أن البلد كانت خربة وخاوية من السكان حتى جاء المشروع الصهيوني فأحيا أرض فلسطين، وجدد عمرانها.
مراحل التاريخ الفلسطيني في العهد العثماني:
1- العصر الذهبي لدولة العثمانيين، ولا سيما أيام السلطان سليمان القانوني، وقد انعكس إيجاباً باستتباب الأمن والانتعاش الاقتصادي.
2- المرحلة الانتقالية: بعد وفاة السلطان سليمان الثاني حتى أواخر القرن السابع عشر.
3- تعزيز مكانة القوى والزعامات المحلية خلال القرن الثامن عشر.
4- محاولات الإصلاح والتمغرب في ظل التوسع الأوروبي سياسياً، واندماج المنطقة اقتصاديا في النظام الرأسمالي العالمي.
أولاً: القرن السادس عشر (العصر الذهبي)
انتصر العثمانيون على المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب بتاريخ 23-8-1516، ويرجع هذا الانتصار إلى الأسباب التالية:
1- استخدام العثمانيين السلاح الناري، بينما المماليك كانوا يعتمدون على الفروسية التقليدية.
2- انهيار نُظُم التدريب على القتال لدى المماليك بسبب عدم خوضهم لحروب، أو تعرضهم لغزو خارجي إلا في المراحل الأولى من التأسيس تقريباً.
3- شُحّ أعداد المماليك المستوردين من القوقاز.
4- كثرة الطواعين في مصر في القرن الخامس عشر.
5- تشرذم المماليك وتوزعهم بين كُتَل متنافسة بحكم طبيعة تدريبهم وأصولهم المختلفة، الأمر الذي أوجد تنافساً شديداً بينهم، بلغ حد الخيانة، وانتقال بعضهم للقتال إلى جانب العثمانيين.
6- اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1498 حرم المماليك من موارد اقتصادية هامة كانت تعتمد عليها الدولة في بناء قوتها.
*لم يدافع الشعب عن المماليك في بلاد الشام؛ بسبب سوء حكمهم في مرحلته الأخيرة.
*حدث في بداية الأمر أن قامت بعض القوى المحلية باستغلال حالة انتقال السلطة من المماليك إلى العثمانيين، وقامت بفرض نفوذها في الأرياف والمدن، وهددت القبائل البدوية طرق المواصلات، وتوقفت قافلة الحج الشامي إلى الحجاز، إلى أن أقام العثمانيون النظام.
التقسيم الإداري لفلسطين:
تبعت فلسطين ولاية الشام، وهي واحدة من ثلاث ولايات أنشأها العثمانيون في بلاد الشام، والولايتان الأخريان وهما حلب وطرابلس. وضمت فلسطين خمسة سناجق أو ألوية وهي: القدس وغزة واللجون وصفد ونابلس.والسنجق عبارة عن وحدة إدارية ضمن الولاية. (بالتركية سنجق وبالعربية لواء).
ويقسم السنجق إلى عدد من النواحي التي تضم واحدتها عدداً من القرى، ويُسمى السنجق باسم عاصمته، ولم تكن التقسيمات إلى سناجق نهائية إذ كثيراً ما يُلغى سنجق ما، أو يُدمج بآخر، أو يؤسس سنجق جديد.
ومثال ذلك عندما تم سلخ سنجق صفد وسنجق صيدا مع بيروت عن ولاية الشام، وشكلا ولاية رابعة في بلاد الشام هي ولاية صيدا، وكان الهدف من ذاك هو إحكام الرقابة على جبل لبنان بعد ثورة أميره فخر الدين المعني الثاني.
*يجب ملاحظة أنه تم تقسيم فلسطين إلى خمسة سناجق، في حين أن بقية ولاية الشام على اتساعها تضم أربعة سناجق فقط، وحدث ذلك بغية إحكام الرقابة فيها نظراً لأهمية فلسطين بالنسبة للطرق الرئيسية التي تربط دمشق بمصر بالحجاز حيث طريق الحجيج وطريق القوافل التي يجب تأمينها، حيث أقام العثمانيون القلاع والحصون لتأمين المنطقة بشكل أفضل.
*كانت المعركة الأخيرة بين العثمانيين بقيادة سنان باشا، والمماليك بقيادة جان بردي الغزالي والي حماة سابقاً، عند خانيونس بتاريخ 11-12-1516، وانتصر العثمانيون وأسروا الغزالي، لكنه تمكن من الفرار، أو سُهِّل له ذلك، لأنه انضم إلى العثمانيين بعد قليل، وأطلعهم على الخطط العسكرية لطومان باي، وأشار عليهم بأحسن الطرق للتغلب على المماليك، وكافأ العثمانيون الغزالي بتعيينه والياً على دمشق في شباط 1518.
*حدث أثناء التوسع العثماني في فلسطين ومصر أن انتشرت الشائعات في فلسطين عن هزيمة العثمانيين في خانيونس والريدانية، وكانت ردود فعل الأهالي قوية ضد الحكام الجدد من العثمانيين، ورد العثمانيون بالبطش على المتمردين كما حدث في الرملة وغزة.
*أبقى العثمانيون عدداً من الأمراء المحليين في فلسطين وغيرها، وكان هؤلاء قد اعترفوا بالسلطة العثمانية، وتعهدوا في إقامة الأمن وجباية الضرائب، ومن هؤلاء طراباي بن قراجا المعروف بأمير الدربين، حيث أعلن طراباي خضوعه للسلطان سليم الأول، فاعترف به أميراً في سنجق اللجون.
*وحين بطشت الدولة العثمانية بجان بردي الغزالي، وقضت على ثورته في 5-2-1521 لم تفعل مثل ذلك بمؤيديه من زعماء فلسطين لأن هؤلاء يمثلون زعامات تقليدية لها قواعدها الشعبية والقبلية.
*بشكل عام تعاملت الدولة العثمانية مع الزعماء المحليين أحياناً بالقمع، وأحياناً أخرى بالاحتواء ومنح الأعطيات، والتعيين في المناصب، ومنح الإقطاعات، وعيُنت الدولة العثمانية زعماء فلسطين الذين كانوا حكام سناجق أمراء لقافلة الحج الشامي، وكانت هذه القافلة إحدى قافلتين رئيستين في الدولة العثمانية، والأخرى هي قافلة الحج المصري.
ويتمثل الخطر الرئيس على القافلة في اعتداء البدو عليها، لذا عمدت الدولة إلى شراء ولاء بعض القبائل التي تسيطر على طريق الحج بالمال لتأمين سلامة القافلة، وفي حال عدم دفع الأموال، كان البدو يهاجمون القوافل، وخاصة أن القوافل كانت تضم الكثير من التجار الذين كانوا ينضمون للقوافل نظراً لما يتوفر لها من وسائل الحماية.
ويُعزى تعيين الزعماء المحليين من حكام السناجق في فلسطين أمراء لقافلة الحج الشامي إلى مقدرتهم على تأمين سلامة القافلة بسبب معرفتهم الوثيقة بالمنطقة، وأن بعضهم من أصول بدوية، كما أن تعيين بعض هؤلاء أمراء للقافلة يؤمن تغطية لبعض نفقاتها من الضرائب التي يجمعونها.
ومن أشهر أمراء احج الشامي الفلسطينيين قانصوة بن مساعدة الغزاوي 1570، والذي كان حاكماً للكرك وعجلون، ومنصور بن فريخ الذي تم تعيينه حاكماً لنابلس عام 1590، وأحمد بن قانصوة بن مساعدة الغزاوي حاكم سنجق عجلون عام 1591.
واشتهر من حكام فلسطين آل رضوان، وآل طراباي، وآل فروخ، وكانت إمارة الحج تنقل من أمير إلى آخر من هؤلاء حسب قوتهم ورضا الدولة عنهم.
**لقد تحسنت الأوضاع الأمنية والاقتصادية، فانتعشت التجارة والزراعة، بعكس الأوضاع التي سادت المنطقة أواخر الحكم المملوكي، وترك الحكام الجدد بصماتهم على البناء والإعمار خلال هذه الفترة.
وكانت القدس أكثر المدن الفلسطينية استفادة في هذا المجال، فتم بناء سور القدس في أواخر الثلاثينيات بأبراجه وقلعته وبوابته بهدف حماية المدينة من أية محاولة جديدة للصليبيين لاحتلاله.
وكانت المدن الداخلية –بسبب ما فعله الصليبيون من تدمير للمدن الساحلية- هي الأكثر أهمية، لكن الكثير من مدن الساحل، وخصوصاً غزة شهدت انتعاشاً بارزاً خلال القرن السادس عشر.
*لقد انعكس استتباب الأمن وازدهار الحياة الاقتصادية على الحالة الديمغرافية، حيث وصل عدد سكان القدس 16 ألف نسمة سنة 1554 ، وفي غزة 14 ألفاً، وفي نابلس 12 ألفاً، وفي الخليل 6 آلاف نسمة. وبلغ مجموع سكان فلسطين في ذلك الوقت 300 ألف نسمة.
*لم يعاني أهل البلاد من ويلات الحرب واستبدال الحكام، ولم يعانوا من عمليات انتقام واسعة، ولم يُدخل الحكام الجدد تغييرات جذرية على أسلوب الحكم والتقسيمات الإدارية السابقة، وبصورة عامة بقي التقسيم الإداري على حاله أيام المماليك.
فلسطين في القرن السابع عشر الميلادي (المرحلة الانتقالية)
وصلت الدولة العثمانية في نهاية القرن السادس عشر الميلادي أوج توسعها، وبدأت مرحلة جديدة من توازن القوى، ثم التقهقر في علاقتها بجاراتها، وانعكس هذا التحول في ميزان القوى على أقاليم الدولة العثمانية بما فيها فلسطين، لكن آثار هذا التحول لم تظهر بشكل جلي إلا في القرون التالية.
وفي القرن السابع عشر الميلادي توقفت الفتوحات على جبهات القتال، وحدثت تحولات في
 الاقتصاد العثماني أثرت سلباً على الأقاليم ودور الزعامات المحلية في حكمها، فكيف تأثرت فلسطين خلال هذه الفترة الانتقالية؟ وما هي أهم الأحداث السياسية فيها؟
يمكن القول أن أبرز التحولات تمثلت في  انتقال جباية الضرائب من نظام التيمار أو الاقطاع العسكري إلى نظام الالتزام، وقد أدى هذا التغير في نظام الإدارة المحلية، المتزامن مع ضعف الإدارة المركزية، إلى ازدياد دور القوى المحلية اقتصادياً وسياسياً.
وكان لظهور فخر الدين المعني الثاني في جبل لبنان ومحاولات توسعه في فلسطين أثر خاص في نشوء بعض عائلات الأمراء من الحكام المحليين الذين أدوا دوراً مهماً في تحجيم طموحات أمير جبل لبنان ثم القضاء عليه.
ظلت ألوية (سناجق) فلسطين تابعة لولاية دمشق خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، لكن عام 1660 تم ضم أجزاء من فلسطين لكي تتبع ولاية صيدا، وامتدت حدود هذه الولاية لكي تصل مرج ابن عامر وساحل حيفا وعتليت، بينما ظلت بقية مناطق فلسطين جنوباً تابعة لولاية دمشق.
لكن الجديد في تاريخ فلسطين في القرن السابع عشر الميلادي هو ظهور ثلاث عائلات من الحكام المحليين هم: آل رضوان وآل طراباي وآل فروخ، كما أن تلك العائلات شكّلت حلفاً سياسياً عسكرياً قوياً نجح في صدّ فخر الدين المعني بدعم من الدولة العثمانية.
آل رضوان
كان آل رضوان أبرز وأقوى أمراء الحلف الثلاثي الذين واجهوا فخر الدين المعني، واستمروا في أداء دور مهم في تاريخ فلسطين حتى سبعينات القرن السابع عشر.
وتُنسب هذه العائلة الغزية إلى رضوان بن مصطفى باشا، وكان مصطفى باشا يعمل في خدمة السلطان سليمان القانوني.
عُيِّن رضوان باشا –جد العائلة في غزة- سنة 1560 حاكماً على غزة، وأميراً على الحج، ثم تم تعيينه دفتردار في اليمن، ثم عُيِّن بعدها حاكما على غزة، ثم انتقل مرة أخرى إلى اليمن برتبة بيلربك (أمير الأمراء) سنة 1564، لكنه أُبعِد عن هذه الوظيفة، وعاد إلى وظيفته في حكم غزة، ومنها انتقل مرات عديدة إلى وظائف أخرى.
إضافة إلى رضوان تقلد أخوه بهرام مناصب عديدة منها وظيفة والي دمشق، وحاكم لواء نابلس، وعمل ابنه مصطفى من بعده حاكماً على لواء نابلس، وعلى الرغم من تفرّع الأسرة إلا أنها اتخذت من غزة مركزاً لها، وحافظت على دورها ومكانتها هناك خلال قرن من الزمان.
تولى أحمد بن رضوان زعامة العائلة بعد وفاة أبيه، وحكم لواء غزة ولواءي القدس ونابلس أحياناً مدة تزيد على ثلاثين عاماً، وتولى خلال تلك الفترة إمارة الحج الشامي.
تولى حسن بن أحمد حكم غزة بعد وفاة والده سنة 1606، وشارك في صد حملات فخر الدين المعني، وتولى حسن حكم ولاية طرابلس فترة قصيرة قبل وفاته، وقد كان حسن مزواجاً، وأنجب من زوجاته الكثيرات حوالي 85 ولداً وبنتاً، وكان يصعب عليه التمييز بينهم.
ورث حسين بن حسن زعامة آل رضوان عن والده، وعُيِّن سنة 1643 حاكماً على لواءي القدس ونابلس، وبد أن توفي والده في السنة التالية أضاف لواء غزة إلى حكمه، ساع\ه في الحكم ابنه إبراهيم، لكن حسين اتُهم بإهمال الحجاج، فاعتُقِل وقُتِل في الآستانةسنة 1662.
ورث أخوه موسى حكم غزة، لكن دور العائلة تدهور بسرعة بعد مقتل حسين باشا، ويبدو أن مقتل حسين باشا، ومصادرة أمواله كانا جزءاً من سياسة الدولة العثمانية أيام وزراء آل كوبريللي للتخلص من الزعامات المحلية.
آل طراباي
تركز وجود هذه العائلة في الجليل واللجون وساحل حيفا، واتخذ آل طراباي لأنفسهم لقب (أمراء الدربين)، أي حماية طريق الساحل إلى غزة ومصر، وطريق الجبل من مرج ابن عامر إلى نابلس والقدس، وكان لآل طراباي وظيفة أخرى هي حماية طريق الحج قافلة الحجاج، وأمدوا قافلى الحجاج بالجمال لاستخدامها في النقل على الطرق الصحراوية المؤدية للحجاز.
حكم علي بن طراباي سنجق اللجون ابتداءً من سنة 1559، وجاء بعده عساف بن علي الذي سيطر على سنجق نابلس، وفي عام 1583 طُرد من فلسطين، لكن حكم السنجق استمر في يد العائلة.
واشتهر من أبناء العائلة أحمد بن طراباي الذي تولى حكم صفد ثم اللجون من بداية القرن حتى 1647، واشتهر بشجاعته –بالاشتراك مع حلفائه آل رضوان وآل فروخ- خاصة في مواجهة فخر الدين المعني الثاني.
أدى القضاء على فخر الدين المعني إلى إضعاف دور أحمد بن طراباي، وتقهقرت مكانة عائلته خاصة بعد وفاة صهره وحليفه محمد بم فروخ سنة 1660، وحل محلة أخوه محمد بن طراباي.
في هذه الفترة أخذت إمارة الحج الشامي تنتقل من أيدي أمراء فلسطين إلى أيدي موظفين كانت ترسلهم الدولة العثمانية من استنبول، وكان الهدف من هذ الأمر ضعاف الحكام المحليين الذين أظهروا نفوذاً واستقلالاً كبيرين، وانتهى دور هذه الأسرة عندما عينت الدولة عسكرياً عثمانياً بدلاً منهم على اللجون سنة 1677.
لكن عائلات أخرى استفادت من زوال آل طراباي وحلت محلهم مثل آل طوقان وآل النمر في نابلس، وآل جرار في منطقتي جنين ونابلس، وعززت هذه العائلات مكانتها السياسية والاقتصادية منذ واخر القرن السابع عشر، وبرزت في القرن التالي كنخب سياسية واجتماعية في ألوية نابلس وجنين طوال العهد العثماني.
آل فروخ
كان آل فروخ، حكام القدس ونابلس، حلقة الوصل بين آل رضوان وآل طراباي، وساهموا في حماية فلسطين من أطماع فخر الدين المعني الثاني، وكذلك ساهموا في حماية قوافل الحجاج.
بدأ فروخ بن عبد الله، الشركسي الأصل، حياته كأحد مماليك الأمير بهرام، شقيق رضوان، ثم أصبح حاكماً لنابلس، ثم لواء القدس، وإمارة قافلة الحج.
ورث محمد بن فروخ مناصب والده وشجاعته، لكنه كان قاسياً ظالماً فرض على الأهالي ضرائب باهظة، وقام بجبايتها بالقوة والإرهاب.
جاء بعد محمد ابن فروخ ولداه علي وعساف، لكن حال الأسرة لم يستمر على نفس الدرجة من القوة، لأن الدولة العثمانية غيرت سياسها مع هذه الأسر بعد القضاء على نفوذ فخر الدين المعني، وبوفاة عساف سنة 1671 انتهى دور هذه العائلة في فلسطين، كما حدث لآل رضوان وآل طراباي في نهاية القرن السابع عشر.
*تحالفت الأسر الثلاث، وتصاهرت، ربطت بينها مصالح سياسية واقتصادية، لعبت أدواراً مهمة في نشر الأمن، تحقيق الازدهار، وصد فخر الدين المعني، وقيادة قافلة الحجاج، لكن الدولة العثمانية أضعفتهم، والسبب في ذلك يرجع إلى تقديرات الدولة العثمانية في ذلك الوقت، حيث ارتأت أن النظام المركزي أفضل وأضمن من التفويض الواسع للصلاحيات، خاصة أن هذه الأسر كانت ترفض استقبال بعض الموظفين الكبار التي أرسلتهم الدولة أكثر من مرة.
*تخلص العثمانيون أولاً من حسين باشا آل رضوان حيث اتهمته بإهمال رعاية قافلة الحجاج، واعتقلته، وقُتل في سجنه بالأستانة سنة 1633، ثم جاء دور عساف بن محمد بن فروخ الذي قُتل سنة 1671 في ظروف غامضة وهو متوجهاً الأستانة، وفي عام 1677 استغنت الدولة عن أسرة طراباي وعينت ضابطاً عثمانياً لحكم اللجون.
أسباب تدهور مكانة هذه الأسر:
1- انتهاء خطر فخر الدين المعني سنة 1635.
2- سياسة الإصلاحات التي اتبعها وزراء آل كوبريلي والتي تعتمد على إعادة المركزية والاستغناء عن الأسر المحلية القديمة.
3- انتقال قادة قافلة الحجاج إلى ولاة دمشق، الأمر الذي شكل ضربة اقتصادية لحكام فلسطين.
4- الانتقال إلى جباية الضرائب بطريقة الالتزام، وانضمام الكثيرين إلى صفوف الانكشارية ساهم في نمو دور السكان المحليين على حساب الأسر التقليدية.

نشوء فئة المشايخ والأعيان
انشغلت الإمبراطورية العثمانية في الثلث الأخير من القرن السابع عشر بحروبها مع آل هابسبرج، وكانت ضرورات الحرب تتطلب إرسال التعزيزات العسكرية والموارد المالية إلى الجبهة الخارجية على حساب الأقاليم.
وفي نفس الوقت ضعف جهاز الحكم في فلسطين بسبب القضاء على دور العائلات الثلاث سابقة الذكر، فتقدمت عائلات الأعيان والعلماء المحليين لملء الفراغ الناشئ، فعززت مكانتها الاقتصادية والسياسية، لكن هذه العائلات لم تكن مؤهلة لملء الفراغ العسكري وإدارة شئون الحكم، وكانت الخليل ساحة للصراع بين التميميين والأكراد، وكان بعض ممثلي الدولة يدخلون لحل المشاكل، لكنهم لم يتمكنوا دائماً، والمشاكل كانت تتجدد.
وحدث في سنة 1662 أن تمرد أهل العرقوب، ورفضوا دفع الضرائب. ولم تكن الأوضاع في نابلس أحسن خالاً، إذ اختل الأمن ولم يتمكن الحجاج المسيحيين الذين ينتقلون من الناصرة إلى القدس من عبور نابلس. وأصبح طريق التجارة بين يافا والقدس مهدداً من قطاع الطرق.
وحدث أن اعتدى سنة 1699 مجموعة من قطاع الطرق على متسلم الرملة عقل آغا، وهو على رأس حملة لتأمين المنطقة، وقُتِل عقل آغا في هذه المعركة، وتم سلب جنوده.
لقد ترك زوال حكم العائلات الثلاث إلى حدوث فراغ سياسي وعسكري كبيرين، وكان الهدف منه –من وجهة نظر العثمانيين- تعزيز الحكم المركزي، وجعل الصلاحيات في أيدي ولاة الشام، لكن الحكام والمتسلمين الذين أرسلهم ولاة الشام لحكم مناطق فلسطين كانوا أغراباً عنها، وفقدوا مصدراً مهما للمال يتمثل في موارد إمارة الحج، ومدة العام والعامين في الحكم لم تكن تمنحهم الخبرة الضرورية، والقوة العسكرية الموجودة تحت إمرتهم لم تكن تكفي لمهمات الضبط والربط، أما المتسلم فقد انهمك جنوده ورجاله في مهمة جباية الضرائب.
وعلى هذه الخلفية تفاقم العصيان وتوسع بين قبائل البدو، أما الفلاحون فقد تعلموا الاعتماد على النفس بتشكيل الميليشيات المسلحة لحماية أملاكهم من قطاع الطرق، ومن المتسلمين وجباة الضرائب.
وانتشرت في ريف فلسطين منذ أواخر القرن السابع عشر ظاهرة التحزب والتسلح ونشوء فئات مشايخ القرى والنواحي ذوي النفوذ والطموح الاقتصادي والسياسي، وظهر فريقين متمايزين هما قيس واليمن.
وأدى انتقال إمارة الحج الشامي إلى ولاة دمشق، وتعيين قادة الانكشارية لحماية القوافل، لم يكن في صالح الحجاج، لأنهم لا يعرفون المنطقة، ولأنهم امتنعوا عن دفع الصرة للعائلات والقبائل التي تخدم الحجاج، وتقدم لهم الجمال والمؤن، لذا ازدادت الاعتداءات على الحجاج، ولما ازدادت هجمات العشائر البدوية على الحجاج في العقد الأخير من القرن السابع عشر، قررت الدولة تخصيص الضرائب المتحصلة من سناجق لتغطية مصاريف الحج.
في النصف الأول من القرن السابع عشر كانت سيطرة الدولة العثمانية على فلسطين مستقرة من خلال تعاون حكام البلاد مع العلماء، ومن أشهر هذه العلاقات، علاقة آل رضوان بالشيخ خير الدين الرملي صاحب الفتاوي المشهورة، لكن بعد زوال حكم عائلات الأمراء المذكورة سابقاً، تزعزع دور فئة العلماء والأعيان المحليين فترة قصيرة، ويرجع السبب في ذلك إلى أن الحكام الجدد كانوا مجرد موظفين، ولم يكونوا يملكون ما توفر لسابقيهم من إمكانيات اقتصادية تسمح لهم بإقامة جيوش تجبي الضرائب، فاعتمد هؤلاء على جنود الانكشارية المرابطين في القلاع، لكن مع الوقت، وبسبب عصيان الانكشارية فقد تنبه المتسلمون إلى أهمية التعاون مع العلماء والأعيان ومشايخ القرى في جمع الضرائب وإحداث الاستقرار، خاصة وأن العلماء كانوا ذوي إمكانيات اقتصادية مرموقة من خلال عائدات المحاكم الشرعية والأوقاف والمدارس، لإضافة إلى نفوذهم المعنوي، وهكذا قامت عائلات جديدة بملء الفراغ الذي تركه انحسار العائلات الثلاث.
وتطلعت بعض العائلات إلى رأس الهرم، مثل عائلة طوقان والنمر وجرار في نابلس واللجون، وعائلة مكي وأبو المرق في غزة، أما عائلة الحسيني في القدس فقد تحولت إلى شريك فعلي في إدارة شئون  الحكم.
هذه التحولات في النخبة السياسية المحلية في ألوية فلسطين في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر لم تحظَ باهتمام كاف من المؤرخين، وكل ما نعرفه هو نتيجة التحولات، وليس عملية التحولات التاريخية بتفصيلاتها.
هذه النخبة حافظت على دورها، وشكلت قيادة قومية مع بداية عصر النهضة ونشوء الفكر القومي في أواخر القرن التاسع عشر، ولم تكن هذه التحولات خافية على السلطات العثمانية، بل يمكن القول أنها قامت بتشجيعها ما دامت تخدم مصالح الدولة وتساهم في استمرار الحكم العثماني وإعطائه الصفات الشرعية الإسلامية.
آل الحسيني
وثورة نقيب الأشراف في القدس
1703-1705
ظهور الزيادنة، وسطوع نجم ظاهر العمر وحروبه وتجارته وعلاقته الخارجية، كل هذا جذب اهتمام المؤرخين إلى شمالي فلسطين، خاصة أن الوثائق كانت متوفرة لكتابة ذلك التاريخ، أما تاريخ وسط وجنوب فلسطين فلم يحظَ بكبير اهتمام المؤرخين.
حكام عكا (ظاهر العمر وأحمد باشا الجزار) لم يتركا آثار بعيدة المدى في التاريخ الفلسطيني، وذلك على العكس من النُخب التي تشكلت في جنوب فلسطين ووسط فلسطين، ولهذا يجب الاهتمام بدراسة هذه العائلات وامتداداتها.
ثورة نقيب الأشراف 1703-1705 وهي أول انتفاضة شعبية شارك فيها سكان البلد من البدو والفلاحين وسكان المدن ضد السلطة الحاكمة، لم نسمع عن هبة شعبية مماثلة في فلسطين قبل ذلك، أما في القرن السادس عشر فقد كانت تحدث تمردات عسكرية من قبل بعض العشائر البدوية، وكانت تحدث صراعات بين الفئة الحاكمة نفسها، وعندما دخل القرن السابع عشر بدأت سيطرة الدولة تضعف، فتمرد بعض الولاة مثل فخر الدين المعني الثاني، لكن عامة الناس كانوا مُحيّدين، إلا في عملية التجنيد الإجباري في جيش أحد الطرفين، ولم نشهد أية محاولة منظمة من قبل السكان للدفاع عن مصالحهم.
لكن العقود الأخيرة من القرن السابع عشر أخذت تُفرز نوعاً جديداً من التعاضد الاجتماعي في مواجهة السلطة الحاكمة، حيث فقد الناس الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم وإنصافهم، ولهذا تعلم هؤلاء كيف يحمون أنفسهم من قطاع الطرق وجباة الضرائب، وهذا ساعد على تعزيز مكانة القيادة المحلية التي تشجعت كثيراً على مواصلة هذا الدور نظراً لما يحققه من مصالح.
وفي المقابل حاولت الدولة العثمانية تعزيز مركزية الدولة والقضاء على الزعامات المحلية الناشئة.
على هذه الخلفية من محاولات تقويض مكانة المشايخ والأعيان، وجباية أكبر قدر من الضرائب، اندلعت معظم الهبات الشعبية في أواخر العهد العثماني، وأولها ثورة نقيب الأشراف. ويمكن إعادة بداية التململ السياسي والاستعداد لمقاومة سياسة الدولة في القدس إلى حادثة تعيين قنصل فرنسي في المدينة.
مسألة القنصل الفرنسي في القدس
ثارت سنة 1700 المشاعر في القدس عقب موافقة السلطات العثمانية على السماح لقنصل فرنسي الإقامة في المدينة لرعاية مصالح الفرنجة ورهبانهم في القدس، وأدت ثورة العلماء والأعيان إلى إبطال إقامته في القدس، أي طرده من المدينة، ولم تكن هذه أول محاولة فرنسية لإرسال قنصل إلى القدس، ولكن دون نجاح.
وكان المسلمون يخشون استعادة الوجود الصليبي في القدس، لذلك كانت حساسيتهم عالية لفتح القنصليات، ولهذا عمل العلماء ونقيب الأشراف على طرد القنصل، ومنع إقامته في القدس.
عائلة الحسيني ونقابة الأشراف في القدس
يؤكد آل الحسيني نسبهم إلى الأشراف (آل البيت)، لكن خصومهم يطعنون في الرواية، ويتضح من دراسة وثائق المحاكم الشرعية صحة النسب والمكانة الرفيعة التي تمتع بها آل الحسيني منذ أواخر عهد المماليك، وبداية العصر العثماني، وتشير إلى أنهم تولوا نقابة الأشراف، وأنهم عملوا في التجارة.
خلفية قيام الثورة وأسبابها
يمكن إرجاع اندلاع الثورة إلى الأسباب التالية:
1- اختلاف مصالح ومواقف السكان وقياداتهم من جهة، والدولة وولاتها في المنطقة من جهة أخرى، حيث كان السكان يريدون المشاركة في شئون الحكم، ولا يثقون بقدرة الدولة على تحقيق مصالحهم وحمايتهم وإنصافهم، أما الدولة وممثلوها فيريدون الحكم بشكل مركزي.
استجابت الدولة لطلب السكان والعلماء بطرد القنصل الفرنسي لأن هذه الخطوة لم تهدد شرعية الحكم ومصالحه الاقتصادية.
2- ازدياد أهمية تأمين قافلة الحج السنوية لحماية سمعة السلطان الدينية والسياسية خاصة بعد تراجعات الدولة في منطقة البلقان سنة 1699، جعل الدولة العثمانية تصر على مواقفها في فرض الضرائب على أهل فلسطين لتأمين قافلة الحجاج.
3- اتسمت سنة 1699 بقلة الأمطار في ساحل جنوب فلسطين، وقد ترافق المحل وقلة المحصول الزراعي مع تعدي البدو على القرى، فرحل الكثير من السكان. واعتدى العربان على الحجاج، وبدلاً من أن تقوم الدولة بمحاولة إعادة كسب تعاون النُخَب المحلية اعتمدت القوة والبطش سبيلاً لإعادة سلطتها وهيبتها في المنطقة، الأمر الذي يعجل الصدام والاحتكاك..
4- قيام الوالي محمد باشا بقمع المتمردينجنوب فلسطين (لواء غزة) أكثر من مرة بشكل وحشي سنة 1702، وتصدى الناس لهجماته، لكنه واصل القمع وتجاهل نصائح العلماء والأعيان، وكان على هذه النخبة أن تختار بين الاستمرار في السكوت والتضحيةبمصالحها ومكانتها في أوساط السكان، وبين مواجهة الحاكم ومحاولة وضع حد ولو بالقوة لأساليبه القمعية.
فاختار علماء القدس طريق الثورة، ورفعوا شكواهم إلى الباب العالي، لكنهم لم يتلقوا جواباً شافياً، وبعدها اعتصموا في ساحة الحرم الشريف بعد صلاة الجمعة، ودعوا أهالي المدينة إلى مواجهة الظلم ومقاومته.
*وهكذا بدأت الثورة في القدس في أوائل مايو 1703، واستمرت نحو ثلاث سنوات لتُشكِّل أول حدث من هذا النوع في تاريخ المشرق العربي في العصر الحديث.
مسار الثورة
تم نقل محمد باشا إلى دمشق أواخر 1702، وأخذ معه أغلب الجند، ولم يترك سوى حامية صغيرة في القدس، الأمر الذي شجّع الناس على المواجهة.
بدأ الثوار مهاجمة المحكمة الشرعية، وأنهوا خدمات القاضي الشرعي واتهموه بالتعاون مع أرباب الحكم، وابتزاز الأموال من الأهالي.
وانضم رجال الانكشارية إلى الثوار، واقتحم الثوار السجن، وأطلقوا سراح المعتقلين، وطردوا المتسلم وعساكره غير المحليين من بيت المقدس.
وسيطر الثوار على بيت المقدس، وعيّنوا نقيب الأشراف محمد بن مصطفى الوفائي الحسيني شيخاً على المدينة ورئيساً لها، وتم تعيين مشايخ الحارات مساعدين له، وهكذا بدأت تجربة جديدة، حكم الأهالي مدينتهم ومصائرهم فترة استمرت سنتين تقريباً حتى سنة 1705.
حاول ولاة الشام استعادة حكم بيت المقدس بشتى الطرق، لكن دون نجاح، وساعد سور المدينة الثوار، ومنعت قداستها السلطات من قصفها في المدافع.
وتمكن الثوار بقيادة نقيب الأشراف من رص الصفوف، وتجنيد الطاقات لإدارة المدينة وحمايتها ضد عدد من محاولات ولاة الشام استعادة سلطتهم على المدينة.
ومع الوقت تخلخلت وحدة الصف، واكتشف عدد من الأهالي أنهم لا يستطيعون الاستغناء عن الدولة التي دفعت رواتبهم، وتحكمت في معظم مصادر دخلهم، وانقطعت صلة المدينة بريفها ومحاصيلها والتي هي في معظمها أوقاف، ولم يتمكن الحجاج من زيارة المدينة، فتضرر التجار، وخسر الانكشارية والعلماء مخصصاتهم التي كانت تُرسل لهم من الأستانة، لهذا أخذ الكثيرون ممن تضررت مصالحهم يغيرون موقفهم، ويؤيدون عروض المصالحة والعفو والحلول الوسط التي تقدم بها ولاة الشام.
وعلى هذه الخلفية تفرَّق الصف الواحد، وبدأ الاقتتال الداخلي بين مؤيد ومعارض لمواقف النقيب المتشدد، الأمر الذي ساهم في تقويض الثورة والقضاء عليها، ويعزو عدد من المؤرخين سبب امتداد الثورة إلى انشغال الأستانة بفتن داخلية، وبالتالي عدم اتخاذ قرارات حاسمة بشأن ما يجري في القدس، لكن نقيب الأشراف جمع أنصاراً كُثُر في البداية، وبعد ذلك فقد تأييد أعداد كبيرة منهم، حتى وصلت الأمور إلى الاقتتال، وهو ما سهّل على الدولة استعادة سلطتها دون جهد كبير.
انتهت الثورة بمناوشات واشتباكات عسكرية بين نقيب الأشراف ومعارضيه، وفي ليلة 28 أكتوبر 1705 فرَّ نقيب الأشراف من باب العامود، وتسلَّم العثمانيون الحكم من جديد.
في إثر الثورة
بعد عدة أشهر ألقت السلطات العثمانية القبض على نقيب الأشراف في قلعة طرسوس في ولاية طرابلس، وحوكم في الأستانة وأُعدم، وتمت ملاحقة أنصاره الذين لا قوا مصائر متشابهة بين سجن وإعدام.
تم تعيين محب الدين بن عبد الصمد من آل غضية، والذين أصبحوا يُعرفون فيما بعد باسم الحسيني، في منصب نقيب الأشراف، وتجدر الإشارة هنا إلى أن آل غضية لا تربطهم صلة نسب حقيقية مع آل الوفائي الحسيني سابقة الذكر، وإنما صلات مصاهرة.
لم يكن هدف الدولة العثمانية معاقبة نقيب الأشراف وعائلته فقط، بل ضمان عدم تكرار مثل تلك الثورة، فقاموا بجمع الأسلحة التي كانت قد انتشرت حيازتها زمن الثورة بشكل كبير، وبتشجيع من نقيب الأشراف.
وقامت الدولة العثمانية بتعزيز الحامية العسكرية في المدينة، والتي بلغت 2000 من الانكشارية، إضافة إلى أعداد من القوات الأخرى، وتم تسكين هؤلاء في جوار القلعة حتى لا يتسلل الثوار إلى القلعة في أية مناسبة أو ثورة قد تحدث في المستقبل.
وبعد إعادة ترتيب جهاز الحكم تفرغ محافظ القدس ونابلس لجباية الضرائب.
واهتمت الدولة بمراضاة الناس في القدس عن طريق تقديم المساعدات، وتعيين الكثيرين من أهل البلد في الوظائف الشاغرة.
وقد شكّل وجود المئات من جنود الانكشارية رادعاً قوياً لعدم تكرار الثورة، لكن إقامة هذه الأعداد الكبيرة من العساكرفي المدينة أوجدت مشكلات جديدة، أبرزها تعدي هؤلاء على الأهالي، وخصوصاً أصحاب المحلات في الأسواق، كما أن صراعات مسلحة نشبت بين الانكشارية وجنود الوالي.
أما الدرس الذي تعلمته الدولة من مثل تلك الأحداث فهو أن مصلحتها هي التعاون مع الزعامات المحلية من علماء وأعيان المدينة ومشايخ الريف كأفضل سبيل لاستتباب الأمن في الأقاليم. وشهدت ألوية فلسطين المتعددة نشوء الكثير من أُسر العلماء والأعيان ومشايخ الريف التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الفئة الحاكمة تحت مظلة اللامركزية والهامش الكبير من الحكم الذاتي الذي سمحت به الدولة. وأصبحت هذه الأُسر منذ القرن الثامن عشر نُخبة متماسكة ومستقرة ومغلقة إلى حد كبير، ونجحت في الحفاظ على مصالحها ومكانتها حتى نهاية الحكم العثماني.
ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل
برز دور القوى المحلية بشكل كبير جداً في البلدان العربية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وكان لبعض هذه القوى طموحات أبعد من مجرد المشاركة في الحكم، ووصلت الطموحات حد الاستقلال الكامل في مناطقهم، وسعوا للتوسع على حساب جيرانهم، فاصطدموا بالدولة العثمانية وحاربوها.
ظهر في بلاد الشام ثلاث عائلات مهمة خلال القرن الثالث عشر الميلادي:
1- آل العظم في سوريا، الذين اسسوا نفوذهم على التعاون مع الدولة العثمانية.
2- آل شهاب في جبل لبنان الذين اصطدموا أحياناً بولاة صيدا ودمشق للحفاظ على استقلالهم.
3- الزيادنة، الذين اقتصر دورهم في الجيل الأول على جباية الضرائب، لكن الجيل الثاني بقيادة ظاهر العمر تطلع إلى التوسع والتحالف مع أعداء الدولة العثمانية، لكن الطموحات الواسعة كانت أكبر من إمكانيات ظاهر العمر، وساقته إلى حتفه.
بداية دور الزيادنة:
رحل بنو زيدان من الحجاز، ونزلوا في منطقة طبيرة، ثم انتقلوا إلى سهل البطوف بالقرب من قرية عرابة، ودخلوا في صراع مع الدروز في تلك النواحي، فتراجع دور الدروز في الجليل، ثم تم تعيين الشيخ عمر بن صالح الزيداني شيخاً على عرابة البطوف، وأصبح الزيادنة بعد ذلك ملتزمين جباية ضرائب.
وهكذا ابتدأ نفوذ العائلة في الجليل بالتعاون والتحالف مع الفلاحين، ثم التعيين الرسمي لجباية الضرائب، ثم تم تعيين الزيادنة مشايخ للقرى خارج سهل البطوف.
وفي سنة 1697 اختار مشايخ جبل لبنان بشير الشهابي أميراً على جبل لبنان، وبذلك أصبحت الأسرة الشهابية خليفة لأسرة المعنيين، وتجدر الإشارة إلى أن آل شهاب من الطائفة السنية، وتم اختيارهم من قبل جميع الطوائف، وكان هذا يعني اجتماع رأي أغلبيى العائلات القيسية –بغض النظر عن الانتماء الطائفي- الأمر الذي يدل على أهمية التعاطف والتعاضد في صفوف القيس واليمن في تلك الفترة.
اتبع الأمير بشير الشهابي سياسة استبدال الأمراء اليمنيين بآخرين قيسيين، وفي هذا السياف تم تعيين الشيخ عمر الزيداني ملتزماً لجباية الضرائب في صفد.
توفي الشيخ عمر الزيداني سنة 1703، وكان ابنه ظاهر في الرابعة عشرة من عمره، وفي سنة 1707 مات الأمير بشير الشهابي، فحاول والي صيدا بسط نفوذه على الجليل، لكن الزيادنة استمروا في وظيفة الجباية في عدد من نواحي الجليل، وفي تلك الأثناء بدأ يصعد نجم ظاهر العمر، أصغر أولاد الشيخ عمر صالح الزيداني.
ولم يكتف الجيل الثاني من الزيادنة بالتزام جباية الضرائب، بل تطلعوا إلى إقامة إمارة شبه مستقلة مثل آل شهاب.
يمكن تقسيم فترة حكم ظاهر العمر ودوره إلى ثلاث مراحل أساسية هي:
1- توسيع نفوذه في الجليل حتى توحيده تحت سلطة الزيادنة من 1730-1746.
2- توطيد حكمه في عكا والجليل ومحاولة توسعه في أنحاء أخرى من فلسطين 1746-1770.
3- تحالفه مع حاكم مصر علي بك الكبير ونهاية حكمه 1770-1775.
توحيد الجليل تحت حكم الزيادنة
اتخذ ظاهر العمر من طبرية مركزاً ومعقلاً له، فعمّرها وحصّنها، وبدأ يتصرف كحاكم محلي، وليس مجرد ملتزم لجمع الضرائب، وعمل على كسب ود الفلاحين، كما عمل على التحالف مع العشائر القوية، لكنه واجه مشكلة تتمثل في مشايخ النواحي الذين عملوا كملتزمين لجباية الضرائب، وكان عليه إما أن يقاتلهم، أو يتحالف معهم.
والعقبة التالية تمثلت في سلطات الدولة العثمانية التي كانت تهتم بمركزية الحكم، وتسعى لإضعاف استقلال أمراء جبل لبنان.
انزعج ولاة صيدا، وكذلك آل العظم في دمشق من توطيد حكم الزيادنة في طبرية وما حولها، وزاد الانزعاج بسبب تحرش ظاهر العمر بأمراء اللجون ونابلس من آل ماضي وجرار، وهما تابعان لولاية الشام، ولهذا حاول سليمان باشا العظم سنة1737 تحجيم نفوذ ظاهر العمر بالقوة المسلحة، لكنه لم ينجح، وتم نقله، أي سليمان باشا العظم لحكم مصر.
حاول سليمان باشا العظم سنة 1742 محاصرة طبرية وإسقاط حكم ظاهر العمر، لكنه لم يتمكن بسبب حصانة طبرية، ويُذكر أن ظاهر العور كان يعلم بتحركات سليمان باشا العظم قبل أن يخرج لمحاربته عن طريق أفراد من الجالية اليهودية في دمشق، وفي استنبول، الذين كانوا يُخبرون يهود طبرية وحاخامهم أبو العافية بذلك.
بعد وفاة سليمان باشا العظم، تفرّغ ظاهر العمر لتوطيد حكمه في الجليل ونقل عاصمته من طبرية القريبة من دمشق إلى عكا، وذلك سنة 1746.
وفي عهده نشطت زراعة القطن في الجليل، وتم تسويقه في أوروبا، ونشط التجار الأوروبيون في صيدا وعكا، وقد وفرت هذه التجارة موارد لظاهر العمر مكنته من البناء والتعمير وبناء التحصينات والقوات العسكرية، وقد استفاد ظاهر العمر من الإمكانات الاقتصادية في توطيد علاقته مع رجال الدولة، ورغم كونه مجرد ملتزم لجمع الضرائب، إلا أنه تصرّف مثل الولاة والحكام.
وأتم الزيادنة بسيطرتهم على عكا  توحيد الجليل تحت حكمهم، وقد كانت عكا مهملة منذ نهاية الاحتلال الصليبي سنة 1291، حيث تم الاهتمام من قبل المماليك والعثمانيين بالمدن الداخلية، وإهمال المدن الساحلية التي هُدم الكثير منها، وقرر ظاهر العمر الاستفادة من ميناء عكا في التصدير والاستيراد مع أوروبا، خاصة فرنسا، ومنذ تلك الفترة ارتبط اقتصاد الجليل بالاقتصاد الأوروبي.
ظاهر العمر في أوج قوته 1746-1770
اهتم ظاهر العمر بنشر الأمن والازدهار الاقتصادي كقواعد أساسية لتوطيد حكمه في الجليل، وقوّى علاقاته بالتجار، وجنّد معه البدو والفلاحين، لكنه منذ الأربعينات عمل على تأسيس جيش نظامي، يمكن الاعتماد عليه طوال العام، ثم وسّع اعتماده على العساكر المرتزقة، إضافة إلى الجنود المحليين.
واستخدم ظتهر العمر الجيش في قتال الولاة المجاورين، وكذلك في فرض الأمن والنظام الداخلي، وتطورت عكا بسرعة حيث أصبحت مركزاً تجارياً عاليما، وأصبحت بؤرة لاستقطاب المهاجرين من القرى المجاورة، وكذلك سهّل إقامة بعض سكان قبرص من الروم الأرثوذكس في عكا في تطوير الزراعة.
كان عدد كبير من العرب الذين انتقلوا إلى عكا من المسيحيين، واُقيمت فيها ثلاث كنائس، ويرجع هذا إلى سياسة التسامح الديني التي اتبعها ظاهر العمر، وأصبحت عكا حاضرة يشار إليها بالبنان، وتعج بالنشاط والحيوية.
بعد أن وطّد ظاهر العمر حكمه في الجليل تطلع للتوسع، وفي مسعاه لتحقيق ذلك وجد مقاومة شديدة من الأسر المحلية التي كانت تحكم غزة ونابلس والقدس في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، وتمكن ظاهر العمر من الاستيلاء على حيفا وأحياها، ثم استولى على القرى المحيطة.
حسين باشا مكي
 ينحدر أصل عائلة مكي من حلب، فقد هاجر أحد أفرادها (فخر الدين الحلبي) إلى غزة أواسط القرن السابع عشر الميلادي، واشتغل فيها بالتجارة، ثم اختاره موسى آل رضوان –حاكم غزة- جابياً لأوقافه سنة 1670، ثم خلفه أولاده الثلاثة (يوسف وعلي ومحمد)، وعمل محمد في خدمة ولاة الشام، وأصبح يُعرف باسم محمد بن مكي- بعد زوال حكم آل رضوان، ثم أصبح يُعرف باسم محمد آغا الكتخدا، وتوجّه إلى دمشق ثم استنبول، وأخذ غزة التزاماً مدى الحياة.
وفي عهده تم بناء مزار الشيخ محمد الجراح في ناحية خانيونس، وقدمت الدولة العثمانية بعض التسهيلات لتقوية حكام جنوب فلسطين حتى يكونوا قادرين على موازنة الحال مع الزيادنة، ثم عيّن أسعد باشا العظم محمد بن مكي (كتخدا- أي مساعداً له في الحكم)، وعيّن ابنه حسين مكانه في غزة، وتوفي محمد بن مكي سنة 1747، فخلفه ابنه حسين في زعامة العائلة، وقام أسعد باشا العظم بتعيين حسين بن محمد مكي حاكماً على القدس سنة 1756 لمدة سنة، ثم عاد إلى غزة، ومنحه السلطان في تلك الفترة رتبة أمير الأمراء، وأصبح يُجعى حسين باشا مكي، ثم تم تعيينه والياً على صيدا، ثم والياً على دمشق، وإمارة الحج والقدس ونابلس خلفاً لأسعد باشا العظم.
كانت مهمة حسين باشا مكي صعبة، حيث كان الغلاء مستشرياً في دمشق، وأثار الناس، وثارت فرق الانكشارية، وفي هذه الأجواء جهّز حسين باشا مكي قافلة الحج، وتعرّض الحجاج لأعمال السلب والنهب، وتشتت الآلاف منهم، ووصل المئات إلى غزة والقدس، ونزلوا في دار السيد عبد اللطيف نقيب الأشراف.
رغم مسئولية حسين باشا مكي المباشرة عن حماية القافلة، إلا أنه لم يُعاقَب، وإنما دفع الثمن الكزلار آغا (المسئول عن عبيد السلطان في استنبول، والذي تم إعدامه)، واتُهم ظاهر العمر بأنه متآمر مع العربان لأن المسروقات بيعت في عكا، وكذلك اتهم أسعد باشا العظم بالتآمر مع العربان انتقاما لعزله عن دمشق وتعيين حسين باشا مكي.
تم نقل حسين باشا مكي حاكماً على غزة، ثم نُقل حاكماً على مرعش في الأناضول، ثم أُعيد إلى غزة، وهناك واجه قبائل بني صخر والوحيدات حيث حوصرت خانيونس سنة 1765 بقيادة الشيخ سليط الوحيدي، ثم انسحب سليط، ولحق به حسين باشا مكي، ووقع في الفخ، وقُتل حسين باشا ومعظم جنوده.
على خلفية الحدث اتصل ظاهر العمر بنقيب الأشراف السيد عبد اللطيف الحسيني، وطلب منه الوسط لدى حكام الشام لكي يمتد حكم ظاهر العمر إلى غزة، ويكشف هذا الموقف مكانة آل الحسيني، لكن يبدو أن آل الحسيني لم يكونوا مرتاحين من حكم الزيادنة، وكان ظاهر العمر قد سيطر على أراضي تتبع آل الحسيني في يافا عندما سيطر عليها.
تجدد الصراع بين ظاهر العمر وولاة الشام
تم تعيين عثمان باشا الكرجي والياً على دمشق سنة 1760 بهدف فرض الأمن والاستقرار بعدما حاق بقافلة الحجاج، واستمر حكمه حتى سنة 1771، وعيّن أولاده في صيدا وطرابلس بهدف إحكام السيطرة على بلاد الشام، وتتمثل أهدافه في:
1- تأمين قافلة الحج.           2- التخلص من المتمردين خاصة ظاهر العمر.
كان ظاهر العمر يواجه متاعب من أولاده الذين كانوا يثورون عليه، وقد ساهمت هذه الثورات في إضعافه، ودارت صراعات وحروب  بين ظاهر العمر وبين عثمان باشا الكرجي، وكانت هذه الحروب كر وفر حول حيفا وعتليت والطنطورة، وتحالف سكان حيفا مع ظاهر العمر لكي يحافظوا على الانتعاش الاقتصادي والعمراني الذي تحقق لهم.
بعد مقتل والي غزة حسين باشا مكي، حاول ظاهر العمر السيطرة عليها، لكن دون جدوى، أما والي الشام فتعاون مع حكام مصر، وتمكن من التخلص من الشيخ سليط الوحيدي، والذي كان متمرداً، وفي يافا والرملة قام عثمان باشا الكرجي بجمع الضرائب، وتعامل مع الناس بقسوة، فثار الناس على ولاة الشام واتصلوا بظاهر العمر طالبين الحماية.
تحالف عثمان باشا الكرجي مع آل جرار في نابلس واللجون، فثارت عليه آل طوقان والبرقاوي وتحالفوا مع علي بك الكبير لحمايتهم من بطش العثمانيين.
تمرد ظاهر العمر وتحالفه مع علي بك الكبير
حصلت التطورات التالية في أواخر الستينات من القرن الثامن عشر:
1- طرأ تحسن كبير على علاقات ظاهر العمر بأولاده.
2- شهدت علاقات الزيادنة بجيرانهم في لبنان تحولات من العداء إلى المصالحة والتحالف، حيث تصالح ظاهر العمر مع الشيخ ناصيف نصار، وهو زعيم شيعي.
3- انفرجت العلاقات مع الأمير منصور الشهابي في جبل لبنان.
ويعني هذا أن وضع ظاهر العمر أصبح أفضل بكثير مما كان عليه، ويرجع السبب في ذلك إلى:
أ- إن تغير موازين القوى المحلية جاء بسبب دخول العثمانيين حرباً مع روسيا سنة 1768، واستمرت حتى معاهدة كوجك قينارجة سنة 1774.
ب- واجه الحكم العثماني صعوبات وثورات في مناطق متعددة من بلاد البلقان.
ج- تعدد الصراعات بين العثمانيين وحكام إيران بشأن جنوب العراق سنة 1769.
د- وجود فرصة للتحالف بين ظاهر العمر وعلي بك الكبير.
كان علي بك الكبير يطمح في استعادة حكم المماليك الذي سقط بقدوم العثمانيين، لذلك تحالف مع ظاهر العمر، واساغل ظاهر العمر وعلي بك الكبير فترة الحربي بين الدولة العثمانية وبين روسيا وشنا الهجوم، خاصة أن عثمان باشا الكرجي كان ينوي مهاجمة عكا.
تعرّضت الدولة العثمانية إلى هزائم على يد الروس، وتمكن الأسطول الروسي من دخول البحر المتوسط، اتصل ظاهر العمر وعلي بك الكبير بقائد الأسطول الروسي الكونت أورلوف سنة 1770 وحصلا على تعهد بأن يقوم بمساعدتهما إذا اقتضت الضرورة.
الحملة الأولى على بلاد الشام
كان علي بك يعلم بنقمة سكان بلاد غزة ويافا والرملة على عثمان باشا الكرجي والي دمشق، فاستغل الموقف وهاجم الشام مدعياً أنه جاء لإنقاذ أهل فلسطين، ولكسب ود الناس أعلن علي بك الكبير إلغاء ضريبة الميري لمدة أربعة أعوام في جميع أنحاء فلسطين، فتشجعت المدن لإعلان ولائها له، ولم يؤيد والي الشام سوى آل جرار وعشائر بني صقر وبني صخر بسبب عداوتهم للزيادنة.
انسحب عثمان باشا من فلسطين بسرعة، وتراجع إلى دمشق أواخر سنة 1770 بعد التقاء قوات ظاهر العمر والعساكر المصرية بقيادة إسماعيل بك، واحتلت القوات المشتركة يافا سنة 1771، ثم توقف زحفها بسبب مرض ظاهر العمر، وبعض الخلافات بينه وبين قائد الحملة المصرية، وكذلك بسبب خروج عثمان باشا الكرجي على رأس قافلة الحجاج.
استغل الطرفان الهدنة لإتمام التحضيرات العسكرية، ووصلت وقات مصرية إضافية بقيادة محمد بك أبو الذهب الذي عيِّن لقيادة الحملة المصرية، ومن ثمّ القوات المشتركة مع قوات ظاهر العمر، وكانت القوات المدافعة عن دمشق متناحرة متنافرة ينقصها العدة والعتاد والقيادة المجربة.
أرسل العثمانيون نجدة لكن محمد بك أبو الذهب تمكن من احتلال دمشق في 10-6-1771، وهرب عثمان باشا الكرجي مع عدد كبير من عساكره، وكان احتلال الشام صدمة للعثمانيين وفرحة للقاهرة وعكا، لكن أبو الذهب جمع عساكره بعد عشرة أيام، وعاد إلى القاهرة دون وجود سبب عسكري مقنع، لكن يبدو أن هنالك اتفاق قد أبرمه أبو الذهب مع العثمانيين، وكان على ظاهر العمر بعد هذا الانسحاب أن يواجه العثمانيين وحده، وكانت الدولة العثمانية منهمكة في حربها ضد روسيا.
الزيادنة وبقية حكام فلسطين:
حدثت مواجهات بين ظاهر العمر وبقية حكام فلسطين، ومن أبرزها:
1- هاجم مصطفى بك طوقان متسلم لواء نابلس مدينة يافا، واستعادها من قوات علي بك وظاهر العمر.
2- نجح علي آغا أبو المرق –وريث الحكم بعد آل مكي- في السيطرة على غزة بدعم من والي الشام محمد باشا العظم.
وهكذا تبين مرة أخرى أن العائلات التي وطدت حكمها جنوب فلسطين وقفت عقبة كأداء أمام توسع حكم ظاهر العمر.
ثار أولا\ ظاهر العمر عليه مرة أخرى، وساء موقف علي بك الكبير الذي خسر حكم مصر، ولجأ إلى حليفه ظاهر العمر، وأصبح عبئاً ثقيلاً عليه. في تلك المرحلة توجه ظاهر العمر وعلي بك الكبير إلى قائد الأسطول الروسي في البحر المتوسط طلباً للمساعدة، وفعلاً قصف الأسطول بيروت في 18-6-1772.
دافعت الدولة العثمانية عن بيروت، وبرز من بين القادة أحمد باشا الجزار أمام القصف الروسي والحصار الدرزي، واستسلم الجزار لقوات ظاهر العمر لينجو من الدروز، وأرسله ظاهر العمر إلأى يافا لجمع ضرائب الميري، لكنه هرب إلى القدس ومنها إلى دمشق.
لقد قررت الدولة العثمانية القضاء على ظاهر العمر بعد تجاوزه الخطوط الحمراء بتحالفه مع علي بك الكبير والأسطول الروسي.
مات علي بك الكبير في أبريل 1773، بعد مواجهات مع أبو الذهب، وازدادت قوة آل طوقان وآل أبو المرق في مواجهة ظاهر العمر، وعينت الدولة العثمانية عثمان باشا المصري قائداً للحملة العسكرية العثمانية التي جاءت للقضاء على ظاهر العمر، لكن عثمان باشا المصري خشي المواجهة فتوصل مع ظاهر العمر لاتفاق أواخر سنة 1773 يقضي بتعيينه حاكماً على غزة ونابلس ويافا وعجلون لجباية ضريبتها إضافة إلى صيدا، لكن الدولة العثمانية رفضت الاتفاق، ولما أوقفت حربها مع روسيا بمعاهدة كوجك قينارجة سنة 1774 تفرّغت لمواجهة ظاهر العمر.
حملة أبو الذهب ونهاية ظاهر العمر
بعد أن انتصر أبو الذهب على سيده علي بك الكبير في مايو 1773، بقي سنتين يجهز نفسه عسكرياً، ويتابع ميدانياً ما يجري في الشام، وسار إلى غزة في 1-4-1775، فاستسلمت له، وكذلك فعلت الرملة، لكن ظاهر العمر حصّن يافا، وترأس الدفاع عنها يوسف الصباغ، وبعد حصار 48 يوماً سقطت المدينة فسلبها ونهبها وقتلت عساكره أهلها، خشي الأهالي هذه الوحشية فهرب الكثيرون من وجه عساكر أبو الذهب.
أخلى ظاهر العمر عكا، ولجأ إلى الجبال، وواصل أبو الذهب فاحتل حيفا ثم عكا من دون مواجهة تُذكر، لكنه فتّش عن خزينة ظاهر العمر، فهدم البيوت والحوانيت بحثاً عنها، وانتقم من الأهالي، فدب الرعب في قلوب الجميع من بطش أبو الذهب، لكنه مات في 10-6-1775.
عاد ظاهر العمر مباشرة إلى عكا، لكن أحمد باشا الدنكزلي، الذي سيطر على المدينة أهان ظاهر العمر وسلب أمواله.
أرسلت الدولة العثمانية أسطولاً بقيادة القبطان حسن باشا للقضاء على ظاهر العمر، الذي تمرد عليه أبناؤه وانفض من حوله أغلب أعوانه، لكن الدنكزلي قتله وقطع رأسه، وأعطاه للأسطول العثماني طمعاً في أن تعفو عنه الدولة العثمانية في شهر 8-1775.
أسباب ظهور الزيادنة
1- سياسة العثمانيين وتطور مكانة الأسر المحلية جعلت الكثيرين منهم يتصدرون المشهد في البلدان العربية.
2- تشجيع زراعة القطن وتصديره، وتحقيق الأمن والازدهار الاقتصادي.
3- التعاون والتحالف مع الأهالي الذين أصبحوا شركاء للزيادنة.
التسامح مع اليهود والنصارى الذين لعبوا دوراً هاماً في التجارة.
5- إقامة شبكة علاقات مع رجال الدولة العثمانية من أجل أن يرعو مصالحه في إستنبول.
أسباب سقوط الزيادنة
1-عدم تجانس السكان (سنة- شيعة -دروز- مسيحيين) حيث التف هؤلاء حول ظاهر العمر، وكانوا سنداً له عندما، ولما ضعف تخلوا عنه.
2- الصلاحيات الواسعة التي منحها ظاهر العمر لأولاده أغرتهم بالتمرد والثورة، رغبة في الاستقلال.
3- توسع الزيادنة خارج الجليل جعلهم يصطدمون بأعداء جدد تخوفوا من اختلال توازن القوى، لذلك حاربت الأسر الحاكمة بشدة للحفاظ على ذاتها.
4- كانت طموحات ظاهر العمر أكبر من إمكانياته الذاتية، فلجأ للتحالف مع علي بك الكبير، والأسطول الروسي، وكان هذا خطأً استراتيجياً جعل كل رجال الدولة العثمانية يصرون على ضرورة التخلص منه.
حكم أحمد باشا الجزار في فلسطين
1775-1804
أحمد باشا الجزار بشناقي الأصل (أي من البوسنة)، وصل إستنبول وكان يبلغ من العمر 18 سنة، اشتغل حلاقاً، ثم وصل مصر مع قوات علي باشا سنة 1755، واشتغل بنشاط في ملاحقة خصوم الدولة، وقتل أربعة من كبار عشيرة الهنادي، فاكتسب لقب الجزار منذ ذلك الوقت لجسارته وقسوته، ثم انضم إلأى خدمة علي بك الكبير ومحمد بك أبو الذهب، وحصل على لقب بك.
ثم عاد إلى إستنبول، ومن هناك ذهب إلى حلب، وصار يتجول في بلاد الشام، وفي سنة 1773 أرسل مع قوة صغيرة إلى بيروت لتخليصها من الأسطول الروسي، وأخذ يُحصّن المدينة ويرمم أسوارها، فاستعان الدروز بظاهر العمر وبالروس، واستمر القتال أربعة شهور، استسلم الجزار باتفاق مع ظاهر العمر، ووصل عكا، وأكرمه ظاهر العمر، ثم عاد إلى إستنبول وشغل عدة مناصب في ولايات البلقان.
سنة 1775 تم تعيينه حاكماً لعكا بعد سقوط ظاهر العمر. ثم عينه السلطان والياً على صيدا، مركز الولاية، لكنه احتار البقاء في عكا، لأنها أصبحت مركزاً تجارياً وسياسياً أهم كثيراً من صيدا، ورغم قوة الجزار وبطشه فقد قام له منافسون في غزة ونابلس والقدس حتى بعد أن قضى على الزيادنة.
ملاحقة الزيادنة وتوطيد حكم الجزار
حاول الجزار في البداية التقرب من الزيادنة كسباً للوقت حتى يجد الفرصة الملائمة للانقضاض عليهم، وحاول أن يُبقي عثمان بن ظاهر العمر في شفا عمرو شرط استمراره في دفع ضريبة الميري والاعتراف بحكمه، وفي نفس الوقت كان يجهز جيشاً لمحاربة علي بن ظاهر العمر في صفد، وأبقى أحمد بن ظاهر العمر حاكماً في طبرية، وحاول التحالف معه، فعل ذلك لأنه يعلم علي الظاهر هو أقوى آل زيدان، فإذا تخلص منه مد سلطة حكمه الفعلي في أنحاء الجليل.
بدأت المواجهات في قرى الجليل الغربي، ونجح الجزار في تخليص هذه المنطقة من عليّ الظاهر في صيف 1776، وتراجع عليّ الظاهر إلى صفد، وجمع قواته هناك، ولم تكن المواجهات سهلة، سواء في الجليل الشرقي أو الغربي.
طلب أحمد باشا الجزار مساعدات عسكرية وصلته مع أسطول حسن باشا، وتحت قصف المدافع سلّم عليّ الظاهر القلعة في دير حنا، وأرسل قاضي صفد إسماعيل أفندي للتفاوض مع الجزار بشأن شروط التسليم، لكن الجزار رفض التفاوض مع القاضي، وأصرّ على حضور عليّ الظاهر نفسه، وبعد سقوط دير حنا هبطت عزائم المدافعين في طبرية وصفد، وقرروا التسليم، وبذلك سيطر الجزار على الجليل.
أخذ حسن باشا، قائد الأسطول العثماني، معه إلى إستنبول أربعة من أولاد ظاهر العمر بعد القبض عليهم، وهم سعد الدين، وصالح، وعثمان، وأحمد. أما عليّ الظاهر فقد هرب وقاتل قوات أحمد باشا الجزار، لكن الجزار دس له في صفوف قواته من غدر به وقتله، وقطع رأسه وأرسله إلى إستنبول في شهر نوفمبر 1776، وبهذا تم القضاء تماماً على وجود ونفوذ الزيادنة في الجليل.
تعزيز مكانة الجزار وعلاقاته المحلية:
رغم نجاح الجزار في حكم ولايته، إلا أن عدداً من كبار رجال الدولة حاولوا إقناع السلطان بإبعاد الجزار عن عكا، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، وتمكن الجزار من السيطرة على أنحاء ولايته، وسيطر على القوى المحلية بالقوة والبطش غالباً، ولما يئست الدولة العثمانية من محاولات إبعاده عن عكا، قررت الاستعانة به لحكم دمشق التي عانت جراء عدم الاستقرار وتبدل الحكام بعد وفاة محمد باشا العظم، فتم تعيين الجزار والياً على الشام سنة 1785، وقاد قافلة الحج الشامية بكفاءة، لكن حكمه في دمشق تميز بالظلم، وملاحقة الأهالي وابتزاز أموالهم.
وكان يستخدم الأموال في رشوة المقربين من السلطان لتثبيت حكمه، ثم تم تعيينه على دشق مرة أخرى من سنة 1791-1795، ثم عُيِّن سنة 1798 لدرء خطر العدوان الفرنسي (الحملة الفرنسية)، وكان تعيينه للمرة الرابعة 1803 لدرء خطر الوهابيين الذين انتقلوا من نجد إلى الحجاز.
اهتم الجزار بزيادة تحصين عكا، حتى يصعب –حتى على الدولة- إخراجه منها بالقوة، وجعل من الجيش عماد سلطته، وكان فيه مماليك ومرتزقة من البوشناق والأرناؤؤوط والتركمان والمغاربة، وأثبت جيشه كفاءة مقارنة مع بقية جيوش المنطقة، وقد أتاح له هذا التفوق العسكري، وتعيينه والياً على دمشق، إمكانية التدخل في شئون ألوية نابلس والقدس وغزة.
حاول الجزار إخضاع حكام نابلس والقدس، لكنه لم يستطع، وتزعم الجزار بقيادة يوسف آغا العائلات القيسية وتنافسوا مع العائلات اليمنية بقيادة آل طوقان، ولما أصبح الجزار والياً على الشام ذهب زعماء العائلات لتهنئته، لكن يوسف آغا جرار رفض الذهاب، واكتفى بإرسال الهدايا، وتحصن يوسف آغا في قلعة صانور، فحاصرته قوات الجزار، واستمر الحصار شهر ونصف، لكنه فشل في اقتحام القلعة، واصطر للانسحاب في مايو 1791 استعداداً لمرافقة قافلة الحج.
وطّد آل طوقان نفوذهم في نابلس ونواحيها خلال فترة حكم الجزار، وعشية الحملة الفرنسية، عيّن الجزار –أسعد بك طوقان- متسلماً على القدس، واختلف الاثنان، فوجّه الجزار لأسعد بك تُهم مثل الخيانة وغيرها وعزله، لكن الجزار أعاد أسعد بك مرة أخرى.
كان الهدف الأبعد للجزار هو محاولته فرض سلطته المباشرة على هذه المنطقة التي ظلت تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتي، ولما عُزل الجزار عن ولاية الشام سنة 1795 عاد آل طوقان إلى حكمهم في نابلس.
سياسة الجزار تجاه البدو:
كانت عشائر البدو هي التحدي الأقوى لسلطة الحكام في فلسطين، وكان ظاهر العمر قد عالج بالتحالف والمصاهرة مع بعض العشائر، وبمحاربتها أحياناً أخرى، أما الجزار فقد اتبع وسيلتين لتحديد نفوذ البدو ومنعهم من التغلغل في أوساط السكان، تمثلت الوسيلة الأولى في بناء القلاع والتحصينات، وركزت الوسيلة الثانية على محاربتهم، ومثال ذلك مواجهة الجزار لغزوة البدو، والتي بلغت 20 أفاً من عربان بني صخر وعنزة لمناطق صفد وطبرية وشفاعمرو، حيث نصبوا خيامهم في تلك المناطق، واعتدوا على السكان سنة 1778، في البداية كان الجزار مشغولاً بقتال الدروز، لكنه وبسبب ثوراتهم واعتداءاتهم قاتلهم حتى أخرجهم من الجليل. لكن علاقات البدو مع سكان المدن لم تكن مجرد اعتداءات، بل كان فيها تبادل تجاري وعلاقات تعاون.
العدوان الفرنسي (الحملة الفرنسية 15/6/1798-6/6/1799):
أحدث العدوان الفرنسي بتاريخ 15-6-1798 على مصر ارتباكاً في مصر والشام وإستنبول، وبدأت الرسائل تطير بين القاهرة والقدس ودمشق وإستنبول للاحتياط، وحماية المدينة المقدسة، خوفاً من حملة صليبية تغتصب المدينة مجدداً.
تجدر الإشارة إلى أن القدس لم تكن العاصمة، بل عكا هي التي كانت مركز الحكم، لكن الرسائل من القاهرة تم توجيهها إلى القاضي موسى الخالد، والمفتي حسن الحسيني، والشيخ محمد بدير، والشيخ محمد أبو السعود. وكانت هذه الرسائل فاتحة لعشرات الفرمانات السلطانية والأوامر وغيرها من الوثائق المحفوظة في سجلات المحاكم الشرعية في القدس.
ونتيجة لهذه الاتصالات والمعلومات، دب الرعب في قلوب الناس، وثار الغضب، وانعكس ذلك على شكل اعتداءات على أديرة الفرنج في القدس، لكن والي الشام رفض هذه التعديات، وحذّر من استمرارها.
وبدأ أهل القدس يتحفزون للقتال دفعاً عن أنفسهم بعد سماعهم أخبار احتلال القاهرة، وسير نابليون نحو العريش، وأخذت الدولة العثمانية تحض سكان فلسطين على الاستعداد للجهاد والقتال، وفي هذه الأثناء نشبت الثورة الأولى في القاهرة، والتي قُتل فيها أحد كبار ضباط الجيش الفرنسي، وكان أحد قادة تلك الهبة الشعبية في أكتوبر 1798 السيد بدر الدين بن موسى بن مصطفى الوفائي الحسيني المعروف بـ (ابن النقيب)، وهرب بدر الدين ناجياً من حكم الإعدام، ودخل مدينة القدس، وشغل عدة وظائف فيها.
توجه نابليون إلى عكا:
كلفت الدولة العثمانية أحمد باشا الجزار بمهمة الدفاع عن فلسطين، وكلفته بتولي مسئولية صيدا وولاية دمشق أيضاً، وقام الجزار بتعيين إسماعيل باشا، أحد كبار ضباطه لحكم لواء القدس، بقي إسماعيل باشا في القدس إلى أن انسحب نابليون من المنطقة.
وصل نابليون غزة ودخلها دون مقاومة في 25/2/1799، وأصدر نابليون المناشير لتطمين الناس، وأكد على أن هدف الحملة الفرنسية هو طرد المماليك وعساكر الجزار، لكن هذه الدعاية لم تنطلِ على أهالي فلسطين، وواصل الجيش الفرنسي سيره نحو أسدود ثم يبنا، ثم احتل الرملة، وكانت هذه خطوة مهمة لقطع الطريق بين يافا و القدس من جهة ومن أجل حماية ظهر الجيش الفرنسي الذي حاصر يافا وحاميتها العسكرية، حيث كانت يافا ذات سور وتحصينات، لكن نابليون حاصرها، وقطع عنها الإمدادات، وهاجم نابليون المدينة، وفتح ثغرة واسعة في سورها بتاريخ 6/3/1799، ودار قتال دموي في شوارعها وأزقتها، وفقد الفرنسيون 1500 جندياً، لكن الفرنسيين ذبحوا 3 آلاف أسير، وعلل الفرنسيون المذبحة بالقوا أن هؤلاء الأسرى لو اُطلقوا سيقاتلون الفرنسيين في مواقع أخرى، ومن ناحية أخرة فإن الجيش الفرنسي قليل العدد، وليس بإمكانه أسر كل هذه الأعداد الكبيرة، لكن نابليون اعترف في مذكراته التي كتبها في منفاه بأن ما فعله كان وصمة عار في سجله الحافل بالانتصارات العسكرية والمواقف الشجاعة.
ثم توجهت الحملة شمالاً باتجاه عكا، المدينة المحصنة بسور منيع وأبراج وخندق عميق وعريض، وتُنقل المياه إليها من قناة لمحكمة البناء، ولدى الحامية 30 مدفعاً، بينما الجيش الفرنسي لا يوجد معه سوى 12 مدفعاً.
بدأ حصار عكا في 18/3/1799، واستمر شهرين، تخللها محاولات للهجوم لكنها فشلت، وساعد الأسطول الإنجليزي عكا من خلال تقديم المعونات وضرب الجيش الفرنسي من البحر، وعد الفرنسيون صالح بن ظاهر العمر أن يُعيدوا له حكم الجليل لو ساعدهم.
وقاتل الفرنسيون العثمانيين في منطقة الجليل واحتلوا صفد وطبرية.
وأحضر نابليون مدافع جديدة من مصر، وجدد محاولات احتلال عكا ولكن دون جدوى، وبدأت أعداد الجيش الفرنسي تتساقط بفعل القتال، وكذلك الأمراض. وتأكد نابليون من أنه لن يتمكن من اقتحام عكا.
وبدأ الانسحاب من أمام أسوار عكا في 20/5/1799، لكن القوات الفرنسية وجدت صعوبات كثيرة في حماية قواتهم ونقل جرحاهم وأسلحتهم، حيث تمترس أهالي الجبال على رؤوس الطرق لمحاربة الفرنسيين.
وصل الفرنسيون يافا يوم 24/5/1799، وكان في انتظارهم 1000 جريح ومصاب بالطاعون، نقلوا بعضهم عن طريق البحر، والبعض الآخر تخلصوا منه عن طريق إعطائهم السُّم.
بالغ الكثيرون في أهمية العدوان الفرنسي، وأثره في إيقاظ المنطقة العربية من سبات طويل، ربما في مصر هذا صحيح، رغم أنه محل نقاش، لكن في فلسطين فإن العدوان مكث أربعة شهور ثم انتهى، لذا فإن تأثيرها في تاريخ المنطقة المحلي لا يكاد يُذكر، لكن هذه الحملة نبهت الأهالي إلى مخاطر أوروبا وطموحاتها الاستعمارية.
منافسة محمد باشا أبو المرق للجزار
وصل الجيش العثماني القادة لمحاربة الفرنسيين، يقوده الصدر الأعظم ضياء باشا، إلى دمشق أواخر أغسطس 1799، أي بعد انسحاب نابليون، وكانت الدولة قد أصدرت أوامر للجزار بملاحقة الفرنسيين ومحاربتهم في مصر، لكنه لم يفعل شيئاً على هذا الصعيد؛ لأنه يريد تثبيت نفسه في عكا، واستقال الجزار من وظيفته كوالي على دمشق، وكذلك من مهمة محاربة الفرنسيين.
وتم تعيين عبد الله باشا العظم والياً على الشام.
زحف الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم ضياء باشا باتجاه الحدود المصرية لمحاربة الفرنسيين، وتم فرض ضرائب أثقلت كاهل الناس في ظل الأزمة الاقتصادية على خلفية توقف التجارة مع مصر وفرنسا فترة الحملة الفرنسية.
رفض أحمد باشا الجزار التعاون مع الصدر الأعظم، وكذلك مناطق القدس ونابلس، لكن محمد آغا أبو المرق تعاون مع الصدر الأعظم بشكل كبير، وتم تعيين أبو المرق متصرفاً على ألوية القدس ويافا وغزة، فغضب أحمد باشا الجزار، لأنه فهم أن انتزاع الساحل من حكمه، وإضافة القدس للحاكم الجديد، سيجعله منافساً قوياً لحكم الجزار، وكذلك منح الصدر الأعظم لقب الباشا لمحمد باشا أبو المرق، ليكون نداً ومنافساً حقيقياً للجزار.
من هو محمد باشا أبو المرق؟
آل أبو المرق من الشراكسة، وعملوا في خدمة آل مكي في جباية الضرائب، وتزوج علي آغا أبو المرق إحدى بنات حسين باشا مكي العشر، حيث لم يكن له أبناء ذكور، واسمها هدية خانم، وتولى علي آغا أبو المرق عدة مناصب كمتسلم للقدس وغزة، وكان محمد أبو المرق يساعد والده.
عُزل أحمد باشا الجزار عن حكم دمشق سنة 1795 بعد عودته من الحج، وقام بإعدام السيد علي آغا أبو المرق متسلم غزة، بدون إذن من السلطتن، وقتل أحمد آغا بن علي آغا، لكن محمد أبو المرق هرب وانضم إلى حاشية الصدر الأعظم ضياء باشا.
ولما عُيِّن عبد الله باشا العظم والياً على دمشق سنة 1799 تم تعيين محمد أبو المرق متسلماً على القدس، وظل محمد باشا أبو المرق مرافقاً للصدر الأعظم ضياء باشا في منطقة العريش سنة 1800م، وكافأه الصدر الأعظم بتدعيم مكانته ليكون منافساً للجزار.
راقب الجزار تقدم محمد باشا أبو المرق باستياء، لكنه لم يتمكن من عمل شئ بسبب وجود جيش الدولة في فلسطين، ودخل أبو المرق مع جيش الدولة إلى مصر عندما انسحب الفرنسيون، وأصبح من أقرب المقربين للصدر الأعظم، وتم تعيين أبو المرق والياً على مصر، لكن المماليك وعساكر الترك اعترضوا، ثم تم تعيين أبو المرق متصرفاً على القدس وغزة ويافا للمرة الثانية، ثم عينه والياً على الشام، لكن الجزار حاصر أبو المرق في يافا، ومنعه من الذهاب إلى دمشق، فعينت الدولة العثمانية عبد الله باشا العظم والياً على دمشق وأميراً على قافلة الحج، وطلبت منه تخليص أبو المرق من حصاره، لكنه لم يفعل شيئاً لأنه رأى في أبو المرق منافساً له، وأراد التخلص منه، اتبع أبو المرق سياسة تعسفية في جمع الضرائب، فاستغل الجزار هذا الأمر، وشجع الناس على الشكوى، وبالفعل توجه عدد من وجهاء مدينة القدس بالشكوى ضد أبو المرق وسوء معاملته، فأرسل الجزار قوة إلى القدس لمصادرة أموال أبو المرق، وأبقى عليه محاصراً في يافا.
وفي النهاية هرب أبو المرق من يافا، ووصل حلب، وتم القضاء على حكمه في فلسطين، وأعلن السلطان أن الجزار حاكماً مغضوباً عليه، لكن بروز الخطر الوهابي في الجزيرة العربية جعل الدولة تصفح عنه، وتوسع حكمه في الشام، فعينته والياً على مصر، لكنه لم يمارس أية مهمة عملية في مصر، لكن التعيين عكس قوته، ثم مات الجزار سنة 1804، واستلم الحكم بعده سليمان باشا العادل، وهو أحد قادته.
فلسطين في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي  1804-1831
لقد حافظ خلفاء الجزار في عكا، سليمان باشا 1804-1819، ثم عبد الله باشا 1819-1831 على تفوق عكا مقارنة بدمشق.
وكان السلطان سليم الثالث 1789-1807 قد بدأ عملية إصلاحات عسكرية وإدارية في إستنبول، تابعها السلطان محمود الثاني 1808-1839، لكن تلك الإصلاحات لم تصل إلى المنطقة العربية، وفي مصر اعتلى الحكم محمد علي باشا، الذي نفّذ سياسة التحديث على النمط الأوروبي، وتطلع إلى التوسع، وكان الخطر الوهابي قد برز منذ مطلع القرن 19م فاستعان العثماني بمحمد علي حاكم مصر للقضاء على التمرد الوهابي، وأصبح محمد علي أحد أركان موازين القوى في المنطقة، ويعتبر البعض أن العدوان الفرنسي ثم الحكم المصري لبلاد الشام هي بداية التاريخ الحديث لفلسطين، لكن هذا كلام مبالغ فيه، لأن الحدثين لم يُحدثا تأثيرات بالغة الأثر في تاريخ البلاد.
ويمكن القول أن الثلث الأول من القرن  19 م هو استمرار طبيعي للتحولات السياسية والاجتماعية البطيئة والمهمة في تاريخ فلسطين السياسي والاجتماعي في القرن السابق.
لقد اعتادت الدراسات الخاصة بتاريخ فلسطين والمنطقة العربية أن تركز على وجود ركود في جوانب الحياة المختلفة إلى أن جاءت أوروبا وأيقظت المنطقة، لكن هذا غير صحيح.
حكم سليمان باشا العادل في عكا 1805-1819
بعد وفاة الجزار في عكا أخرج العساكر من السجن إسماعيل باشا وعينوه خليفة للجزار، وكان سليمان باشا العادل قد عاد في تلك الأثناء مع قافلة الحج، فطلبت منه الدولة الانضمام إلى إبراهيم باشا، والذهاب لتخليص عكا من إسماعيل باشا، تجدر الإشارة إلى أن العساكر تسلطوا على خزينة الجزار ونهبوها، ورفض إسماعيل باشا التسليم، لكن بعد وصول أسطول عثماني إلى المنطقة، وافق إسماعيل باشا على تسليم الحكم لسليمان باشا العادل، الذي أصبح بقرار سلطاني والي صيدا وملحقاتها.
أقام سليمان باشا العادل حكمه على العدل والإنصاف، والالتزام بأوامر الدولة عكس سلفه الجزار، وحافظت عكا على مكانتها في عهد سليمان باشا العادل، واستعانت الدولة به في استعادة الاستقرار لدمشق، وعينته والياً عليها، وأصبحت غزة ويافا تحت مسئوليته، وبقية ألوية فلسطين ظلت متأثرة بسياسته، وكانت الدولة تستعين به لإقرار الأمن في جبل نابلس.
لم يجابه سليمان باشا العادل مقاومة من السكان، عكس ظاهر العمر وأحمد باشا الجزار، لأنه لم يبتز الأموال من الناس، ولم يبطش بهم، لهذا نظروا إلى تدخله كعامل استقرار، وحكم ولاة عكا في غزة ويافا وطّد العلاقات بين أفراد النخبة الحاكمة في ألوية فلسطين جميعها.
بسبب زيادة خطر الحركة الوهابية على الدولة العثمانية، وعدم تمكن والي عكا سليمان باشا العادل، وكذلك والي مصر محمد علي من عمل شئ، برز محمد باشا أبو المرق، واقترح على الدولة العثمانية أن يقوم بتجهيز حملة عسكرية على الحجاز من غزة، فوافقت الدولة سنة 1806، واتخذت الدولة كل القرارات التي يمكن أن تساعد ابو المرق لاستعادة أمواله وتطمين السكان، لكنها اكتشفت أن أبو المرق يماطل، ولا يريد الخروج بحملة ضد الوهابيين، وتم تكليف سليمان باشا العادل لإخراج ابو المرق من يافا وغزة، وتمكن محمد آغا أبو نبوت من محاصرة أبو المرق في يافا ثم إخراجه منها هارباً إلى مصر، حيث وجد فيها الحماية من محمد علي باشا، ثم توجه إلى حلب وكانت نهايته فيها سنة 1812.
حريق كنيسة القيامة وثورة الانكشارية في القدس
انشغل ولاة دمشق في مجابهة المشاكل الداخلية، ومجابهة الوهابيين الزاحفين على أطراف الشام، وأهملوا بقية الألوية التابعة لهم في فلسطين، وفي 30-9-1808 شب حريق في الجزء الغربي من كنيسة القيامة، وأقام رؤساء الطوائف المسيحية الخيام في ساحة الكنيسة لحراستها، وشارك العلماء المسلمين في أعمال الحراسة ومنهم مفتي الحنفية حسن أفندي، ونقيب الأشراف عمر أفندي الحسيني.
في العام التالي، أذن السلطان للطائفة الأرثوذكسية بترميم الكنيسة، لكن الآرمن والكاثوليك اعترضوا، وبعد ذلك تغلب الأرثوذكس على هذه المصاعب، وأرادوا الشروع في البناء، لكن الانكشارية اعترضت، ثم حصل الأرثوذكس على فرمان جديد من السلطان، وبدأ العمل فقامت الانكشارية بثورة،  وسيطر رجال الانكشارية على القلعة، وطردوا المتسلم، وطلبوا من رؤساء الطائفة الأرثوذكسية التوسط لدى والي الشام من أجل يقبل مطالبهم.
وتطورت أمر هذه الثورة إلى أن أرسل والي الشام قوة عسكريةفقتلت الثوار عن بكرة أبيهم، ورغم ارتباط ثورة الانكشارية بحريق كنيسة القيامة، وإعادة ترميمها، إلا أن سبب الثورة الحقيقي يرجع إلى قلق الانكشارية على وضعهم ومستقبلهم جراء القرارات الجديدة المتخذة في حقهم.
جبل نابلس في عهد موسى بك طوقان
وصل نفوذ آل طوقان ذروته في عهد موسى بك طوقان 1801-1823، حيث تحالف آل طوقان مع حكام عكا –رغم أنهم رسمياً يتبعون والي دمشق- وأثبت هذا التحالف أهميته خلال حكم سليمان باشا العادل، حيث تعززت مكانة آل طوقان، ونشأ تحالف بين نابلس والقدس ويافا وغزة برعاية سليمان باشا العادل، وساعد موسى بك طوقان والي عكا في عملية إخراج أبو المرق من يافا، فعينه سليمان باشا شيخاً على ناحية بني صعب التي كان يتولى مشيختها آل الجيوسي، فثار آل الجيوسي، وطردوا أسعد بك طوقان،لكن في النهاية تغلب موسى بك طوقان عليهم بمساعدة سليمان باشا العادل، وبعد ذلك دخل موسى بك طوقان في صراع مع الحلف المنافس له (القيسيين مث آل النمر والأحمد وجرار)، وتوصل الطرفان بمساعدة سليمان باشا العادل أواخر سنة 1817 إلى اتفاق مصالحة.
بعد وفاة سليمان باشا العادل، تجدد القتال بين الطرفين، وعُزل موسى بك طوقان، وتم تعيين أحد منافسيه، وهو أحمد جرار، فتحجمت قوة ىل طوقان ونفوذهم، لكنهم تمكنوا من استعادة حكم السنجق  واستعادة ممتلكاتهم، وكسب ثقة حكام دمشق وعكا معاً،  وبعد عدة جولات من العزل والتعيين تمكن موسى بك طوقان من استعادة منصبه متسلماً على نابلس، فقرر خصومه قتله حيلة، ودسوا له السم في القهوة، وبالفعل مات، وشكّل موته ضربة لآل طوقان، لكن الصراع بين الأطراف لم ينته.
حكم محمد أبو نبوت في يافا
محمد آغا أبو نبوت هو أحد مماليك الجزار، ودخل في خدمة سليمان باشا العادل، ونجح –على رأس قوة عسكرية في طرد محمد أبو المرق من يافا، فكافأه سليمان باشا العادل بتعيينه حاكماً على يافا وغزة. إذا كان ظاهر العمر هو باني عكا، فإن محمد أبو نبوت هو باني يافا التي بدأت تزدهر منذ عهده أمنياً واقتصادياً.
واجه أبو نبوت البدو الذين كانوا يهاجمون المدن، وتغلّب على عرب الوحيدات من خلال التحالف مع آل أبو غوش، ودخل جنوب فلسطين عرب الهنادي –وهم من بدو مصر- الذين كانوا يعملون في تأمين قوافل الحج، فلما توقف الحج ضاقت بهم الحال، فعبروا من سيناء إلى غزة، فهاجمهم أبو نبوت لكنه انهزم أمامهم، ولم تمده عكا بالنجدة فتركهم.
توسع انتشار عرب الهنادي إلى مشارف يافا، ونهبوا على طريق السويس قافلة تجارية مصرية، وباعوها في أسواق مدن فلسطين الجنوبية، فأرسل محمد علي إشعاراً إلى عبد الله باشا بذلك، ولما يئس أبو نبوت من صد البدو إلى الصحراء، عمل على تحصين مدينة يافا وإعمارها، وبنى مسجداً عُرف باسمه، وحفر بئر ماء،  وأُوقفت كثير من الأراضي للإنفاق على المسجد، وبنى السبيل المحمودي، وأنشأ مدرسة بجوار الجامع، وعمَّر ورمم أبراج المدينة وأسوارها، ووضع عليها المدافع.
تحالف أبو نبوت مع سليمان باشا ومع آل طوقان وآل الحسيني وآل أبو غوش، وسادت علاقات من الثقة والتعاون بين سليمان باشا العادل، وبين محمد أبو نبوت، لكن هذه الثقة تزعزعت على خلفية طلب أبو نبوت الحصول على لقب باشا، وعدم حصوله عليه.
وقع خلاف بين أبو نبوت وبين القنصل الإنجليزي في يافا (يوسف دميان)، ولما رفع القنصل الإنجليزي الأمر إلى سليمان باشا، والدولة العثمانية، صدر حكم لصالح القنصل، فاغتاظ أبو نبوت.
سنة 1819 عزل سليمان باشا العادل أبو نبوت، فلملم أعزاله وخرج إلى مصر، ثم توجه إلى الأستانة، وتولى مسئوليات في مناطق خارج فلسطين.
فلسطين في عهد عبد الله باشا 1819-1831
بعد وفاة سليمان باشا العادل سنة 1819، كان عبد الله باشا هو الوريث الطبيعي للحكم، لأنه كان كتخدا الوالي،  فانتقلت السلطة إليه بشكل سلس، لكن عبد الله باشا كان أقرب إلى صفات الجزار في علاقته بالحكام المحليين، وغضبت عليه الدولة، وأرادت حصره في عكا، لكن محمد علي توسط له لدى الدولة، فتم تعيينه والياً على صيدا.
شهدت العلاقة بين الحكام المحليين تعاوناً واسعاً، وكانت علاقاتهم حسنة مع عكا ومع دمشق، وتعززت المصالح المشتركة فيما بينهم، وكذلك المصاهرة، ولم تتأثر العائلات الحاكمة في فلسطين سلباً بالإصلاحات التي قام بها السلطان العثماني محمود الثاني في أواسط العشرينيات، لكن هذه النُخب شعرت بالخطر مع بداية الحكم المصري، فتعاونت فيما بينها على إشعال ثورة سنة 1834 التي ساهم فيها، أول مرة، سكان فلسطين من الجليل شمالاً حتى الخليل وغزة جنوباً.
كانت غزة ويافا في عهد عبد الله باشا تابعتان لولاية صيدا، وهذا كان يُسهِّل على حكام عكا التدخل في القدس، لأن يافا كانت نافذة القدس التجارية، والمرفأ الذي يأتي عن طريقه معظم الحجاج المسيحيين إلى القدس.
بقي الجليل هادئاً ومستقراً، وحافظت عكا على مكانتها السياسية، لكن بيروت تفوقت عليها اقتصادياً، وبعد ذلك أصبحت بيروت هي عاصمة الولاية وليس صيدا.
ثورة القدس من 1825-1826
فرض والي دمشق مصطفى باشا ضرائب فوجد متسلمه في القدس صعوبة في جمعها، وقام آل أبو غوش ومشايخ بيت لحم بطرد رجال المتسلم الذين وصلوا إلى نواحي السنجق، فقرر مصطفى باشا والي الشام أن يقود بنفسه دورة جباية الضرائب في جنين ونابلس والقدس، ونجح بعد جمع الضرائب في إلقاء القبض على أحد زعماء آل أبو غوش، فاضطر أهله إلى دفع غرامة أو فدية في سبيل إطلاق سراحه، ففرّ بعض السكان، بسبب البطش، أما سكان بيت لحم وقراها وعربان التعامرة فقد تحصنوا في الأديرة وواجهوا رجال الدولة بالأسلحة، ولما اقترب موسم الحج وافق مصطفى باشا عقب وساطة رؤساء الطوائف المسيحية على إعطاء الفلاحين فرصة للتوبة، ورجع هو إلى دمشق، وعندما ابتعد مصطفى باشا عن المدينة ثار الناس، وسيطر الأهالي على بيت المقدس، وتصرف زعماء الثورة كحكام حقيقيين، وأعفوا الفلاحين من ضرائب الميري في تلك السنة، وتم خفض الضرائب المفروضة على الأديرة المسيحية.
هذا التعاضد الإسلامي المسيحي أثبت مرة أخرى وجود شعور وطني متنامي بين السكان المحليين خلال العهد العثماني، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعاضد والتضامن بين الفلسطينيين في القرى والمدن –مسلمين ومسيحيين- تكرر في أكثر من ثورة، بدءاً بثورة نقيب الأشراف سنة 1703-1705.
وعلى الرغم من نجاح الثورة عسكرياً فقد خشي أعيان المدينة من انتقام والي الشام، فراسلوا السلطان محمود الثاني، وشرحوا له أسباب الثورة، فأرسل لهم فرماناً يدعوهم إلى إنهاء الفتنة، والرجوع عن العصيان، كثُرت الشكاوى بحق مصطفى باشا فعزله السلطان، وعيَّن ولي الدين باشا في أيلول 1825 خلفاً له.
اقترب موسم الحج، واتفق الوالي ورجاله مع أعيان القدس على دفع الضريبة، لكن اهالي القدس لم ينفذوا الالتزام، لم ينجح والي دمشق ولي الدين باشا في تأمين قافلة الحج، وطلب السلطان من عبد الله باشا والي صيدا إنهاء العصيان في القدس، فوافق، ووصل جنده القدس، لكن الثوار رفضوا التسليم، وبعد قصف القلعة ومنازل الأعيان، طالب الثوار التفاوض مع الجيش العكاوي، وانتهت الثورة بشرط أن يدفع الناس الضرائب دون غرامات، وأن يتسلم الجيش العكاوي المدينة مع وعد بعدم الانتقام، والابتعاد عن التدخل في السياسة المحلية.
فلسطين عشية حملة محمد علي باشا
كافأت الدولة العثمانية عبد الله باشا، وضمت له ولاية طرابلس سنة 1827، ثم أصبحت كل أقاليم فلسطين تحت ولايته، وهكذا اكتملت الحلقة التي بدأت أيام ظاهر العمر، إذا أصبحت فلسطين تحت حكم ولاة صيدا.
في هذه الأثناء تصاعدت طموحات محمد علي، وطلب من السلطان أن يضم له بلاد الشام، ولما لم يوافق السلطان أخذ يفكر في الهجوم العسكري، وتمهيداً للخطوة العسكرية قام محمد علي بنسج العلاقات السياسية والاقتصادية مع الحكام والأعيان والتجار في فلسطين والشام. وقدم المساعدات لترميم مقام النبي داوود سنة 1826، بناء على طلب عائلة قطينة المشهورة بتجارة الصابون في القدس.
وعشية الحملة المصرية على فلسطين كانت الدولة العثمانية تريد ألف مجند من الشام من الشام، وإرسالهم إلى إستنبول، فرفض الناس في القدس دفع حصة المدينة 40 مجنداً، فطلب العثمانيون منهم دفع ضريبة بدل التجنيد، لكن الوالي لم ينجح في جمع الضريبة من الناس.
وفي سنة 1830 قامت ثورة في منطقة المرتفعات الوسطى ضد عبد الله باشا بعد أن تم ضم ألوية جبال فلسطين الوسطى إلى حكمه سنة 1830، فقرر حاكم عكا مصالحة الثوار، وعيّن عبد الله جرار متسلماً على نابلس في محاولة منه لمصالحة الأهالي استعداداً لمحاربة الجيوش المصرية التي تواردت الأنباء عن بداية زحفها.
الحملة المصرية وموقف الأهالي منها
بدأ اهتمام محمد علي بحكم بلاد الشام بعد نجاح حملته ضد الوهابيين سنة 1813، وطلب من الدولة العثماني عدة مرات منحه حكم الشام، ثم ترك الفكرة لما لاحظ عدم تجاوب العثمانيين مع الطلب،  وبعد مشاركته في الحرب ضد ثوار اليونان سنة 1827، تجددت طلبات محمد علي بضم الشام، لكن دون جدوى، فقرر محمد علي القيام بحملة عسكرية.
تواترت الأخبار عن تحضيرات محمد علي لغزو الشام منذ 1830، وعيّن السلطان عبد الله باشا والياً على كل فلسطين استعداداً للمواجهة. وكان محمد علي يطمع لتحقيق مصالح اقتصادية وتحسين وضعيته الاستراتيجية.
توقيت غزو محمد علي للشام:
1- كانت أوروبا مشغولة بالثورات.             
2- لم تنته الدولة العثمانية من إعداد جيشها الجديد على أنقاض الانكشارية.
3- أضعفت ثورة اليونان والحرب مع روسيا واحتلال فرنسا للجزائر الدولة العثمانية.
4- كان ولاة دمشق يعانون من عدم استقرار حكمهم.
5- كان أمير جبل لبنان بشير الشهابي، وعائلات نابلس والقدس تربطهم علاقات جيدة مع محمد علي.
ولهذا فإن عبد الله باشا كان هو العقبة الوحيدة أمام محمد علي فركّز كل الجهود ضده، وفي ربيع سنة 1830م هرب عدد كبير من الفلاحين المصريين إلى جنوب فلسطين، واستغل محمد علي الأمر وطلب من عبد الله باشا إعادتهم، فرد عبد الله باشا أن هذه أراضي دولة السلطان، ومن حق الفلاحين دخولها.
وفي أكتوبر 1831 بدأت الحملة المصرية بقيادة إبراهيم باشا، وأجرى عبد الله باشا (والي عكا) تغييرات في الحكام الذين ارتبطوا بعلاقات جيدة مع محمد علي استعداداً لخوض المعركة.
تقدمت الجيوش المصرية حتى وصلت عكا وحاصرتها بتاريخ 26-11-1831، واستمر الحصار ستة أشهر كاملة. كانت بعض العائلات ميالة إلى جانب محمد علي، ومنها آل السعيد وآل طوقان، حيث سافر أسعد بك طوقان إلى العريش، وقابل إبراهيم باشا، وقدم آل عبد الهادي، وقاسم الأحمد الطاعة إلى الجيش المصري.
جعلت مواقف هذه العائلات المقاومة ضد إبراهيم باشا ضعيفة، أما بخصوص علائلات القدس فقد رفضت التعاون مع القوات المصرية، ودخلت فرقة عسكرية مصرية القدس في ديسمبر 1831، بلباسها الأوروبي الحديث، وأعلن المصريون إلغاء الضرائب المفروضة على المسيحيين واليهود إرضاء للقناصل الأوروبيين، الأمر الذي استفز العلماء وأعيان المسلمين، خاصة أن بعض أعيان القدس (آل أبو غوش) كانوا يكسبون دخلهم من عوائد تلك الضرائب.
حدث تململ في القدس ونابلس فتخوف إبراهيم باشا، الذي كان يحاصر عكا من عاقبة الأمور، وعمل حسين عبد الهادي –الذي كان موالياً للمصريين- على تهدئة الأمور في نابلس، لكن وقفت العائلات بقيادة آل الحسيني وآل الخالدي في القدس إلى جانب السلطان، ولما طال أمد حصار عكا زاد تململ الناس، وحدثت بعض التمردات في نابلس، وكذلك العربان المجاورين لغزة، وسقطت عكا في يد المصريين في 26-5-1832.

فترة الحكم المصري 1832-1840
أولاً: تثبيت دعائم الحكم المصري:
استمرت المواجهات بيننهم  الجيش المصري والجيش العثماني من سنة 1831 وحتى سنة 1833، حيث تم توقيع اتفاقية كوتاهية. حاول إبراهيم باشا معاملة الناس بالحسنى لكسب ودهم، كما حاول تطمينهم بأن أوضاعهم ستتحسن في ظل الواقع الجديد، ولهذا شدد إبراهيم باشا أوامره لمنع السلب والنهب عندما دخل عكا، لكن هذا لم يحل دون وقوع بعض أعمال السلب والنهب، كما أن طول فترة الحصار وقصف المدينة أديا إلى إشاعة الخراب والدمار فيها عندما دخلها الجيش المصري.
لقد نجحت الإدارة المصرية خلال السنة الأولى من وجودها في فلسطين في تأمين الناس وتطمينهم بأن الحكم الجديد لن يجري تغييرات جذرية تءثر في شئون حياتهم اليومية، وكانت فئة المشايخ والزعامات المحلية، ولا سيما في لواء القدس، هي الوحيدة إلغاء الضرائب المفروضة على الكنائس والأديرة، وأما أهل الذمة من اليهود والمسيحيين فكانوا أكثر الناس استفادة من تلك السياسة الجديدة، ولذا فإنهم لم يُخفوا فرحتهم وتأييدهم للمصريين.
اتفاقية كوتاهية 1833:
نصت الاتفاقية على:
1- أن تدخل مناطق كريت وعربستان (بلاد الشام) ومنطقة أضنة تحت حكم محمد علي.
2- تجديد ولاية إبراهيم باشا على إيالة جدة ومنصب شيخ الحرم المكي.
3- تعيين إبراهيم باشا محصلاً للضرائب في إقليم أضنة.
4- تعهد محمد علي أن يدفع الضرائب التي كان يدفعها الولاة السابقون عن بلاد الشام.
5- تعهد محمد علي أن يسحب جنوده من الأناضول إلى المناطق التي وُضعت تحت حكمه.
وهكذا أصبحت بلاد الشام بما فيها فلسطين تحت حكم مصري-عثماني مشترك بموجب اتفاقية كوتاهية، فسيادة السلطان تم الاعتراف بها من خلال دفع محمد علي الضرائب للسلطان. واحتفظ السلطان لمفسه بالحق في إصدار الفرمانات المصيرية المتعلقة بالتجارة الخارجية والعلاقات بالدول العظمى، وسلك القضاء الشرعي ظل تحت سيطرة الدولة العثمانية، فشيخ الإسلام استمر في تعيين المفتين للمدن المتعددة، وقاضي عسكر الأناضول استمر في تعيين القضاة الشرعيين خلال الثلاثينات. أما الإدارة والحكم الفعليان فانتقلا للإدارة المصرية وعلى رأسها إبراهيم باشا.
لقد أبقى إبراهيم باشا معظم مشايخ نواحي جبال نابلس والقدس الذين تعاونوا معه أو طلبوا الأمان منه في مناصبهم، وبهذا ثبّت دعائم الإدارة المصرية.
الإدارة المصرية وسياستها الجديدة
أصبح متسلم عكا (حسين عبد الهادي) مسئولاً عن جميع أنحاء البلد من صفد شمالاً حتى رفح جنوباً، وقد كان لتعاون آل عبد الهادي مع الحكم المصري، وصدق خدمتهم للإدارة الجديدة، دور مهم في ارتفاع شأن هذه العائلة ونفوذها في الثلاينات، وأصبح زعمال جبل نابلس –بصفة عامة- أصحاب اليد العليا في الإدارة المحلية في فلسطين، وامتد نفوذهم من عكا شمالاً حتى يافا وغزة جنوباً.
أسس الحكم المصري مجالس الشورى في المدن، وكانت بمثابة محاولة لإشراك فئة الأعيان والعلماء في شئون الإدارة والحكم، لكن هذه المجالس كانت ذات صلاحيات محدودة، لأن الإدارة المصرية كانت شديدة المركزية، وكان المصريون يشغلون المناصب العليا، وحكومة محمد علي ظلت المرجع الرئيسي لجميع القرارات المهمة كما تشير إلى ذلك المراسلات المستمرة بين الطرفين.
عانت الإدارة المصرية في بلاد الشام من عجز مستمر في ميزانيتها، ولم تتمكن من دفع المبالغ الطلوبة للسلطان، وتأخرت في دفع رواتب العسكر والموظفين، وكان المصريون قد تساهلوا مع السكان في الأعوام الأولى، لكن هذه المعاملة تغيرت، وفرضوا ضرائب إضافية، خاصة ضريبة (الفرضة) التي فُرضت على الذكور من مختلف المذاهب، وكانت قينتها من 10%-12% من دخل المكلفين، وقد ازدادت الشكوى من هذه الضريبة كونها تجمع المسلمين والذميين بالتساوي.
وتشددت الإدارة المصرية في طلبها للضرائب المفروضة، ومع ازدياد الضرائب والتشدد في جمعها اندفع السكان للانضمام للثورة ضد الحكم المصري في أنحاء متعددة من بلاد الشام كان أولها ثورة ربيع سنة 1834 في فلسطين.
واستاء الأهالي أيضاً من التجنيد الإجباري، حيث كان الناس معتادين على القتال في نفس البيئة دفاعاً عن أنفسهم، أو هجوماً على آخرين ولتحقيق أهداف واضحة ومعلومة، ولمدة زمنية محددة، لكن التجنيد الإجباري عند محمد علي كان مختلفاً، فمدته غير معلومة، وأهدافه غير محددة، وليست من النوع الذي يمكن أن يتعاطف معه الناس، وكان مطلوباً من الفلسطينيين تجنيد 6 آلاف رجل لللقتال في جيوش محمد علي، وكان ذلك سبباً مباشراً لإعلان العصيان والثورة في أوائل مايو سنة 1834.
بداية الثورة في فلسطين
جمع إبراهيم باشا أعيان القدس ونابلس وتلا عليهم أوامر والده الخاصة بالتجنيد الإجباري، وحاول أن يقنعهم بالتعاون، ولم يستطع الأعيان الرفض، لكنهم قالوا أنهم سيبذلون الجهد، لكن إن لم يقتنع الناس فهم غير مسئولين أمام الوالي عن رفض الناس مسألة التجنيد الإجباري.
وكان رأي المشايخ الذين حضروا لقاء القدس مجتمعاً على مقاومة التجنيد الإجباري لأنها ستكون بداية النهاية لنفوذهم ودورهم في نواحيهم، ولما علم إبراهيم باشا بالأمر أصدر أوامر مشددة إلى المشايخ والأعيان مهدداً إياهم بعقوبات شديدة إذا لم يتم تنفيذ التجنيد الإجباري، لكن مشايخ جبل نابلس أعلنوا العصيان، وإزاء هذه المسألة فقد رأى إبراهيم باشا ضرورة جمع السلاح من الأهالي قبل فرض التجنيد الإجباري، لكن والده أصر على بدء التجنيد أولاً.
استمر إعلان العصيان من الجميع في جبل نابلس باستثناء حسين عبد الهادي ورجاله الذين ظلوا إلى جانب الحكومة المصرية، وفي القدس انضم جميع المشايخ إلى الثورة بما فيهم آل أبو غوش الذين يتحكمون في الطريق من الساحل إلى جبال القدس.
لقد شدد الثوار الخناق على القدس، وفرضوا الحصار على المئات من عساكر الحامية المصرية، وتمكن الثوار من صد فرقة فرسان مصرية تحركت من يافا نحو الرملة حتى وصلت مضيق باب الواد المُسمّى (واد علي)، بعد مناوشات ومعارك حامية الوطيس.
وتمكن الثوار من صد هجوم آخر لجيش أرسله إبراهيم باشا من الجهة الشمالية لمدينة القدس، وبعد كسب هذه المعركة، دبت الحماسة في قلوب الأهالي، فاتسعت الثورة، وشارك فيها الفلاحون وأهالي المدن، وفي تلك الأثناء كان إبراهيم باشا في يافا يجمع الإمدادات العسكرية، واستعد للزحف على القدس لنجدة الحامية المصرية فيها، ووصل إبراهيم باشا بنفسه إلى القدس، وعندما اقتربت الجيوش المصرية من المدينة، اعتصم الأهالي بالجبال، ودارت المعارك بين الطرفين، وأحرز الثوار بعض الانتصارات، فارتفعت معنوياتهم، ودخل إبراهيم باشا القدس، لكن الثوار فرضوا الحصار على المدينة، وساءت أحوال الجيش المصري.
انتشار الثورة واشتدادها
وصلت الثورة إلى ذروتها في أواسط يونيو 1834، وامتدت نارها إلى معظم نواحي فلسطين بسبب الضرائب الزائدة، وأعمال السخرة، والتجنيد الإجباري، وحاول الثوار كسب بشير الشهابي إلى جانب الثورة، إلا أنه رفض، وهددهم بضرورة وقف الثورة، وإلا فإنهم سيتعرضون لأشد الانتقام.
انحسر وجود الجيش المصري في الجليل، فلم يعُد موجوداً إلا في عكا وحيفا، أما الثوار فقد سيطروا على طريق غزة، فتوقف سير البريد بين مصر وفلسطين، وانقطعت كذلك الطريق بين القدس ويافا، وكان إبراهيم باشا متواجداً في القدس، لكن الثوار كانوا يحيطون بالمدينة، وانقطعت أخبار إبراهيم باشا في القدس حتى عن رجاله في يافا وعكا، وازدادت مطالبات الجند من محمد علي أن يُرسل إمدادات إلى فلسطين، وازدادت الأحوال سوءاً في يافا بعد أن انضم أعراب غزة إلى الثورة، فقرر محمد علي جلب أعراب مصر لمحاربة البدو في غزة، ومن أبرز الذين أرسلهم: عشائر أولاد علي، وعشائر الجميعات، وبدو سيناء، وكانت خطة الحكومة المصرية تتمثل في استمالة الأهالي واستخدامهم في خوض المعارك بدلاً من أن يقوم الجيش المصري النظامي، غير المدرب، بمثل هذه المهمات، وكذلك تمكنت الجكومة المصرية من استمالة آل أبو غوش قبل البدء بقمع الثورة.
نزل ثوار جبل نابلس إلى الساحل، وأصبحت يافا مهددة بالسقوط في أيدي الثوار، ولم يبق في أيدي الحكومة المصرية سوى المدن الساحلية التي كانت مهددة ومحاصرة من قبل الثوار، أما إبراهيم باشا فقد بقي محاصراً في القدس في انتظار التعزيزات.
وصول محمد علي باشا وقمع الثورة
وصل محمد علي باشا في 29-61834 إلى يافا، ومعه جيش تعداده 15 ألف جندي، فخشي الثوار من هذا الجيش، وحاولوا التوصل لاتفاق مع إبراهيم باشا، لكن الإدارة المصرية لم تكن جادة في المفاوضات التي جرت بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق، وإنما هدفها كسب الوقت، واستمالة بعض زعماء الثوار إلى جانبها لإضعاف صفوفهم.
اجتمع محمد علي باشا مع ابنه إبراهيم باشا في يافا للتشاور بشأن خطة إخماد الثورة، وحاول علماء القدس وأعيانها التوسط، لكن محمد علي قرر قمع الثورة، والخطوة الأولى كانت إلقاء القبض على أعيان القدس الذين جاءوا للتوسط، وأُرسلو إلى عكا، ومنها تم نفيهم إلى مصر.
اتفق محمد علي بشير الشهابي أن يقمع الثورة في صفد، ولما تحرك جيشه توجه له مشايخ صفد، وقدّموا له الطاعة، فقبل منهم ذلك، وجاء أهل طبرية إلى بشير الشهابي، وقبلها سيطرت الجيوش على الناصرة والشاغور، وخلال أسبوعين تمكن بشير الشهابي من السيطرة على الجليل.
وفي نابلس واجه الجيش المصري مقاومة عند قرية زيتا، ثم عند قرية الدير، وقد عاقب إبراهيم باشا أهالي زيتا والقرى المجاورة لها، وقام بهدمها حتى يدب الرعب والخوف في بقية القرى التي تؤازر الثورة، ثم توجهت الجيوش لقتال آل جرار، وحدثت معارك، ثم بدأ مشايخ بعض النواحي في الاستسلام، وبعد أن تأكد محمد علي من نجاح جهود قمع الثورة عاد إلى الإسكندرية، ووصلها بتاريخ 29-7-1834، وكان محمد علي قد تمكن من استمالة آل أبو غوش، الذين كان لارتدادهم عن الثورة أثر مهم في إنهائها.
وتوجه إبراهيم باشا بعد ذلك إلى الخليل، حيث كان يختبئ قاسم الأحمد، وبُذلت جهود للتصالح بشرط تسليم قاسم الأحمد نفسه، لكن الأمر لم يتم، فدارت المعارك في الجبل، ثم في داخل مدينة الخليل، حيث قصفها إبراهيم باشا بالمدافع، ولحق بالمدينة دمار كبير، وخسر الأهالي أعداد رهيبة من القتلى، وقبض الجيش على 120 ولداً بين 8-12 عاماً، وأدخلهم في سلك الجندية، ولم يبق في المدينة إلا المسنون وأصحاب العاهات.
هرب الثوار إلى الكرك، ودارت معارك طاحنة بينهم وبين الجيش المصري، ثم تراجع الثوار إلى السلط، وكنتيجة للمعارك والدمار درب الرعب في قلوب العربان والفلاحين، فقام أحد مشايخ العربان والفلاحين بالقبض على قاسم الأحمد ومجموعة من الثوار، وسلّمهم إلى إبراهيم باشا الذي أعدمهم في دمشق وفي عكا، وهكذا انتهت الثورة في فلسطين.
بعد الثورة
خسر مشايخ جبل نابلس مكانتهم السياسية، وفرض إبراهيم باشا غرامات باهظة على الناس لتمويل الجيش، وقام بجمع الأسلحة من الفلاحين، وساق الآلاف من الأولاد والشباب إلى الجندية وأرسلهم إلى مصر وغيرها من الجهات، ووضع مئات البدو المسلحين في أنحاء غزة لردع عربانها ومنعهم من الخروج على الدولة، خاصة أن ملاحقة العربان كانت أصعب من مواجهة الثوار في الجبال.
وكانت عملية جمع الأسلحة أسهل من التجنيد الإجباري حيث كان يهرب أبناء الفلاحين في الجبال، فاحتال إبراهيم باشا عليهم، وجمع حوال 13 ألفاً بحجة حفر ترعة في منطقة يافا، ثم حاصر الشباب، وأخذ 10 آلاف يصلحون للجيش، وبالرغم من معاناة الناس، وأعداد القتلى، وأعداد المجندين، إلا أن إبراهيم باشا ألزم الناس بأعمال السخرة.
خسر مشايخ النواحي الذين شاركو في الثورة مكانتهم السياسية، أما الذين تعاونوا مع الحكومة المصرية، مثل آل عبد الهادي، وآل أبو غوش فقد احنفظوا بمكانتهم.
ازدياد النفوذ الأجنبي
كان محمد علي قد أبلغ الدول الأجنبية نيته احتلال الشام، ووعدهم بأن يعامل الأقليات بشكل جيد، وكانت الدول الأوروبية تتنافس من أجل بسط حمايتها على الطوائف المسيحية في الوطن العربي، كما كثّفت الجمعية التبشيرية نشاطها في الأراضي المقدسة، وبعد انتهاء الثورة ازداد دور القناصل بحجة مساعدة الطوائف.
افتتح الانجليز أول قنصلية أوروبية في القدس سنة 1838، ثم افتتحت بروسيا قنصليتها سنة 1841، والقنصلية الفرنسية تم افتتاحها سنة 1843، وبعدها أمريكا سنة 1844، ثم تلتها النمسا سنة 1849، وأخيراً روسيا سنة 1858.
وتوسع النشاط التبشيري، خاصة البروتستانتي، وفي تلك الفترة زار المليونير اليهودي موسى مونتفيوري فلسطين سنة 1839 في محاولة منه لتحسين أوضاع اليهود، وأصبح اليهود يتجمعون في القدس.
أبداية لتاريخ فلسطين الحديث؟
يعتبر بعض المؤرخين أن الحكم المصري لفلسطين والشام في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر هو بداية التوجه القومي وبناء دولة عربية موحدة في الشام، وبداية الحداثة ايضاً.
لكن هاتين المقولتين عاريتان عن الصحة، وذلك للأسباب التالية:
1- النخبة الحاكمة في مصر وبلاد الشام كانت من أصول تركية عثمانية متعالية في تعاملها مع العرب، وعندما فرضت حكماً مركزياً في الشام كان هدفها إحكام السيطرة على الإقليم لتحقيق أهدافها، وليس من أجل التعبير عن الهوية السياسية والثقافية لبلاد الشام.
2- السلطة المركزية في بلاد الشام لم تؤد إلى تغييرات جذرية في البنية الاجتماعية والاقتصادية، وحتى التغييرات الإدارية، مثل إقامة مجالس الشورى، والتعديل في النظام القضائي، لم تتعدَ كونها إصلاحات هامشية لم تؤثر على العلاقة القائمة بين الأهالي والدولة.
3- كان عصر محمد علي مرحلة لزيادة النفوذ الأجنبي في فلسطين.
4- قمع الحكم المصري الثورات بشكل دموي، وذلك على العكس من الدولة العثمانية التي حرصت على عدم إراقة كثير من الدماء، من أجل عدم هدم الجسور مع السكان وقياداتهم.
5- إن الإصلاحات الفوقية التي فرضتها الإدارة المصرية بنجاح نسبي لا تتعدى كونها تغييراً كمياً لا نوعياً، وكان يستهدف فرض سياسة الإدارة المصرية على الشعب.
تحولات جذرية في فترة التنظيمات العثمانية 1839-1878
التنظيمات العثمانية وأهميتها في تاريخ فلسطين:
اُطلق اسم التنظيمات على جملة الإصلاحات الجديدة التي أُعلنت في عهد السلطانين عبد المجيد وأخيه عبد العزيز لتمييزها عن الإصلاحات التي تم تنفيذها في أواخر القرن الثامن عشر حتى وفاة السلطان محمود الثاني سنة 1839.
المحطات الرئيسية في إعلان التنظيمات
1- إعلان السلطان عبد المجيد في 3-11-1839 في قصر الزهور (غولخانة) برنامجاً للإصلاحات اُطلق عليه (خط شريف غولخانة)، الخاص بالتنظيمات الخيرية، وصار هذا هو الإسم الشائع لمجملا سياسة التحديث والتمغرب في أواخر العهد العثماني.
2- إعلان السلطان عبد المجيد في 18-2-1856 خط شريف همايون، وقد ارتبط إصدار تلك الأوامر السلطانية بأزمات وحروب، وجاءت لإرضاء الدول الأوروبية التي ساندت السلطان في حربه ضد محمد علي باشا سنة 1839، وفي حرب القرم ضد روسيا التي انتهت باتفاقية باريس سنة 1856.
3- إعلان الدستور سنة 1876 في عهد السلطان عبد الحميد، وكان المسئول الرئيس عن إعلان الدستور هو مدحت باشا، وتم انتخاب أول برلمان عثماني (مجلس المبعوثان)، لكن السلطان عبد الحميد ألغى الدستور سنة 1878، وبقيت الحياة البرلمانية معطلة حتى سنة 1908.
تأثرت فلسطين بالتنظيمات العثمانية، وكذلك تأثرت باندماج المنطقة اقتصادياً في السوق الرأسمالية، وبازدياد النفوذ السياسي الأوروبي والنشاط التبشيري في الأراضي المقدسة، وتفاعلت النُخب المحلية مع السياسات العثمانية، والأوضاع المتغيرة، فشكلت بذلك العامل الثالث المؤثر في بلورة الصيغة النهائية للتحولات الاجتماعية وللدور المحدد الذي أدته تلك النُخب في وضع صيغة جديدة في العلاقة بين الدولة والسكان.
تنقسم فترة التنظيمات في فلسطين إلى مرحلتين متميزتين:
المرحلة الأولى 1840-1856
وشملت جهود إعادة سيطرة الدولة العثمانية على البلاد بعد خروج جيش محمد علي، وتطبيق أحكام خط شريف غولخانة، لكن هذه الجهود اصطدمت بمعارضة مشايخ النواحي والزعامات المحلية لأنها تهمش دورهم وتقضي على نفوذهم.
ولهذا كان الصراع على مراكز القوة، وإعادة توزيع السلطة بين القوى الفاعلة هما أبرز مميزات أحداث هذه الفترة.
المرحلة الثانية 1856-1878
شهدت تحولات جذرية على صعيد العلاقة بين الدولة والنُخب المحلية، وعلى مستوى الأوضاع اقتصادية والاجتماعية والثقافية لفئات واسعة من المجتمع المحلي، ونجحت الدولة العثمانية في هذه المرحلة في إقامة سلطة مركزية، وبناء مؤسسات حديثة ترجمت السياسة المعلنة إلى واقع حياتي، ولا سيما في المدن.
وأدى الاندماج المتزايد لاقتصاد البلاد في السوق التجارية الدولية إلى تغيير في الزراعة والتجارة والاستثمارات، وكان لهذه التحولات السياسية والاقتصادية البنيوية أثراً في بنية الهرم الاجتماعي، وفي بلورة ثقافة جديدة، إضافة إلى الثقافة الإسلامية والثقافة التقليدية السائدتين بين معظم فئات المجتمع.
وانتقل مركز الثقل الاقتصادي والسياسي من الريف إلى المدينة.
وازدادت الفجوات ما بين أقلية من الأثرياء وأكثرية من الفقراء.
في هذه الأثناء، استفادت بعض شرائح الطبقة الوسطى من خصخصة الأرض، بينما تضرر الفلاحون نتيجة تنازلهم عن تسجيل الأراضي بأسمائهم.
لقد فتحت سياسة الإصلاحات العثمانية أبواب المنطقة أمام التغلغل الأجنبي الشامل، وأصبح الأوروبي صديقاً يمكن الاستفادة من التعامل معه، وبعد سن قانون تسجيل الأراضي سنة 1858، وقانون السماح ببيع الأراضي للأجانب سنة 1867 أصبحت الأرض سلعة تُباع وتُشترى لمن يدفع السعر الأعلى، وفُتحت الأبواب أمام الدول الأوروبية لزيادة نفوذها ووجودها في الأراضي المقدسة بصورة سلمية، ودون اللجوء إلى السلاح والحملات العسكرية.
عودة الحكم العثماني وبداية التنظيمات
حاول العثمانيون استعادة بلاد الشام، لكنهم انهزموا في معركة نصيبين بتاريخ 24-6-1839، ومات السلطان، واستسلم الأسطول العثماني، ووقع تحت سيطرة محمد علي، فتدخلت الدول الأوروبية (إنجلترا والنمسا وروسيا)، وهُزم محمد علي، وعاد الحكم العثماني إلى بلاد الشام.
وبعد إعلان السلطان عبد المجيد خط شريف غولخانة سنة 1839، سعت الدولة العثمانية لإقامة حكم مركزي في بلاد الشام، لكن نجاحها في فلسطين ظل محدوداً حتى سنة 1856.
بنود خط شريف غولخانة:
·        اصلاح الادارة والقضاء .
·        إلغاء نظام الإلتزام.
·        توزيع الضرائب بمقتضى أحكام الشرع
·        القضاء على الرشوة التي كانت ساءدة بسبب قلة الرواتب.
لقد أولى العثمانيون القدس اهتماماً خاصاً , وأصبحت علاقتها باستنبول مباشرة ,ولمع نجمها وأصبحت أهم مركز ٍاداريٍ في فلسطين .
وفي ظل تراجع مكانة عكا التجارية لصالح بيروت , أصبحت القدس في فلسطين هي الأبرز , وعائلات القدس تصدرت المشهد السياسي والإقتصادي في فلسطين منذ فترة التنظيمات العثمانية .
برزت حيفا ويافا , وتراجعت مدن الداخل الفلسطيني .
تحولات اجتماعية في أنحاء فلسطين
شمال فلسطين :
الجبال هي حاضنة المدن الرئيسية, وتزرع الحبوب والخضروات والفواكه للسوق المحلي , والقطن والزيتون لأغراض الصناعة المحلية ,وكذلك التصدير .
عكا عاصمة الزيادنة ومركز التجارة .
طبرية عاصمة الزيادنة الأولى  شهدت عمراناً كبيراً .
وصفد شهدت ازدهاراً مشابهاً بهاً.
لكن صفد وطبرية تراجعتا في عهد أحمد باشا الجزار وخلفائه.
عام 1837 حدث زلزال ألحق بصفد وطبرية أضراراً كبيرة .
ورغم ذلك هاجرت إلى صفد وطبرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عدداً كبيراً من العائلات اليهودية, وقد خطبت هذه العائلات لحماية الدول الأوروبية .
وقامت الدولة العثمانية بتوطين المهاجرين المسلمين الجزائرين والشركس والتتار وغيرهم.
وساهم ما سبق في منع تدهور الأوضاع السكانية لطبرية وصفد، لكن هاتين المدينتين لم تتطورا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحتفظتا بمكانتهما في آخر قائمة المدن المهمة في فلسطين حتى نهاية العهد العثماني، ولم يجد العثمانيون أية مشكلة في فرض سيطرتهم على الجليل بعد انسحاب القوات المصرية؛ لأن الزيادنة قضوا على الزعامات المحلية، وأحمد باشا الجزار وخلفاءه لم يسمحوا بتكوين زعامات محلية جديدة، وحاول عبد الله باشا ومن بعده الحكم المصري الاستعانة ببعض العائلات مثل آل الماضي، لكن هذه العائلة تعرّضت لمصاعب فترة الحكم المصري، وتم إعدام بعض زعاماتها، ومع عودة الحكم العثماني تسلم بعض أبنائها وظائف إدارية، وهاجروا إلى مدينة يافا.
وكان لزوال دور الزعامات المحلية في الجليل في أوائل القرن التاسع عشر، وانتقال مركز الإدارة من عكا إلى بيروت في عهد التنظيمات العثمانية أهمية كبرى، حيث ترك ضعف النخبة المحلية فراغاً ملأته بعض العائلات اللبنانية، حيث هاجرت إلى حيفا وطبرية والناصرة وغيرها العديد من عائلات التجار والمثقفين، واشتروا مساحات واسعة من الأراضي خاصة في مرج ابن عامر وساحل حيفا، والحولة، ثم بيع قسم من تلك الأراضي للشركات الصهيونية، واشتهر من تلك العائلة سُرسق، والتيان، وتويني، حدث هذا بسبب ضعف النخبة المحلية في الجليل، وتبعية تلك المنطقة لولاية بيروت.
جبال فلسطين الوسطى
كانت الزعامات المحلية قوية في جبال فلسطين الوسطى، والأبرز منطقة نابلس، وبرزت عائلات طوقان والنمر وجرار والأحمد وعبد الهادي. أما في لواء القدس فقد برز دور العلماء والأعيان وعائلات السمحان وأبو غوش في المناطق الجبلية، أما وظيفة المتسلم والقاضي فكانت حكراً على موظفي الدولة العثمانية من خارج المنطقة، هذه العائلات تزعمت الثورة ضد الحكم المصري عام 1834، وبعضها دفع ثمناً غالياً.
سعت هذه العائلات لاستعادة مكانتها مع عودة الدولة العثمانية، وكان آل عبد الهادي حلفاء للحكم المصري، وآل طوقان تضرروا فترة الحكم المصري، وفي بداية العهد العثماني، حدث صراع بين الطرفين على الزعامة، وفقدت المئات من الأهالي أرواحهم، وتضرروا من أعمال الهدم, ودفع الأموال لاستمرار القتال.
لم تكن الدولة العثمانية قادرة على فرض سيطرتها المباشرة على هذه المنطقة في المرحلة الأولى من التنظيمات والممتدة حتى أواسط الخمسينات، وفي جبل الخليل، ورغم أن جميع العائلات والقبائل قيسية، فقد حدث اقتتال بينها على المناصب، وبرز من بين هذه العائلات آل عمرو الذين واجهوا صعوبات فترة الحكم المصري، لكن الدولة العثمانية عينت عبد الرحمن عمرو محصلاً للضرائب، وبسبب ظلمه حصلت مواجهات بين عبد الرحمن عمرو، وبين عرب الترابين، فغادر عبد الرحمن عمرو الخليل.
زحف محمد باشا قبرصلي (حاكم القدس) في 15-5-1846 إلى الخليل لكي يعيد عبد الرحمن عمرو إلى منصبه في الخليل، وتمكن قبرصلي من فرض سيطرة الدولة العثمانية على الخليل.
واستمرت لعبة القط والفأر بين مشايخ جبل الخليل من جهة، وحكام القدس من جهة أخرى خلال معظم الخمسينات، وشهدت المدينة تجدد الصراعات بين المشايخ الذين أثقلوا كاهل الناس بالضرائب والغرامات.
أما القدس نفسها فقد كانت تعتمد على ما تخصصه الدولة من رواتب، إضافة إلى خدمة الحجاج والزوار، وكان للمدينة سور منيع، بُني أيام سليمان القانوني، وشكّل حاجزاً بين المدينة والفلاحين، وأحدث هذا فجوة كبيرة بين المدينة والقرى، وبقيت كل الصراعات بين قيس واليمن ومشايخ النواحي خارج اسوار المدينة، والمرات القليلة التي دخل فيها الفلاحون المدينة، كانت في ثورة نقيب الأشراف 1703-1705، وفي ثورة سنة 1834 ضد الحكم المصري.
بعد تراجع عكا، حظيت القدس بمركز الصدارة بين مدن فلسطين، وظل العلماء أصحاب المناصب الدينية والمسئولين عن الأوقاف هم الأكثر نفوذاً، وأصبحت هذه المناصب حكراً على عائلات معروفة، وهذا أضعف الصراع على المناصب قياساً ببقية المدن، وامتازت تركيبة النخبة في القدس باستقرار نسبي، وحتى بداية فترة التظيمات العثمانية، ظلّ آل الحسيني وآل الخالدي على رأس قائمة العلماء والأعيان، وحافظ آل الحسيني على منصبي مفتي القدس ونقيب الأشراف خلال الثلث الأول من القرن 19، لكن المتصرف طيار باشا عيّن سنة 1842 عبد الله وفا العلمي في وظيفة نقيب الأشراف، وعيّن الشيخ عبد الرحمن الجماعي في وظيفة الإفتاء، وهكذا خسر آل الحسيني الوظيفتين الرئيسيتين اللتين حافظوا من خلالهما على النفوذ السياسي، وأدت هذه السياسة العثمانية إلى إذكاء التنافس بين العائلات.
وفي سنة 1843 حدثت مظاهرات تم خلالها إنزال العلم الفرنس من فوق القنصلية الفرنسية، واتخذت الدولة العثمانية إجراءات تأديبية ضد الأعيان، وألقت القبض على خمسة منهم، وأرسلتهم إلى بيروت، ولكنهم أُعيدوا للمدينة بعد فترة.
جعلت هذه التدخلات من قبل الدولة إضافة إلى تدخل القنصلين الإنجليزي والفرنسي عائلات القدس تبحث عن تحالفات وتحزبات، وأصبح آل الحسيني زعماء صف اليمن في الأربعينات.
أما الصف الآخر فتزعمه عبد الله العلمي، لكنها بقيت تحزبات غير عميقة، ولم تصل حد الصراعات الدموية.
لواء غزة وجنوب فلسطين:
عانت غزة بسبب الحملات العسكرية المتكررة عانت غزة ضموراً في دورها التجاري كمحطة مهمة على الطريق الساحلية، وعانت من سياسة الجزار وأبو المرق، وساهم العربان في تدهور الأوضاع وانعدام الأمن في بعض المراحل، وبعد آل رضوان وآل مكي وأبو المرق لم تتمكن العائلات الغزية من لعب أي دور سياسي أو عسكري في تاريخ فلسطين، حتى في ثورة سنة 1834 فإن البدو هم من قام بالثورة، وليس أعيان المدينة، ولهذا فإن الدولة العثمانية سيطرت على غزة بسهولة بعد انتهاء الحكم المصري.
وأصبحت غزة تابعة للقدس، وقامت الائلات المقدسية بزيادة استثماراتها، وبالتالي نفوذها في غزة، وهاجرت بعض العائلات المقدسية مثل آل الدجاني إلى يافا، وآل العلمي إلى غزة.
أدى ضعف النُخب المحلية القديمة إلى ظهور نُخَب جديدة من التجار مثل آل الشوا في غزة، وبعض الأُسر المسيحية التجارية في يافا.
انتعشت غزة في بداية عهد التنظيمات العثمانية، وحافظت على مكانتها التجارية كمحطة لتصدير المنتجات الفلسطينية إلى مصر، لكن هذه المكانة تراجعت بسبب:
1- تطور الملاحة الأمر الذي ساعد يافا على التقدم.
2- افتتاح قناة السويس سنة 1869 إذ أصبح التجار يفضلون الطريق البحرية بدلاً من مشقات الطريق البرية.
وهكذا تقدمت يافا حتى أصبحت أهم المدن الفلسطينية في أواخر العهد العثماني، ولعب البدو دوراً في عدم الاستقرار، لكنهم خدموا في نقل التجارة وتأمين قوافل الحجاج، وكانت المنطقة الرئيسية التي عاش فيها البدو بأعداد كبيرة في فلسطين، هي تلك الممتدة بين غزة وبئر السبع، واشتهر من العشائر الكبيرة: العزازمة والتياهة والترابين والسواركة والقديرات والجبارات، وكان أفراد هذه القبائل يعملون في خدمة الدولة العثمانية وفي خدمة الحجاج، وقد كوّن بعضهم ثروات، وتذكر كُتب التاريخ أن الشيخ عايش الوحيدي اشترى أغلى دار طُرحت للبيع في غزة سنة 1858.
كان في علاقة البدو مع الريف والمدينة كثير من التعاون، إضافة إلى بعض المشاكل.
إخضاع الزعامات المحلية لسيطرة الدولة
بعد انتهاء حرب القرم سنة 1856، وإصدار خط شريف همايون، أصبحت الدولة العثمانية أكثر تصميماً على تجريد الزعامات المحلية من نفوذها، وخيّرت الدولة مشايخ النواحي بين التخلي عن دورهم المستقل والعمل في خدمة الدولة، وبين فقدان نفوذهم وسيطرتهم في مناطقهم.
وفي المرحلة الثانية من التنظيمات تعززت مكانة المدينة، وتراجعت مكانة الأرياف، حيث استفاد أهل المدينة من الفرص الاقتصادية والمناصب الإدارية الوفيرة التي أحدثتها سياسة التنظيمات، وأدت سياسة مركزة الإدارة إلى خسارة مشايخ النواحي، ولم يستفد من هؤلاء إلا من انتقل إلى المدينة مثل آل عبد الهادي.
ضغطت الدول الأوروبية التي ساعدت الدولة العثمانية في حرب القرم على الدولة العثمانية، وطلبت منها إنهاء نفوذ الزعامات المحلية، وكانت المعارك الدامية قد أنهكت هذه القوى المحلية، وأراد القناصل الأجانب إزاحة من يقف حجر عثرة أمام نفوذهم في البلد.
وقد استغل القناصل الصراعات بين آل طوقان وآل عبد الهادي والأحداث المؤسفة التي وقعت في نابلس فس شهر 4- 1856 كإثبات لصحة موقفهم المطالب بتجريد الزعامات المحلية من نفوذها وسيطرتها.
استمرت الصراعات المحلية بعد حرب القرم، لكن الوالي العثماني (ثريا باشا) هاجم معقل آل عبد الهادي في عرابة في شهر 4-1859، ودمّر القرية، وأنهى الاستقلال الذاتي لجبل نابلس، وسيطر الوالي العثماني ثريا باشا على القدس، وقضى على نفوذ آل أبو غوش واللحام في خريف 1859، وبعدها تم إخضاع مشايخ نواحي الخليل.
وفي مطلع الستينان من القرن 19 كانت منطقة جبال فلسطين الوسطى قد خضعت لتطبيق التنظيمات العثمانية بعد إخضاع العائلات والمشايخ والأعيان لنفوذ الدولة.
تغلغل النفوذ الأوروبي في الأراضي المقدسة
كانت الدولة العثمانية في البداية، ومنذ عهد سليمان القانوني تمنح امتيازات للدول الأوروبية من موقع القوة، لكن منذ نهاية القرن 18 تغيرت الأمور، وانكشف ضعف الدولة العثمانية، وبدأ ذلك بالعدوان الفرنسي على مصر والشام سنة 1798-1799، وزاد غزو محمد علي للشام سنة 1831 الطين بلة، وكانت فرنسا قد احتلت الجزائر سنة 1830، ومنذ ذلك الوقت تعددت الأطراف الأوروبية، وكثّفت نشاطاتها في فلسطين، لكن التعدد والتنافس منع أي طرف من الاستئثار بالسيطرة على فلسطين حتى نهاية العهد العثماني.
منع محمد علي التمييز ضد المسيحيين واليهود في محاولة منه لكسب ود الأوروبيين، وأفسح المجال للمؤسسات الأجنبية والخيرية والتبشيرية للعمل، وافتتح قنصلية لبريطانية في القدس سنة 1838، وكان هذا تتويجاً لسياسة فتح الأبواب أمام النفوذ الأجنبي في فلسطين.
وافتتح العثمانيون قنصلية لبروسيا في القدس سنة 1842، وأخرى لفرنسا سنة 1843، ثم لأمريكا سنة 1844، وأخيراً للنمسا سنة 1849.
وزاد النشاط التبشيري إرضاء للدول الكبرى، حيث كانت فرنسا راعية للكاثوليك، بينما كانت روسيا راعية للأرثوذوكس، وعملت بريطانية وبروسيا على رعاية البروتستانت، وقررتا بسط رعايتهما للطائفة اليهود التي كانت تشكل حوالي 2% من السكان فقط.
وتم تدشين كاتدرائية بروتستانتية في القدس سنة 1849، وفي سنة 1841 تم تأسيس أسقفية إنجليزية بروسية في القدس، وركزت هذه الكنيسة على تحويل الأرثوذكس إلى البروتستانت.
وسّع الفرنسيون نفوذهم عبر رعاية طائفة الكاثوليك، وعبر التجارة التي تحركت من يافا إلى مرسيليا بشكل نشط، وأثار استهداف بريطانيا للأرثوذكس، ومحاولة تحويلهم نحو البروتستانتية حفيظة الروس، فكثفوا نشاطهم، وكانت روسيا عدواً تقليدياً للعثمانيين، عكس فرنسا وبريطانيا، بسبب أطماعها وتحريضها لشعوب البلقان ضد الدولة العثمانية.
وصل أسقف وقنصل روسيان بعد حرب القرم، وقام الروس بشراء الأراضي وبناء الكنائس والمدارس، وأسسوا المجمع العمراني المعروف الآن باسم المسكوبية، وضم هذا المجمع مستشفى وصيدلية ونُزل للحجاج وكنيسة، وسكن القنصل الروسي في أحد تلك المباني، وفي سنة 1882 أسست روسيا (الجمعية الإمبراطورية الأرثوذوكسية في البلاد المقدسة)، واهتمت بالحجاج وتشجيع النشاطات العلمية، ورفع شأن الأرثوذوكس في فلسطين، ونشطت هذه الجمعية في الجليل بشكل خاص، وبشكل عام نشطت هذه الجمعية في الشام عموماً، وأسست 114 مدرسة حتى سنة 1914، تعلم فيها 15 ألف طالب وطالبة، لكن بعد سنة 1905 تقلص النفوذ الروسي في فلسطين نتيجة لمشكلات واجهتها روسيا في الخارج والداخل، الأمر الذي ترك الساحة للمصالح الفرنسية والبريطانية في هذه المنطقة.
وضمن ازدياد التغلغل الأوروبي في فلسطين، قامت مجموعة دينية ألمانية تُعرف باسم (الهيكليون) أو (الداويون) بتنظيم هجرة جماعية، وأسسوا سنة 1869 مستوطنة في حيفا ثم أقاموا أخرى في يافا، وكان هؤلاء ينتظرون قدوم المسيح، ويؤمنون بقرب نهاية العالم، وقرب انتهاء الحكم الإسلامي لفلسطين، ولهذا اتخذت الدولة العثمانية منهم موقفاً سلبياً، وخشي السلطان العثماني من أن يؤدي الاستيطان إلى فقدان السيطرة على البلد، وبشكل عام بقيت علاقة سكان فلسطين المسلمين محدودة مع الهيكليين، وفي النهاية فشل هذا المشروع: لأن ألمانيا كدولة لم تتبناه، ومع الحرب العالمية الأولى انتهى ولن يتبق منه سوى الحارات التي ظلت تُعرف باسم المستعمرات الألمانية.
تحولات اقتصادية في فلسطين فترة التنظيمات العثمانية
أ: قانون الأراضي ونظام الملكية الزراعية:
أرادت الدولة العثمانية من وراء قانون تسجيل الأراضي سنة 1858 تحقيق الأهداف التالية:
1- منع التلاعب والفوضى في جباية الضرائب.
2- إيجاد آلية لحماية أراضي الدولة وتشجيع الإنتاج لأغراض التصدير إلى أوروبا.
ولذلك كان تنظيم عملية تسجيل الأراضي خطوة طبيعية لزيادة فعالية الإدارة المركزية في تعاملها مع السكان من دون تدخل مؤسسات وسيطة بين الطرفين، وقد تم تقسيم الأراض بموجب القانون إلى:
1- الملك الخاص وهي نسبة صغيرة من الأراضي.
2- الأراضي الأميرية أو الميري، وهي ملك الدولة.
3- أراضي الوقف: وهي نوعان، الأول هو الوقف الأهلي أو الذُّري، وهو ما أوقفه الناس من أملاكهم، والثاني الوقف الخيري، وهو ما أوقفته الدولة.
4- الأراضي المتروكة، وهي نوعان، الأول ما لا يجوز تملكه مثل الطريق العام، أو ما خُصِّص للاستعمال العام مثل الأحراش والمراعي.
5- الأراضي الموات، وهي الأراضي البعيدة عن العمران، ويمكن للأفراد الانتفاع منها بإذن الدولة.
لم يضع قانون الأراضي سنة 1858 معايير جديدة خاصة بحقوق التصرف في الأرض، لكنه وضع الأسس لتسجيل الحقوق القائمة والمستجدة.
تمكنت فئتي الأعيان والتجار من تسجيل مساحات واسعة من الأراضي بأسمائهم, فتعززت مكانتهم, وهناك من يقول أن هذه الملكيات تشكلت بسبب عجز الفلاحين عن إثبات ملكيتهم للأرض, أو تهربهم من تسجيلها خوفاً من عواقب التجنيد الإجباري والضرائب.
لكن هنالك من يقول  هذا غير دقيق لأم الملكيات الواسعة حدثت في المناطق قليلة السكان, أما المناطق الجبلية فقد سجل الفلاحون أراضيهم بأسمائهم.
ب: نشوء فئة كبار ملاكي الأراضي
نجحت ثلاث مجموعات من السكان في تملك مساحات واسعة من الأرض خلال النصف الثاني من القرن 19، وهم:
1- الأعيان الذين امتلكوا الأراضي عن طريق التسجيل والحصول على سندات ملكية على أساس القوانين والأوامر الجديدة.
2- المجموعة الثانية تكونت من فئة الطبقة الوسطى من التجار في المدن الساحلية، إضافة إلى نابلس والقدس، وبعض العائلات المسيحية.
3- أما الفئة الثالثة فتكونت من الرأسماليين الأجانب واليهود، ونتيجة لنشاط المستثمرين الأجانب ارتفعت أسعار الأراضي، ولما كان اليهود والأوربيون أكثر قدرة على الدفع، فقد نجحوا في عقد صفقات تملكوا خلالها أراضي واسعة، وأقاموا عليها مشاريعهم ومستعمراتهم.
وكان من أشهر الذين باعوا الأراضي للمؤسسات الأجنبية ولليهود آل سُرسق التي تمكنت من شراء 230 ألف دونم في الجليل بعشرين ألف جنيه استرليني.
وتجدر الإشارة إلى أن آل سرسق هم في الأصل قبارصة، سكنوا أضنة، وعملوا في جباية الضرائب، وفتحوا مصارف وشركات، وعملوا في شق طريق بيروت دمشق، وكذلك ساهموا في شق قناة السويس، ثم استقروا في بيروت.
وكان لقانون بيع الأراضي للأجانب من غير رعايا الدولة العثمانية سنة 1867 دوراً مهماً في انتقال الأراضي بصورة قانونية، وحاجة العثمانيين للأموال ساهم في بيع الأراضي للأجانب.
ج: تطور الزراعة والتجارة
بسبب مركزة السلطة، وتسجيل الأراضي، وتحسن الأوضاع الأمنية زاد الإنتاج الزراعي، وتزايد التصدير إلى أوروبا، واشتهر برتقال يافا في عواصم أوروبية.
وكانت فلسطين تصدر القمح والشعير والذرة والسمسم، وزيت الزيتون والصابون والفواكه والخضروات.
تكيف المزارع الفلسطيني مع مقتضيات السوق العالمية وعلى سبيل المثال فقد تراجعت زراعة القطن في الخمسينات من القرن 19، لكنها نشطت في السبعينات بسبب حاجة الأسواق الأوروبية له في ظل الحرب الأهلية الأمريكية، ثم تراجعت زراعته مرة أخرى.
كما توسعت الزراعة في يافا، فإنها توسعت كذلك في غزة وفي مرج ابن عامر والأغوار، وتحسن الأوضاع المعيشية نتيجة لذلك، واستفادت خزينة الدولة العثمانية.
ورغم التحسن الاقتصادي إلا أن غالبية الفلاحين ظلت تعمل في مشقة لتأمين لوازم معيشتها الأساسية، وزادت الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، وأصبحت المدن الساحلية أكثير ثراء وازدهاراً من المدن الداخلية، ولهذا هاجر الكثيرون من مدن الداخل إلى حيفا ويافا تحديداً.
الإصلاحات الإدارية والسياسية
أ: قانون الولايات وأثره في فلسطين:
صدر قانون الولايات في 7-11-1864 وينص على تقسيم الدولة إلى ولايات، وكل ولاية يحكمها والي، وتنقسم الولاية إلى مجموعة ألوية، وكل لواء يحكمه متصرف، واللواء ينقسم إلى أقضية، وكل قضاء يحكمه قائمقام، والقضاء ينقسم إلى مجموعة نواحية، وكل ناحية يحكمها مدير، والناحية تضم مجموعة قرى، والقرية يحكمها مختار بدلاً من شيخ القرية، وكل ذلك داؤ في خدمة مركزة السلطة.
أصبحت الدولة تطبق الإجراءات التي تريدها من أن تواجه مقاومة تُذكر بعد المركزة، وتجدر الإشارة إلى أن التقسيم الأساسي للولايات لم يأت بجديد، لكن تم استحداث أجهزة إدارية يرأسها موظفون مختصون مثل الدفتردار (مسئول المالية)، ومدير المعارف، ومأمور الزراعة، ومأمور الأملاك والأوقاف.
سنة 1871 اتخذ قرار بتشكيل مجلس بلدي إلى جانب رئيس البلدية وتم تنظيم جهاز قضاء ومحاكم نظامية.
تم تشكيل ولاية سوريا سنة 1865 بضم صيدا إلى دمشق, وتم فصل القدس منذ بداية عهد التنظيمات وسبقت هذه المدينة غيرها في العمران وعدد السكان, وتبع لواء القدس أقضية يافا وبئر السبع وغزة والخليل.
بعد إكتمال بناء الإدارة المركزية, أخذت النخب تتنافس في الحصول على المناصب الإدارية التي كانت تفتح الطريق أمام الفرص الإقتصادية.
في عهد التنظيمات تزايدت أهمية المدن وتم تهميش الريف
استفادت الطبقات الوسطى من الأقليات المسيحية واليهودية اكثر من غيرها من الفرص الإقتصادية ومن ازدياد النفوذ الأوروبي, وصار للأقليات تمثيل في مجالس الإدارات والبلديات، وهذا أحدث نوعاً من الغيرة والحسد عند المسلمين.
ب: البرلمان العثماني الأول وشخصية يوسف ضياء الخالدي:
بعد إعلان الدستور عام 1876، جرت انتخابات لمجلس المبعوثان، وفاز عن متصرفية القدس يوسف ضياء الخالدي الذي كان جريئاً في نقد السلطان عبد الحميد الثاني.
من هو يوسف ضياء الخالدي؟
يُعتبر من رموز فترة التنظيمات العثمانية، منفتح على الغرب، راغب في تحديث الدولة والمجتمع، ترأس بلدية القدس عدة مرات لمدة عشر أعوام، عمل في ديوان الترجمة التابع للباب العالي، ونائب قنصل، وقائمقام في عدة مناطق، أتقن ست لغات (التركية والعربية والكردية والإنجليزية والفرنسية والألمانية).
يوسف ضياء الخالدي هو ابن محمد علي الخالدي، رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في القدس، ونائب القاضي فيها، والقضاة كانوا أتراك، فعندما كانوا يُنقلون إلى إستنبول كانوا يحفظون لآل الخالدي الود والمعاملة الحسنة، وشكّل هذا مصدر قوة لآل الخالدي، حيث كان هؤلاء القضاة يعينوهم في قضاء مصالحهم في إستنبول.
محمد علي الخالدي كان على صلة بكبار رجال الدولة العثمانية عن طريق (عمه وصهره) موسى الخالدي الذي عمل في القضاء، وكان على صلة بالسلطان العثماني محمود الثاني.
كان آل الخالدي ممن عارضوا الحكم المصري في فلسطين، حيث كانوا يبسطون حمايتهم على طائفة الروم الأرثوذكس وأديرتها، وشاركوا في ثورة سنة 1834، الأمر الذي جعل إبراهيم باشا يقوم بنفي زعمائهم بعد إخماد الثورة بمن فيهم محمد علي الخالدي، ولم تطل إقامة محمد علي الخالدي في المنفى، وتعايش مع الحكم المصري، ولما اُعيد الحكم العثماني عمل في خدمته، وعُيّن قاضياً في الأناضول، ثم عاد إلى القدس، وبقي في وظيفته إلى أن مات، في أغسطس 1864.
وُلِد يوسف ضياء سنة 1842، وأمه يونانية، تلقى تعليمه في المدارس البروتستانتية، ودخل كلية الطب في تركيا، لكنه لم يُكمل، وتحول إلى دراسة الهندسة في كلية روبرت الأمريكية للهندسة، ولم يُنهِ دراسته في تلك الكلية، وبسبب وفاة والده اضطر للعودة إلى القدس بعد أن أمضى عاماً ونصف العام فقط.
نشأ يوسف ضياء في بيت سياسي، واستمع وهو ابن 14 عاماً في بيت أبيه إلى النقاشات السياسية المؤيدة لسياسة الإصلاحات العثمانية، وتأثّر بها، وتطور موقفه في نفس الاتجاه عندما اتصل بشكل مباشر بأنصار سياسة التنظيمات خلال وجوده في العاصمة العثمانية إستنبول.
بعد وفاة والده لم يعد يوسف ضياء الخالدي لإكمال تعليمه في الأستانة، وساهم في تأسيس المدرسة الرشيدية في القدس، لكنه لم يُعيّن مديراً لها كما كان يطمح، تم تعيين يوسف ضياء رئيساً لبلدية القدس، وهي أول بلدية أُقيمت في فلسطين عقب قانون الولايات عام 1864، وقد شغل هذا المنصب عدة مرات لمدة تقترب من العشر سنوات.
عمل على تطوير المدينة، وعمل في دار الترجمة التابع للباب العالي، ثم قنصلاً عثمانياً في منطقة البحر الأسود، ثم قام بجولة في روسيا زار فيها عدة مدن روسية، ثم ذهب إلى فيينا وعمل أستاذاً للغة العربية والعثمانية.
عاد إلى القدس عام 1875، وتم تعيينه رئيساً للبلدية من جديد، وفي عام 1877 تم اختيار يوسف ضياء الخالدي نائباً عن المتصرفية في مجلس المبعوثان، وكان مؤيداً لفكرتي الدستور والإصلاح، وانتقد السلطان عبد الحميد الثاني، وعندما حل السلطان عبد الحميد البرلمان في 13-2-1878، عاد يوسف ضياء الخالدي إلى القدس وتولى رئاسة البلدية من جديد، لكنه اُبعد مجدداً في خريف عام 1879 عن رئاسة البلدية، وتم تعيين منافسه عمر أفندي الحسيني في رئاسة البلدية.
رغم الإحباط الذي أصاب يوسف ضياء الخالدي بعد انتكاس التجربة البرلمانية، وتعطيل الدستور، فإنه ظل عثمانياً موالياً للسلطان، وشغل عدة مناصب في الدولة بعد ذلك منها قائمقام في يافا وغيرها من الأماكن.
فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني
سمات العهد الحميدي
استمر حكم السلطان عبد الحميد الثاني 33 سنة، وفي بداية حكمه واجهت الدولة ثورة شعوب البلقان، والحرب مع روسيا، ظهر خلالها ضعف جيوش الدولة العثمانية، وعجزها عن حماية حدود الإمبراطورية.
في بداية حكمه فُرض عليه الدستور من قبل الصدر الأعظم مدحت باشا ورجال التنظيمات، وفي نهاية حكمه فُرض عليه الدستور بالقوة عقب ثورة الشبان الأتراك.
استلم عبد الحميد إرثاً صعباً تمثّل في جيش ضعيف وخزينة خاوية، وجهاز إداري غير فاعل، واستمر في سياسة الإصلاحات التي ميزت فترة التنظيمات، لكن من دون فتح الباب على مصراعيه أمام النفوذ الغربي سياسياً وثقافياً.
حاول السلطان كسب ولاء المسلمين بدعنه فكرة الجامعة الإسلامية، والهوية العثمانية. حارب السلطان الأفكار الليبرالية والقوميةواستعان بأجهزة بوليسية تعتمد المراقبة والتجسس والقمع.
اتخذ الليبراليون والقوميون مواقف معادية من السلطان عبد الحميد الثاني، وبعد تعطيل الدستور وحل البرلمان قام عبد الحميد الثاني بتطير البنية التحتية وطُرُق المواصلات، وكذلك تحالف مع ألمانيا على صعيد السياسة الخارجية بدلاً من فرنسا وبريطانيا.
هددت ثورات البلقان ههدت الإمبارطورية من الداخل، والأطماع الاستعمارية كانت على أشدها، وكانت فلسطين تشهد زحف النفوذ الأوروبي سلمياً منذ بداية عهد التنظيمات، والحركة الصهيونية بدأت استيطان فلسطين.
الأزمات الخارجية وانعكاساتها على فلسطين
عندما نشبت ثورات البلقان المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية، حاولت روسيا دعم الثوار، لكن دول غرب أوروبا رفضت، وحاول رجال الإصلاح امتصاص الغضب الغربي من خلال إعلان دستور في ديسمبر سنة 1876، وهذا يعكس أن الإصلاحات كانت مرتبطة بأزمات، كانت الدولة العثمانية في حاجة ماسة على مساعدة الدول الأوروبية ودعمها.
هاجمت روسيا الدولة العثمانية في أبريل سنة 1877، واحتلت العديد من المدن، ولم تُحرك دول أوروبا الغربية ساكناً، فاتهم السلطان عبد الحميد الثاني رجال الإصلاح بتلك النتيجة، وقرر تعطيل الدستور، وحل البرلمان، وأمسك بزمام الحكم بصورة مطلقة في شباط سنة 1878، ووافق السلطان على كل طلبات الروس، وتوصل معهم إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
وبدأت عملية جمع الضرائب لسد عجز الخزينة الخاوية، وقد تحمل السكان في فلسطين وغيرها عناء دفع الضرائب، إضافة إلى آلاف القتلى، وآلاف الأسرى.
وفي شهر يونيو 1878 عقدت الدول العظمى مؤتمر برلين لوضع حد لمكاسب روسيا الإقليمية، وتقرر في المؤتمر أن تحصل صربيا ورومانيا على الاستقلال، ثم تحسنت العلاقة بين الأباطرة الثلاث، ثم تحسنت علاقة بريطايا مع روسيا، وشهد الموقف حالة من الهدوء بين الدولة العثمانية وروسيا.
وفي هذه الأثناء برزت الحركات القومية، وتمكن السلطان عبد الحميد الثاني من محاربة هذه الحركات بفضل الهدوء على الجبهات الخارجية، بعد مؤتمر برلين شهدت الدولة العثمانية هدوءاً نسبياً على الجبهة الخارجية، لكنها كات قد خسرت 210 ألف كيلو متر مربع من أراضيها في البلقان وشرق الأناضول، وخسرت خمس السكان (أي 5,5 مليون نسمة، ثم خسرت تونس سنة 1881 لصالح فرنسا، ومصر سنة 1882 لصالح بريطانيا، واستمرت الثورات في دول البلقان تشتعل بين الفينة والأخرى مقتطعة أجزاء من أراضي الدولة العثمانية.
وبسبب فقدان الدولة العثمانية الكثير من الأراضي في البلقان والأناضول هاجرت أعداد كبيرة من المسلمين إلى إستنبول، فزادت نسبة سكان الدولة المسلمين وأصبحت 76% من السكان بدلاً من 68%.
شعر العثمانيون أن دولتهم في خطر، وأنه يجب الحفاظ عليها بشتى السُبُل، فاتبعت سياسة التجنيد الكثيف للمقاتلين وإرسالهم إلى مناطق بعيدة، وهذا أصبح محورا جديداً للخلاف بين الدولة ومواطنيها في نختلف أماكن تواجدهم.
وكان الفلسطينيون يعايشون الأخطار التي تتهدد الإمبراطورية، حيث عايشوا الاحتلال البريطاني لمصر والثورة العرابية، وهاجر بعض زعماء الثورة العرابية إلى غزة ويافا بعد الاحتلال، وأسكنت الدولة مجموعات من البشناق في قيسارية، ومجموعات من الشركس في الجليل، وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من سكان البلد.
زاد اهتمام الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد بفلسطين لسببين:
1- أصبحت منطقة حدودية بعد احتلال مصر.
2- اصبحت محط أنظار الحركة الصهيونية.
على صعيد السياسة الخارجية تحالفت الدولة العثمانية مع ألمانيا، فزادت الاستثمارات الألمانية في فلسطين، وعلا شأن القناصل الألمان، وزار الإمبراطور الألماني فلسطين، وأمضى في القدس أسبوعاً كاملاً.
استمرار التنظيمات العثمانية
عمل السلطان عبد الحميد على اتباع سياسة خارجية جديدة، وحجم رجال الإصلاح بزعامة مدحت باشا، ودعم فكرة الجامعة الإسلامية، لكن رغم ذلك استمرت الخطوط العريضة الحاكمة لمجريات الأمور في فلسطين على حالها وهي:
1- استمرار اندماج اقتصاد المنطقة في السوق الرأسمالية العالمية.
2- استمرار تغلغل النفوذ الأوروبي في الأراضي المقدسة.
3- استمرار سياسة التنظيمات العثمانية مع تعديلات في سلم الأولويات تمثل في الاهتمام بمشاريع البنية التحيتة.
وفي عهد السلطان عبد الحميد تم إقامة البلديات ومكاتب الحكومة مثل مكتب المعارف، ومكتب النفوس، وافتتاح المدارس في المدن والقرى الكبيرة.
واستمر تسجيل الأراضي وتحويلها من ملكية عامة إلى ملكية خاصة.
وإستمرت عملية شق الطرق بين المدن, واغتتح جسر على نهر الأردن سنة 1885, وتم مد السكة الحديد بين يافا والقدس غي 24/9/1892, وهو الاول من نوعه في بلاد الشام.
ثم تم افتتاح خط بيروت دمشق, ودمشق حلب، ثم خط سكة الحجاز والذي يمر عبر دمشق درعا عمان، ثم مكة والمدينة، وهذا الخط افتُتح سنة 1908.
وتم مد خط سكة حديد بين حيفا ودرعا الأمر الذي أدى إلى ازدهار مدينة حيفا ومينائها، وأصبحت في فلسطين ثلاث مدن رئيسية هي القدس ويافا وحبفا.
استمرت الجمعيات التبشيرية والاستثمارات الأجنبية في ممارسة نشاطاتها، ودخل نشاط الحركة الصهيونية على الخط.
ساهمت السياحة في تحسين الأوضاع الاقتصادية في القدس وبيت لحم، حيث ازدهرت صناعة الخزف والتحف وهدايا الأراضي المقدسة.
إن التحسن في خدمات البنية التحتية مثل طرق المواصلات، وشبكات البريد والبرق وانتشار الأمن، أدت إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية، وبقي اقتصاد البلد زراعياً، وتم تصدير الفائض عن احتياجات الناس، وتوسعت العلاقات التجارية الخارجية عبر موانئ غزة ويافا وحيفا، وارتفع مستوى المعيشة بشكل عام.
الأحوال الاجتماعية والثقافية
ازداد عدد سكان فلسطين بشكل ملحوظ حتى وصل سنة 1908 إلى 650 ألف نسمة، وبلغت نسبة سكان المدن سنة 1908 من مجموع السكان الثلث، وانتقل مركز الثقل الاقتصادي والديمغرافي من المناطق الجبلية إلى المناطق الساحلية، وانتقل الفلاحون من الجبال إلى الساحل والأغوار للعمل في الأراضي الجديدة التي تم استصلاحها، وأقام هؤلاء الفلاحون قرى جديدة.
ومع ظهور ملكيات الأرض الكبيرة، برزت شريحة من الفلاحين تعمل في أرض لا تملكها، وهذا يُشبه نظام الأقنان الذي عرفه التاريخ الأوروبي، وهذه الظاهرة لم تكن معروفة من قبل في التاريخ الفلسطيني، وأصبحت غزة عاصمة قضاء تابع لمتصرفية القدس منذ سنة 1873.
نشبت حرب أهلية بي عرب الترابين أنفسهم استمرت 11 سنة، فتدخل متصرف القدس، واعتقل زعماء الحرب، وفرض الضرائب على البدو، وزاد اهتمام الدولة العثمانية بجنوب فلسطين مع احتلال بريطانيا لمصر سنة 1882، وجعلت الدولة منطقة النقب قضاء منفصلاً مركزه بئر السبع منذ سنة 1900.
في هذه المرحلة ازدهر الدور الثقافي للقدس، وأصبحت مركزاً مهماً لكل أنحاء فلسطين، وصدرت في حيفا صحيفة الكرمل، وفي يافا صحيفة فلسطين.
زاد عدد المدارس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ووصل إلى: 45 مدرسة في عكا، و11 مدرسة في نابلس، أما مدارس البنات فكانت موجودة في المدن فقط. وبلغ مجموع المدارس الحكومية في فلسطين 95 مدرسة حكومية ابتدائية سنة 1914، وثلاث مدارس ثانوية، إضافة إلى 379 مدرسة خاصة.
ظلت أعداد المدارس الحكومية والخاصة، بالإضافة إلى مجموع عدد الطلاب الذين درسوا فيها قليلة جداً رغم الجهود المبذولة من الدولة، وقد اهتمت الدولة بإيصال الخدمات التعليمية حتى إلى أولاد مشايخ البدو في النقب، لكن الأغلبية الساحقة من السكان لم تحظ بفرصة دخول تلك المدارس، وكان وضع البنات أسوأ حالاً من وضع البنين.
أما أوضاع المدارس اليهودية والمسيحية فقد كانت أحسن حالاً كماً ونوعاً، وفي بعض المناطق مثل عكا ونابلس فقد تفوقت المدارس اليهودية على غيرها، تليها المدارس التبشيرية المسيحية، وفي السنوات الأخيرة للحكم العثماني صار بعض أعيان المسلمين يرسلون أولادهم للدراسة في المدارس الأجنبية بسبب سمعتها العالية، واشتهر من بين مدرسي هذه المدارس نخلة زريق في القدس.
كما أن خريجي تلك المدارس الأجنبية، وخصوصاً دار المعلمين الروسية في الناصرة كانوا طلائع الأدباء والصحفيين في فلسطين.
تحسنت أوضاع التعليم في فلسطين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني نتيجة الجهود التي بذلتها الدولة، وبشكل عام بقيت الثقافة السائدة في فلسطين هي الثقافة الدينية، وأقبل خريجو المدارس على الذهاب للأزهر لإكمال دراساتهم العليا، وفي سنة 1904 بلغ عدد الطلاب الفلسطينيين في الأزهر 135 طالباً، وبرز من خريجي الأزهر الفلسطينيين مجموعة من العلماء الذين احتلوا مناصب عليا في الأزهر.
تجدر الإشارة إلى أن علماء ومشايخ الطرق الصوفية حظوا باهتمام من جانب السلطات العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي سعى لخدمة سياسته الإسلامية.
وظهرت فئة قليلة من خريجي المدارس الحديثة، لكن الأكثرية كانوا خريجين من المدارس والجامعات الإسلامية.
واستمرت في عهد السلطان عبد الحميد تقاليد زيارة الأولياء وإقامة المواسم وأهمها موسم النبي موسى والنبي صالح ثم النبي روبين، وكانت هذه المواسم عبارة عن مهرجانات شعبية، وهكذا بدأت تتعايش في فلسطين الثقافة الإسلامية والثقافة الشعبية مع بدايات الثقافة الحديثة.
بدايات الاستيطان الصهيوني
كانت نسبة اليهود في فلسطين 2% سنة 1839، أي حوالي 5000 نسمة، وعاشوا كأقلية دينية، سكن نصفهم في القدس، والبقية في الخليل وطبرية وصفد، أما الريف فكان خالياً من وجود اليهود، وقد جاء أغلب هؤلاء اليهود من الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي هناك، واستمر وجود اليهود في فلسطين أقلية إلى أن بدأ في الازدياد في عصر التنظيمات العثمانية، فقفز عددهم سنة 1882 إلى 5% أي نحو 22 ألف نسمة.
بقيت علاقة الدولة العثمانية مع اليهود تحكمها سياسة التسامح، وكذلك علاقة المسلمين بهم، ويمكن القول أن سنة 1882 كانت علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين العرب واليهود على أرض فلسطين، حيث بدأ الاستيطان السياسي الذي يهدف إلى إقامة دولة اليهود على أرض فلسطين، لكن طيلة المرحلة الأولى من الهجرة اليهودي  (1882-1904) بقيت ردة فعل الفلسطينيين على الهجرة اليهودية عفوية وغير منظمة وضعيفة وغير فعالة، وربما يرجع ذلك إلى أن الفلسطينيين اعتقدوا أن الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد يقفان سداً منيعاً ضد أي أطماع استعمارية في فلسطين، إضافة إلى أن النُخب الفلسطينية لم تستوعب هذا الهدف بسهولة.
بدأ الاستيطان اليهودي خارج المدن الأربعة التي سكنتها الأقلية اليهودية عندما انتقل بعض يهود صفد للسكن في قرية الجاعونة التي اشتروا نصف أراضيها، وبعض يهود القدس أقاموا مستعمرة بيتح تكفا على أراضي قرية ملبس التي باعها تاجر الأراضي أنطوان تيان وسليم كساب.
لكن هؤلاء اليهود لم يتحملوا صعوبات الحياة في المستعمرات، ومن ثم عادوا إلى المدن، وتجدر الإشارة إلى أن أغلبهم كانوا يعيشون على (الحالوكاة) أي الزكاة التي كانت تُجمع لهم من يهود العالم، لذا تُعتبر سنة 1882 بداية الاستيطان مع هجرة أحباء صهيون من روسيا ورومانيا، وإقامة مستعمرتي ريشون لتسيون جنوب يافا، وزخرون يعقوب على أراضي زمارين، إضافة إلى مستعمرة بيتح تكفا من جديد، وإنشاء مساعمرة روش بينا في الجاعونة.
كانت هذه المستعمرات ظاهرة جديدة في تاريخ فلسطين، لكن الصهاينة بالغوا في أهمية دور المستعمرات الأولى، والصدامات العنيفة التي نشأت بين الفلاحين الفلسطينيين وجيرانهم الجدد.
كما أن الأثر الاقتصادي والسياسي للاستيطان الصهيوني الذي قام به أحباء صهيون كان ضعيفاً بعكس ما روّجت له الدعاية الصهيونية، وتميزت الهجرة الصهيونية الأولى التي قام بها أحباء صهيون عام 1882-1904 بعفويتها وعدم تنظيمها، وبدأت من روسيا عقب محاولة اغتيال القيصر إسكندر الثاني 1881، فهاجر الكثير من اليهود إلى الغرب، وقلة جاءت إلى فلسطين.
لكن هؤلاء المستوطنين واجهوا عقبات هدت من عزائمهم، ومنها:
1- مشكلة التأقلم وفق أوضاع الحياة الصعبة فب المستعمرات الزراعية، من حيث طبيعة العمل الشاق، وكذلك الأمراض التي يتعرض لها المزارعون، فيئس الكثيرون من هؤلاء وبعضهم غادر البلاد.
2- واجه المستوطنون ضائقة اقتصادية لأن انتاجهم لم يكف لسد احتياجاتهم، وكان البارون إدموند روتشيلد يتبرع لهم لسد العجز، واستمرت هذه التبرعات من 1882-1900.
3- نشبت خلافات داخلية في صفوف حركة أحباء صهيون بين المتدينين والعلمانيين، وخلافات أخرى على خلفية الصعوبات الاقتصادية، ودور موظفي روتشيلد في إدارة المستعمرات، لكنهم تمكنوا سنة 1887 من إيجاد قيادة مشتركة.
4- كان موقف الدولة العثمانية سلبياً من الهجرة الصهيونية منذ البداية، فأعلنت منذ أواخر سنة 1881 أنها تسمح لليهود بالهجرة إلى جميع أنحاء الإمبراطورية ما عدا فلسطين، شريطة أن يُصبح المهاجرون مواطنين عثمانيين، ورغم عدم الالتزام الكامل من جانب الموظفين بهذه السياسة، إلا أنها نجحت في تحجيم ظاهرة الهجرة إلى فلسطين.
5- لم تشهد فلسطين حركة مقاومة منظمة للمشروع الصهيوني طوال عهد السلطان عبد الحميد، لكن أعيان القدس رفعوا عريضة احتجاج للصدر الأعظم، إضافة إلى بعض الصدامات العنيفة التي وقعت بين الفلاحين والمستوطنين، الأمر الذي جعل الصهاينة يشعرون بوجود شئ من الخطر يتهدد وجودهم.
بلغ عدد المستوطنات 17 مستوطنة حتى سنة 1897، يسكنها حوالي 10% من اليهود المقيمين في فلسطين، أما بقية المهاجرين فقد سكنوا في المدن الأربعة، إضافة إلى بعض مدن الساحل يافا وحيفا، وفي كل الأحوال لم يشعر الفلسطينيون حتى تلك الفترة بخطر كبير من وراء ظاهرة الاستيطان الجديد.
هيرتسل والصهيونية السياسية
يُطلق على الاستيطان اسم (الصهيونية العملية)، والتي تعني تجميع اليهود في فلسطين، وتوسيع وجودهم، ومن ثم إقامة الدولة اليهودية، لكن هرتسل اعتبر هذا المجهود لن يؤدي إلى نتيجة، وأكد على ضرورة الحصول على موافقة دولة عُظمى على تبني فكرة إقامة وطن قومي لليهود.
حاول هرتسل إقناع السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح للاستيطان اليهودي، لكن السلطان رفض، واستطاع هرتسل عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل سنة 1897، وتقرر فيه العمل على بناء وطن قومي لليهود في فلسطين.
أرسل يوسف ضياء الخالدي رسالة إلى هرتسل عبر وسيط، واشتملت على الأفكار التالية:
1- عبّر عن مشاعر التقدير والمودة تجاه اليهود، وذكر أن من حق اليهود العودة للعيش في فلسطين، كما في الماضي.
2- اعتبر الصهيونية فكرة طبيعية وعادلة، لكن فلسطين ليست المكان المناسب للصهيونية، لأن فلسطين مكتظة بالمسلمين والمسيحيين، ولا متسع فيها للمزيد.
3- إن محاولة الاستيلاء على فلسطين ستواجه بردة فعل عنيفة ضد اليهود في كل مكان، ولهذا سيحتاج الصهاينة إلى خوض حرب، وهم غير قادرون عليها، ولن يخوضها أحد نيابة عنهم.
4 اقترح أن يترك الصهاينة فلسطين، وأن يبحثوا عن مكان آخر في العالم.
رد هرتسل على رسالة يوسف ضياء الخالدي:
كتب هرتسل رسالة رد فيها على رسالة يوسف ضياء الخالدي، جاء فيها:
1- أُقدّر تعابير الود للشعب اليهودي التي جاءت في رسالتك.
2- واليهود أصدقاء تركيا منذ السلطان سليم الذي فتح أبواب مملكته أمام النازحين من أسبانيا.
3- المشروع الصهيوني لن يضر الدولة العثمانية، بل على العكس سيفيدها، وسيجلب لها مواهب اليهود وأموالهم.
4- غاية اليهود العيش بسلام وليس خوض حروب.
5- بخصوص سكان فلسطين لن يتم إبعادهم منها، بل إنهم سيستفيدون من الوجود اليهودي.
6- إذا رفض السلطان الاقتراحات الصهيونية المقدمة إليه، فإننا حتماً سنجد ما نصبو إليه.
لم تقم المنظمة الصهيونية خلال زعامة هرتسل بأي نشاط استيطاني ملحوظ، وإنما ركزت نشاطها على الساحة الدبلوماسية، وفي سنة 1905 بلغ عدد المستوطنات 25 مستوطنة، وعدد السكان 6500 نسمة.
اليقظة العربية ونهاية الإمبراطورية العثمانية
واجهت الدولة العثمانية في العقد الأخير من تاريخها 1908-1918 تأزماً في علاقاتها الخارجية، ووصول تناقضاتها الداخلية إلى مرحلة الانفجار، وحاول السلطان عبد الحميد الثاني امتصاص غضب الشباب فأعلن الدستور سنة 1908 لاحتواء حركة المعارضة، لكن الثورة أطاحت بحكمه، وتمت إقامة دكتاتورية عسكرية قادت الدولة إلى الاشتراك في الحرب العالمية.
اكتشف رجال تركيا الفتاة بعد تسلمهم الحكم في 4-9-1909 أن الدستور ليس حلاً سحرياً لمشكلات الدولة الداخلية والخارجية، فأطماع الدول الاستعمارية وتبلور الحركات القومية الانفصالية، لم تترك فرصة لمحاولات إصلاح الإمبراطورية.
تركيا الفتاة وإعادة النظام الدستوري
انتصر السلطان عبد الحميد بعد إلغاء الدستور سنة 1878 على أنصار الدستور ورجال الإصلاح، وتم تشتيتهم في عواصم العالم، لكن بعد انتصار اليابان على روسيا سنة 1905، وإقامة أنظمة دستورية برلمانية في كل من روسيا وإيران شدا من عضد المؤيدين لإعلان الدستور.
ومنذ سنة 1906 بدأت تنشأ مجموعات معارضة في أوساط الجيوش العثمانية المنتشرة في الأقاليم، فنشأت مجموعة في دمشق كان من بين نشطائها مصطفى كمال أتاتورك، ونشأت مجموعات في يافا والقدس، لكن أنشط تلك المجموعات كانت في سالونيك (جمعية الاتحاد والترقي) التي أصبحت معقل المعارضة، وقادت حركة الانقلاب في يوليو 1908.
اعتقد هؤلاء المعارضون أن الأوضاع الداخلية في الإمبراطورية تزداد تدهوراً، ورأوا أن الساحة الدولية تموج بمتغيرات ليست في صالح الدولة، لهذا قرروا التحرك لإنقاذ الإمبراطورية؟! وبالفعل تمكنوا من عزل السلطان عبد الحميد، وتعيين شقيقه محمد رشاد بدلاً منه في 21-8-1909.
حافظ العرب بشكل عام على ولائهم للدولة العثمانية والسلطان، ولم تنشأ في الأقاليم العربية حتى سنة 1908 حركة قومية تطالب بالانفصال.
وهذا انطيق على الحالة الفلسطينية، فلم تتحرك في المدن الفلسطينية تظاهرات شعبية تُعبر عن التأييد للدستور، لكن بعد جهود بعض ضباط الاتحاد والترقي، ظهرت مظاهر تأييد الدستور في يافا والقدس، أما نابلس فأظهرت تعاطفاً مع السلطان عبد الحميد، والسبب أن يافا والقدس كانتا منفتحتان على الغرب، حيث التجارة والسياحة، أما نابلس فعلاقاتها محلية صناعياً وتجارياً، لذا كانت مواقفها أكثر محافظة.
مثّل فلسطين في الانتخابات التي جرت في البرلمان العثماني سنة 1908 كلا من: عن القدس روحي الخالدي (ت 1913)، وسعيد الحسيني (ت 1940)، وعن يافا حافظ السعيد (ت 1916)، وعن نابلس الشيخ أحمد الخماش (ت 1920)، وعن عكا الشيخ أسعد الشقيري (ت 1940)، وجميعهم من فئة العائلات التي شغلت مناصب الإدارة في مناطقهم.
وشارك في الانتخابات أعداد كبيرة من الناس حيث كان أصحاب حق الاقتراع كل الذكور فوق سن 25 سنة، وشاعت الحريات بعد الانتخابات، واعتقد الناس بإمكانهم قول وفعل ما يريدون، وبالفعل تم إلغاء الرقابة عن المنشورات، ونشأت الصحافة الحديثة التي أدت دوراً مهماً في اليقظة الثقافية، وفي التحريض السياسي ضد الصهيونية، لكن هذا التفاؤل والأمل لم يستمرا طويلاً.
اليقظة العربية والقضية الفلسطينية
تمسك العرب بهويتهم العربية الإسلامية في ظل الدولة العثمانية، وشجّعت الأخيرة على ذلك، وتعايش العرب والأتراك أجيالاً متتالية تحت مظلة الدولة العثمانية، وشعر العرب أنهم شركاء في تلك الدولة مثل بقية المسلمين.
تعود بداية الشعور القومي العربي في بلاد الشام إلى فترة التنظيمات العثمانية الثانية 1856-1878، ولم يكن لهذا الحراك أي مضمون سياسي في بداياته، وكانت بيروت مركزاً لهذا الحراك وبرز بين رواد التيار القومي (اليقظة العربية) خريجو المدارس التبشيرية مثل آل البستاني واليازجي وغيرهم.
لكن السلطان عبد الحميد نجح بالقمع وبالاحتواء وبتقريبه للكثير من الشخصيات العربية في كسب ولاء وتأييد الأغلبية الساحقة من سكان المنطقة حتى حدوث الانقلاب وعزله عن العرش.
ظهر في فلسطين في هذه الفترة يوسف ضياء الخالدي، وكذلك نجيب عازوري (1873-1916)، وأصدر عازوري في باريس وباللغة الفرنسية كتاب (يقظة الأمة العربية) سنة 1905، ونادى بنبذ الرابطة الدينية التي كانت تربط بين سكان الدولة العثمانية، ودعا إلى إحلال الرابطة الوطنية بين العرب مسلمين ومسيحيين، لكن أفكار عازوري لم تنتشر بكثرة، لأنه نشر معظمها في باريس وباللغة الفرنسية.
أحكم رجال الاتحاد والترقي قبضتهم بعد عبد الحميد الثاني، واعتقدوا أن مركزية الحكم ستكفل وحدة أراضي الدولة، وكذلك فرضوا اللغة التركية على المدارس والمحاكم، واستبدلوا كثيراً من الموظفين القدامى، وعينوا بدلاً منهم أتراكاً من أنصار الاتحاد والترقي، خابت الآمال التي علقها أنصار الدستور والإصلاح على سياسة الاتحاد والترقي، وبدأ الاحتجاج يظهر على لسان أعضاء البرلمان العرب، وكذلك من خلال تشكيل جمعيات سرية مثل: (العربية الفتاة)، و(القحطانية)، و (اللامركزية)، و(العهد) وغيرها.
شارك الفلسطينيون الذين عاشوا في العواصم العربية في تلك الجمعيات، ويقلل الكتاب والمؤرخون الإسرائيليون من أهمية مشاركة الفلسطينيين في تلك الجمعيات، لكن الكاتبة والمؤرخة المعروفة بيان نويهض الحوت، تذكر أن نسبة الفلسطينيين كانت أكبر من حصتهم الديمغرافية من مجموع سكان العراق وبلاد الشام.
وارتفعت الأصوات الناقدة لسياسة التتريك، وألف النواب من مختلف أقاليم المشرق العربي كتلة نيابية دافعت عن حقوق العرب، وانتقدت سياسة التتريك، وكان من بينهم النواب الفلسطينيين، وحكمت المحاكم التركية على حافظ السعيد بالإعدام سنة 1915 بسبب معارضته، لكن بسبب كبر سنه تم تحفيف الحكم إلى المؤبد، لكنه مات في السجن بعد سنة من اعتقاله.
مثّل فلسطين في انتخابات البرلمان العثماني سنة 1912 من القدس روحي الخالدي، وعثمان النشاشيبي، ومن غزة أحمد عارف الحسيني، ومن نابلس حافظ طوقان، ومن عكا أسعد الشقيري، وركز نواب هذه الدورة على الأخطار التي تتهدد فلسطين من استمرار الهجرة الصهيونية، وتجدر الإشارة إلى أن أحمد عارف الحسيني أُعدم في يناير 1917 بتهمة علاقته مع الثورة العربية، هو وابنه مصطفى، ودُفنا في القدس.
الهجرة الصهيونية الثانية والهوية الفلسطينية
بعد وفاة هرتسل 1904 هاجر مئات الآلاف من اليهود الروس إلى أمريكا، بينما وصل فلسطين منهم 35-40 ألفاً، ثم ترك قسم كبير من هؤلاء البلد بسبب الأوضا المعيشية الصعبة، لكن أفراد هذه الموجة من المهاجرين وضعوا أسس الدولة الصهيونية، فمن بينهم ظهرت أبرز القيادات الصهيونية مثل دافيد بن غوريون، وليفي أشكول وغيرهم، وهم الذين أسسوا الأحزاب العمالية، وتمكنوا من رفع عدد المستوطنات إلى 40 مستعمرة عام 1914، وعلى أيديهم تم إنشاء الكيبوتسات (المستوطنات التعاونية)، وتم بناء مدينة تل أبيب في الفترة بين 1909-1919، وتأسس معهد التخنيون الهندسي في حيفا سنة 1913، ووُضع حجر الأساس للجامعة العبرية في القدس سنة 1918، وتأسس الهستدروت (نقابة العمل) سنة 1920، وتأسست منظمة هشومير هتسعير (الحارس الشاب).
لقد استبشر الصهاينة خيراً بزوال النظام الحميدي، لكن الاتحاديين من الناحية الرسمية لم يغيروا مواقفهم، لأنهم كانوا مهتمين بوحدة أراضي الإمبراطورية، ومركزية الحكم، لكن الضغوط الأوروبية من جهة، وفساد الجهاز الإداري من جهة أخرى، أديا إلى تسرب المهاجرين، وكذلك إلى حدوث صفقات بيع أراضي للمؤسسات الصهيونية.
بعد سنة 1908 شهد الموقف العربي تحولات حيث أُقيمت التنظيمات السياسية في المدن الفلسطينية، واحتلت الصحافة مكانة الصدارة في محاربة النشاطات الصهيونية، وأدى النواب العرب دوراً هاماً في البرلمان ضد الهجرة والاستيطان، واتسعت في هذه المرحلة حركة المعارضة للصهيونية، وتصاعدت في المدن، ولعبت الصحافة –الكرمل في حيفا، وفلسطين في يافا- دوراً هاماً في محاربة الصهيونية، وشهد الريف صدامات بين الفلاحين والمستوطنين.
وقام بعض ملاك الأراضي من الغائبين من عائلات سُرسق والتيان ببيع أراضيهم للصهاينة، خاصة شركة (يكا) في منطقة طبرية، وعندما حاولت جمعيات الاستيطان إقامة مستوطنات على تلك الأراضي تصدى لها الفلاحون الفلسطينيون، وحدثت صدامات، ودعاوى قضائية في المحاكم، ووقف الأمير أمين أرسلان قائمقام طبرية إلى جانب الفلاحين، لكن رغم ذلك تم تسجيل هذه الأراضي باسم جمعيات الاستيطان في بيروت بدعم من واليها التركي رشدي بك، واُقيمت مجموعة من المستوطنات في تلك المنطقة، وعلى الأثر بقيت العلاقة متوترة بين الفلسطينيين وبين المستوطنين.
حدث الصراع الثاني عندما باع أفراد من عائلة سُرسق 9515 دونماً من أرض قرية الفولة قرب العفولة سنة 1910 لشركات الاستيطان، ورغم تسجيل هذه الأراضي للشركات الاستيطانية بمساعدة والي بيروت إلا أن الفلاحين اعترضوا وتصادموا مع المستوطنين، ووقف إلى جوارهم شكري العسلي قائمقام الناصرة، الذي كتب مقالاً لصحيفة المقتبس الدمشقية المعارضة للاتحاد والترقي، لكن السلطات العثمانية تدخلت وأجلت الفلاحين عن أراضيهم، وحاول شكري العسلي إبطال هذا المشروع من خلال الادعاء أن هذه الأراضي قريبة من سكة حديد الحجاز (خط درعا إلى حيفا)، لكن الحكومة عزلته من منصبه سنة 1911.
لقد وضعت سياسات الاتحاد والترقي الأتراك على مسار الصدام، لكنها لم تصل نقطة الانفجار، ويعود السبب في ذلك إلى إيثار العرب الرابطة الإسلامية والمظلة العثمانية على الوقوع تحت احتلال الدول الأوروبية.
وقد واجه أبناء فلسطين معضلة الاختيار بين الولاءات المتعددة، وانقسموا مثل بقية إخوانهم في المشرق العربي بين اتجاهات العثمانية والحركة العربية، والرابطة الإسلامية، لكنهم توحدوا في النهاية لمواجهة المشروع الصهيوني، وظلت الصدامات المسلحة بين العرب واليهود في المستعمرات الزراعية محدودة العدد والنتائج عشية الحرب العالمية الأولى، لكنها كانت البداية الحقيقية للصراع القومي بشأن مستقبل فلسطين.
فلسطين والحرب العالمية الأولى
استثمرت بريطانيا حالة التذمر في المشرق العربي من سياسة الأتراك، وشجعت على قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين وأولاده في الحجاز، وكان جمال باشا قد بدأ في صيف 1915 حملة قمع وتنكيل بأعضاء الجمعيات العربية، وأعدم العشرات، وألقى أعداداً كبيرة في السجون.
وعلى خلفية فشل العثمانيين في الحرب، إضافة إلى القمع والتنكيل، فقد ضُربت الرابطة الإسلامية والوحدة العثمانية، وصعد نجم القومية العربية بعد تشكيل حكومة فيصل في دمشق.
لقد تضررت المدن والأرياف الفلسطينية بسبب الحرب، وحدث الضرر في الأموال والأرواح وعلى صعيد قطع الأحراش والأشجار المثمرة، وحدثت كوارث طبيعية في العام 1915-1916، مثل غزو الجراد، وانتشرت مجموعة من الأوبئة مثل الكوليرا والتيفوس والتيفوئيد.
وتم احتلال فلسطين في النهاية من قبل الجيش البريطاني.
السياسة التركية والقضية العربية
ورغم القمع الشديد الذي راح ضحيته العشرات إعداماً، والمئات سجناً ونفياً، فإن أبناء النخبة السياسية في فلسطين ظلوا في أغلبيتهم العظمة مؤيدين للعثمانيين خلال سنوات الحرب.
وقد نظّم جمال باشا بعثة علمية من العلماء والأدباء في شهر سبتمبر 1915 ضمت عدداً من الشخصيات الفلسطينية يرأسهم الشيخ أسعد الشقيري الذي حافظ –عكس آخرين من النواب الفلسطينيين- على علاقات حميمية برجال الاتحاد والترقي، ونشط في الدعاية ضد الحركة العربية ورجالها، وخصوصاً في انتخابات 1912.
وبعد أن نشبت الحرب تم تعيين الشيخ أسعد الشقيري مفتياً للجيش العثماني الرابع، واشتُتبه أن له ضلعاً في أحكام الإعدام التي صدرت ونُفّذت في بيروت ودمشق، وقد أصبحت علاقة الشقيري مع الأتراك وصمة وتُهمة وُجهت إليه في الصحافة الفلسطينية.
الحرب وويلاتها في فلسطين:
احتلت القوات البريطانية رفح في شهر فبراير1917، ثم دخلت ختنيونس دون مقاومة كبيرة، وطلب الأتراك من أهالي غزة مغادرة المدينة، حتى يستطيع الجيش الدفاع عن المدينة، ثم هاجم البريطانيون غزة براً وبحراً في أواخر شهر مارس 1917، لكنهم فشلوا وتكبدوا الآلاف من القتلى والجرحى، ثم هاجم البريطانيون غزة في الشهر التالي لكنهم خسروا، ورغم هذه الانتصارات فإن معنويات الجيش العثماني كانت تتدهور بسرعة، وكانت أخبار ثورة الشريف حسين، وتقدم قواته إلى العقبة قد وصلت فلسطين، فأخذا العشرات من الجنود العرب يفرون من الجيش التركي، وينضمون إلى الثورة العربية.
بعد فشل الهجوم البريطاني، تسلم إدموند ألنبي قيادة الجيش البريطاني في مصر مع صلاحيات واسعة إضافة إلى تعزيزات عسكرية كبيرة، وفي المقابل تدهورت أوضاع الجيش العثماني، وبلغ الأمر حد الجوع والمرض، وقرر ألنبي في أكتوبر 1917 احتل السبع أولاً، وتم له ذلك دون مقاومة تُذكر، ثم بدأ الزحف على غزة أوائل الشهر التالي، وتم احتلال المدينة بتاريخ 7-11-1917، وتم هدم ثلث مباني غزة تحت ضربات المدافع البريطانية، ثم توجه الجيش البريطاني شمالاً، واحتل يافا في نفس الشهر، والقدس في الشهر الذي يليه، واستمرت الأعمال الحربية حتى أواخر سنة 1918.
فلسطين منذ وعد بلفور حتى قيام دولة الإحتلال
تصريح بلفور:
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914م كانت الإنجازات الصهيونية على صعيد بناء المؤسسات و إقامة المستوطنات ، و تجنيد يهود العالم لصالح الفكرة ، أقل بكثير مما تتطلبه إقامة دولة اليهود.
و كانت هناك تيارات يهودية مهمة تعارض الصهيونية، و ترجع أسباب هذه المعارضة إلى مناقضة الصهيونية للدين( من وجهة نظرهم)، أو لقناعتهم بأن الاندماج هو الحل.
و الهجرة اليهودية من شرق أوروبا كانت تتجه نحو الغرب ، و لم يكن عدد اليهود في فلسطين0.5% من يهود العالم.
و لم تكن الحركة الصهيونية قد وجدت الدولة الاستعمارية التي تتبنى المشروع الصهيوني.
و يضاف إلى ما تقدم أن برنامج الاستيطان الصهيوني في فلسطين أخذ يصطدم بيقظة عربية.
و عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كانت قيادة المنظمة الصهيونية في ألمانيا ، و اضطرت للخروج من ألمانيا و إعلان موقف حيادي في الحرب.و حتى هذا الوقت لم تكن الحركة الصهيونية قد وجدت الدولة الاستعمارية التي ترعى المشروع الصهيوني.
تجدر الإشارة إلى أن بريطانيا أخذت تفكر في مستقبل فلسطين مع أطراف عديدة، ويتجلى ذلك في وثائق ثلاث: الأولى هي مراسلات حسين مكماهون التي فهم الشريف حسين من خلالها أن فلسطين ضمن الدولة العربية التي وعدته بريطانيا بالمساعدة على تأسيسها، بينما كانت بريطانيا تستهدف استثناء فلسطين من الدولة العربية المقصودة في المراسلات.
والوثيقة الثانية هي اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا والتي اعتبرت أن فلسطين يجب أن تكون منطقة خاضعة لإدارة دولية. والوثيقة الثالثة هي وعد بلفور.
لماذا أصدرت بريطانيا تصريح بلفور؟
عندما اندلعت الحرب العالمية ، طُرح موضوع تقسيم تركة الرجل المريض على بساط البحث.
و كانت فكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين مطروحة على العقل البريطاني منذ فترة طويلة من الزمن لأاسباب دينية و استراتيجية ، و مع الوقت أخذت تترسخ أهمية فلسطين الاستراتيجية في المخطط البريطاني لأنها:
1- تقع على طريق المواصلات للمستعمرات.
2- للسيطرة على سواحل البحر الأبيض المتوسط و الأحمر.
3- تؤمن حماية الوجود البريطاني في مصر حيث قناة السويس أهم ممر مائي في العالم.
4- ستكون دولة اليهود في فلسطين موالية لبريطانيا ،و تشطر الوطن العربي و تمنع وحدته.
مذكرة هربرت صموئيل:
بسبب ادراكه للأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها فلسطين ، كتب الوزير البريطاني اليهودي هربرت صموئيل عام 1915م مذكرة للحكومة البريطانية (التي كان يرأسها أسكويث).
و تضمنت المذكرة جملة من الأفكار المهمة:
1- تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا.
2- هذه الدولة ستكون مفيدة لبريطانيا لأنها ستبعد فلسطين عن السيطرة الفرنسية ، و التواجد الفرنسي قرب قناة السويس يشكل خطرا على طرق المواصلات للامبراطورية البريطانية.
3- كما أن فكرة تدويل فلسطين خطرة لأنها قد تكون خطوة تمهيدية لسيطرة ألمانيا على فلسطين.
4- و لهذا طالبت المذكرة بريطانيا بتقديم التسهيلات للمنظمات اليهودية لشراء الأراضي و بناء المستعمرات ، و تسهيل الهجرة لكي يصبح اليهود أكثرية.
رفضت حكومة أسكويث هذه المذكرة ، لأنها كانت ترى أن مصلحة بريطانيا يمكن أن تتحقق من خلال التنسيق مع العرب.( و كانت هذه الحكومة مشغولة بمراسلات حسين مكماهون). لكن عندما صعد إلى الحكم مجموعة من الصهاينة المسيحيين، حيث سقطت حكومة أسكويث ، و تولى رئاسة الوزراء بعده لويد جورج ،و كان وزير خارجيته بلفور ، و هم من الصهاينة المسيحيين ، فعندما صعدوا للحكم تبنوا مذكرة هربرت صموئيل.
و بدأت حكومة لويد جورج اتصالات مع وايزمان في شباط 1917م ،و ذلك لوضع صيغة رسمية لبيان تعلن فيه بريطانيا تأييدها لإقامة دولة لليهود في فلسطين.
و كان يهود بريطانيا المندمجين أشد المعارضين لصدور هذا الوعد أو التصريح لأنهم كانوا يخشون أن تضر هذه الدولة بأوضاعهم و حقوقهم في الدول التي يعيشون فيها.
و بعد مفاوضات و أخذ و رد صدر وعد بلفور في 2/11/1917م بصيغته المعروفة والتي تتضمن النقاط التالية :
1- وجه بلفور الوعد باسم حكومته إلى اللورد روتشيلد ، و ليس إلى منظمة أو جهة رسمية.
2- الوعد يظهر تعاطف بريطانيا مع تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين.
3- أن بريطانيا تعد بتسهيل تحقيق هذه الغاية.
4- اعتبر الوعد أن سكان فلسطين أصحاب الأرض الأصليين طوائف ،ووعد أن لا تُمس حقوقها المدنية و الدينية.
5- تعهدت بريطانيا بمقتضى الوعد ألا تُمس الحقوق السياسية لليهود في البلاد الأخرى بعد تأسيس الوطن القومي لليهود.
تفنيد وعد بلفور:
1-   هذا الوعد هو تعاقد بين طرفين غريبين عن فلسطين أحدهما لا يملكها و الآخر لا يستحقها.
2-   هذا الوعد يتجاهل وجود الشعب الفلسطيني و يعتبره مجرد طوائف ليس لها حقوق سياسية على أرضها.
3-   هذا الوعد يتناقض مع التعهدات التي قطعتها بريطانيا للعرب بالاستقلال و الوحدة في مراسلات حسين مكماهون.
4-   عندما صدر هذا الوعد و بإقامة وطن قومي لليهود كانت نسبة اليهود في فلسطين 4% من السكان تملك 2% فقط من الأرض.
5-   منح الوعد اليهود حقًا سياسيًا في فلسطين ، و كذلك حقوق سياسية في كل مكان يتواجدون فيه.
6-   عبارة (وطن قومي) تستهدف الإيحاء بوجود صلة قومية بين اليهود و فلسطين ، و هذا مفهوم توراتي .
7-   صيغة الوعد ماكرة لأنه لا يمكن إقامة وطن قومي لليهود دون المساس بحقوق الشعب الفلسطيني.
ردة الفعل:
احتج الشريف حسين على وعد بلفور ، فأرسلت له بريطانيا رسائل رسمية طمأنته ن و قدمت له تعهدات بتحقيق حرية العرب و استقلالهم.
و في تلك الأثناء أعلن الرئيس الأمريكي ولسون مبادئه الأربعة عشر و التي أكد فيها أن التسوية بعد الحرب ستكون على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها.
و أصدرت بريطانيا و فرنسا عام 1918م بيانًا مشتركًا جاء فيه أن هدف الحرب هو تحرير الشعوب من نير الأتراك و حق السكان في إقامة حكومات وطنية.
لكن رغم التطمينات توالت الاحتجاجات في أوساط المتطوعين العرب في معسكرات الجيش و الفلسطينيون المنفيون و الجمعيات الإسلامية المسيحية.
بعد دراسة ما حدث إبان الحرب العالمية الأولى بشأن فلسطين سواء على صعيد مراسلات حسين مكماهون أو اتفاقية سايس بيكو و انتهاءً بوعد بلفور ، هل ترى أن ما حدث هو مؤامرة مُعدة مسبًا و يحركها طرف خفي من وراء ستار؟!!.
الاحتلال البريطاني لفلسطين
بدأ الاحتلال البريطاني لأجزاء من فلسطين في نهاية عام 1917 م ، و اكتمل في سبتمبر عام 1918م.
و كانت الحكومة البريطانية قد أرسلت في أبريل 1918م لجنة من الحركة الصهيونية ، يُطلق عليها اسم اللجنة الصهيونية.
و استهدفت هذه اللجنة إرساء الأسس الكفيلة بتطبيق وعد بلفور ، وقد لقيت هذه اللجنة مساعدة من الإدارة العسكرية للاحتلال ، وعقدت مؤتمر في يافا في ديسمبر عام 1918 تمهيدا لرفع مطالب الصهاينة إلى مؤتمر الصلح في باريس 1919م.
و بلور المجتمعون في المؤتمر الصهيوني مطلبهم من المؤتمر ، و تمثل في إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين و جنوب لبنان و سوريا و شرق نهر الأردن ،و ذلك لأن المناطق تحتوي على مصادر المياه التي تغذي نهر الأردن.
و على الأثر عقد الشباب العربي مؤتمرا في القدس طالبوا بالوحدة مع سوريا و الاستقلال و رفض الوصاية الأجنبية على العرب.
مؤتمر السلم أو الصلح
انعقد المؤتمر في باريس عام 1919م لتصفية مشاكل الحرب العالمية الأولى. و ناقش المؤتمر رسم خريطة جديدة للمنطقة خدمة للاستعمار. و بادر الشعب الفلسطيني بإرسال العرائض التي ترفض الصهيونية ، و تطالب بالاستقلال. و طالب رئيس الوفد العربي (الأمير فيصل) بدولة عربية مستقلة و موحدة، لكنه لم يصر أن تكون فلسطين جزءا من هذه الدولة .
و طالب الوفد الصهيوني بدولة تشمل فلسطين و شرق الأردن و جنوب لبنان و سوريا. و على ضوء ما تقدم نجد أن مصالح الأطراف المشاركة في المؤتمر متناقضة ، و لحل الخلاف اقترح الرئيس الأمريكي ولسون تشكيل لجنة تحقيق و استطلاع ، لكن بريطانيا و فرنسا رفضتا إرسال هذه اللجنة .
اقترح الرئيس الأمريكي ولسون تشكيل لجنة تحقيق و استطلاع ، لكن بريطانيا و فرنسا رفضتا إرسال هذه اللجنة. فأرسلت أمريكا لجنة أمريكية بحتى أطلق عليها اسم لجنة " كنج كرين" .
لجنة كنج كرين:
زارت اللجنة فلسطين و سوريا و التقت بممثلي العرب، و كذلك ممثلي الصهاينة. و كان العرب قد عقدوا " المؤتمر السوري العام " و أجمع المؤتمرون على رفض الصهيونية ، و المطالبة بالاستقلال العربي ، و الاحتجاج على المعاهدة السرية لتقسيم البلاد.
و توصلت اللجنة إلى الحقائق التالية في التقرير الذي قدمته للمؤتمر:

مقررات لجنة كنج كرين:
1-   العرب يرفضون إقامة وطن قومي لليهود.
2-   ادعاء الصهاينة بحقهم في فلسطين يستند إلى أنهم احتلوها قبل 2000 عام ، و هذا غير كافي لإثبات الحق.
3-   المشروع الصهيوني لا يُنفذ إلا بالقوة.
4-   هذا الموقف الرافض للصهيونية يشمل المسلمين و المسيحين في البلاد.
5-   وعد بلفور متناقض لأن إقامة الدولة اليهودية ينطوي على هضم حقوق الآخرين.
6-   المشروع الصهيوني يناقض مبدأ ولسون و لم يعره أي اهتمام.
لماذا تم إهمال تقرير لجنة كنج كرين؟!
أ‌-     لأن فرنسا و بريطانيا منذ البداية رفضتا اللجنة ذاتها.
ب‌- كان الرئيس الأمريكي ولسون مشغولا بخلافاته مع الكونجرس بشأن الانضمام إلى عصبة الأمم.
ج- شهدت تلك الفترة بداية الانخراط الأمريكي في  المصالح الاستعمارية التي تغلبت على مباديء ولسون.
لكن ولسون نفسه كان قد اعترف بوعد بلفور منذ البداية.
ميثاق عصبة الأمم و فكرة الانتداب:
أقر مؤتمر الصلح عصبة الأمم في 28/4/1919م.
و المادة 22 من الميثاق أقرت "نظام الانتداب باشراف عصبة الأمم المتحدة".
و نظام الانتداب هو شكل استعماري جديد تم اقتراحه كمخرج للتناقض بين حق تقرير المصير الذي أعلنه الحلفاء و بين المصالح الاستعمارية.
ووفقا للمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم فإن الانتداب على الدول العربية هو من الدرجة الأولى، أي يقتصر على ابداء المشورة.
و أقرت نفس المادة أن بعض المجتمعات التي كانت تابعة للامبراطوية العثمانية متطورة،  و يمكن الاعتراف بها كأممم مستقلة مع اسداء المشورة لها حتى تصبح قادرة على الاعتماد على ذاتها.
أن التوجه لفرض الانتداب مناقض لمراسلات حسين مكماهون التي اعترفت بريطانيا بموجبها باستقلال العرب.
و التوجه لفرض الانتداب مناقض لوتصيات و مقررات لجنة كنج كرين التي أعلنت صراحة أن شعوب المنطقة تتطلع للاستقلال و الوحدة و ترفض الوصاية الأجنبية.
الأجواء العامة التي اعقبت مؤتمر الصلح:
انعقد مؤتمر الصلح و انتهى في ظل توجه عالمي استعماري يتبنى المشروع الصهيوني و يتنكر للعرب.
و حدث بعد ذلك في مارس 1920 م اعلان استقلال سوريا و اعلان فيصل ملكا لها.
و كذلك فرضت بريطانيا و فرنسا في نفس السنة نظام الانتداب على الأقطار العربية.
و احتلت فرنسا بعد معركة ميلسون في يوليو 1920 م ، فرحل فيصل عن سوريا.
و أقدمت بريطانيا على تعيين هربرت صموئيل أول مندوب سامي على فلسطين في يوليو 1920م.
و اتسمت هذه المرحلة في فلسطين ببروز نشاط إسلامي مسيحي يرفض الهجرة اليهودية.
ثورة النبي موسى عليه السلام(أبريل 1920م في القدس)
و هي اول احداث دامية بين الطرفين حيث التقت الجماهير العربية باليهود في القدس ، و اشتبكت مع بعضها و وقعت خسائر في الطرفين، فتدخلت الشرطة البريطانية و قمعت المظاهرة.
لجنة بالين:
حققت هذه اللجنة و توصلت إلى أن أسباب الاضطراب هي:
1-   يأس العرب من تحقيق الوعود المقطوعة لهم بالحرية و الاستقلال.
2-   و أقر التقرير أن أغلب العرب يعتبرون بريطانيا عدو لهم رغم ان العنف تم توجيهه لليهود.
فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920- 1931):
تجاهلت الحكومة البريطانية تقرير لجنة بالين ، لكنها اعتمدت سياسة التضليل فبادرت إلى إلغاء الحكم العسكري ، و أعلنت قيام إدارة مدنية برئاسة هربرت صموئيل.
و كان هذا التعيين بمثابة تأكيد عملي على التزام الحكومة البريطانية بتنفيذ وعد بلفور ، لأن هربرت صموئيل هو صاحب المذكرة سابقة الذكر ، و المتعلقة باقامة دولة لليهود في فلسطين.
و قد بدأ صموئيل عمله هذا قبل عامين من موافقة عصبة الأمم المتحدة على صك الانتداب البريطاني على فلسطين.
خطوات صموئيل لمساعدة الحركة الصهيونية و تطبيق وعد بلفور:
1-   تعيين غلاة الصهاينة في المناصب الادارية الرفيعة مثل منصب النائب العام المكلف بوضع القوانين.
2-   حرص على أن يكون كبار المسؤولين في الحكومة المركزية و الادارات المحلية أدوات لتفيذ السياسة الصهيونية .
3-   أعلن اعتبار أن اللغة العبرية لغة رسمية إلى جانب اللغة الانجليزية و العربية.
4-   التعليم الصهيوني مستقل و تديره ادارة صهيونية. أما إدارة المعارف العربية فيديرها الانجليز.
5-   و أصدر عملات مكتوب عليها بثلاث لغات ، العبرية و العربية و الانجليزية.
6-   منحت الحكومة مساحات أرض واسعة لليهود. و أقفلت البنك الزراعي العثماني الذي كان يقرض الفلسطينين.
7-   فرض ضرائب باهظة على المواطنين لدفعهم لمغادرة الأرض و بيعها.
8-   فتح أبواب الهجرة أمام اليهود.
9-   عام 1921 م منح امتياز شركة توليد الكهرباء لليهودي روتنبرغ.
10-                     سن قوانين لحماية الصناعة اليهودية و اعفاء وارداتهم من الجمارك.
11-                     خفض الرسوم عما تستورده البلاد من بضائع ينتجها العرب محليا، و ذلك لضرب الصناعة الوطنية.
12-                     سمح للمنظمات و المؤسسات الصهيونية بالعمل بحرية كاملة في فلسطين ، و من أهم هذه المؤسسات :
أ‌-     الصندوق التأسيسي لفلسطين (كيرن هيسود) و مهمته جمع التبرعات من يهود العالم لتمويل الاستيطان.
ب‌-الاتحاد العام للعمال في اسرائيل (هستدروت) و هو نقابة العمال و مهمته توفير العمل لليهود و الدفاع عن حقوقهم.
تبلور الحركة الوطنية الفلسطينية:
تلقت الحركة الوطنية الفلسطينية صدمة كبيرة على أثر سقوط الحكم العربي المستقل في سوريا ، حيث قامت فرنسا باحتلال سوريا عام 1920م.
و على الاثر عقد المؤتمر الفلسطيني الثالث في أواخر عام 1921 ، و طالب المؤتمرون بإقامة حكومة وطنية مستقلة ، و انتخبت لجنة تنفيذية برئاسة موسى كاظم الحسيني.
و جاء و نستون تشرشل ، وزير المستعمرات البريطاني ألى فلسطين عام 1921 برفقة هربرت صموئيل ، و عندما طولب باقامة حكم ذاتي للشعب الفلسطيني قال: (إن أولادنا سيكونوا قد رحلوا عن الحياة قبل أن يقام مثل هذا الحكم).
و سارت تظاهرات في سائر أنحاء فلسطين احتجاجًا على هذه الزيارة.
ثورة يافا عام 1921م:
أدت النقمة من سياسة بريطانيا و استمرار الهجرة و استفزاز المشاعر العربية إلى نشوب ثورة عام 1/5/1921م . و كانت الشرارة قد اندلعت عندما لجأت مجموعة صهيونية ، مطاردة من مجموعة صهيونية أخرى ، إلى حي المنشية في مدينة يافا ، فتأججت المشاعر العربية.
و هجم الثائرون على مركز الهجرة الصهيوني في يافا ، و على بعض المستعمرات اليهودية.
و قد وقفت القوات العسكرية البريطانية و البوليس إلى جانب اليهود. و قد وقعت خسائر في الطرفين.
لجنة هايكرافت:
بادرت الحكومة البريطانية إلى تأليف لجنة للتحقيق في أسباب الاضطرابات برئاسة قاضي القضاة البريطاني توماس هايكرافت. و أصدرت اللجنة تقريرا متزنا أرجع أسباب الاضطرابات إلى:
1-   معارضة الفلسطينيين للصهيونية و لسياسة الحكومة البريطانية المنحازة بحيث أصبحت الصهيونية دولة داخل دولة.
2-   خشية الفلسطينيين من استيلاء الصهاينة على كل أراضي فلسطين.
3-   و بين التقرير تضامن كل الفلسطينيين ، مسلمين و مسيحيين ، في هذه المواقف.
المؤتمر الفلسطيني الرابع:
بعد ثورة يافا ، و تقرير لجنة هايكرافت عقد المؤتمر الفلسطيني الرابع عام 1921م في القدس.
أكد المؤتمر المطالب الوطنية برفض الهجرة اليهودية ووعد بلفور ، و أعلن تمسكه بالوحدة.
انتخب المؤتمر وفدا للسفر إلى بريطانيا لشرح الموقف الفلسطيني.
نجح الوفد في اقناع مجلس اللوردات في الحكومة باعادة النظر في سياستها ، لكن مجلس العموم صاحب الكلمة الفصل أقر سياسة الحكومة.
هبة القدس:
قبل أن يغادر الوفد المذكور اعلاه  إلى لندن ، و كان الفلسطينيون قد نظموا مظاهرة احتجاجية في ذكرى وعد بلفور ، و حدث احتكاك بين العرب و الصهاينة تحول إلى اشتباكات دامية.
تدخلت الشرطة البريطانية و أصدرت أحكام قاسية ضد العرب.
الكتاب الأبيض عام 1922:
بسبب التطورات سابقة الذكر من ثورات و تقارير لجان و نشاط للوفد الفلسطيني في بريطانيا أصدر ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني بيانا أطلق عليه اسم الكتاب الأبيض عام 1922 م. و تضمن هذا الكتاب النقاط التالية:
1-   فلسطين لن تكون يهودية بكاملها ، و لن تصل الأمور إلى حد إلغاء الوجود العربي في فلسطين.
2-   وعد بلفور يعني فقط إقامة وطن قومي لليهود على جزء من فلسطين.و هذا الوطن لا يعني دولة.
3-   أكد على ضرورة زيادة الهجرة اليهودية بشرط ألا تكون عبئا على اقتصاد البلاد.
4-   اللجنة الصهيونية لا تشارك في ادارة البلاد ، و ليس لها صلاحيات من هذا النوع.
5-   نص على تشكيل مجلس تشريعي كخطوة على طريق الحكم الذاتي.
يلاحظ أن صياغة البيان مراوغة و مضللة و تحاول أن ترضي العرب بتطمينات لا رصيد لها.و بناء عليه فقد رفض العرب الكتاب الأبيض.
صك الانتداب :
لم تأبه الحكومة البريطانية للاحتجاجات، و اكتفت باصدار الكتاب الأبيض لامتصاصها.
وواصلت مساعيها حتى تمكنت من عرض مشروع صك الانتداب على عصبة الأمم المتحدة.و اقراره في يوليو عام 1922م. لكنه لم ينفذ رسميا في فلسطين إلا في 9/1923م.
و باقرار صك الانتداب تحول المشروع الصهيوني من كونه مشروع بريطاني إلى مشروع دولي. و فيما يلي أهم بنود صك الانتداب:
1- تكليف الدولة المنتدبة بتطبيق وعد بلفور بما يعنيه من إقامة وطن قومي لليهود مع ضمان الحقوق المدنية الدينية للطوائف غير اليهودية.
2- منح "الوكالة اليهودية" حق تقديم الاستشارة للانتداب، و حق التعاون في الشئون الاقتصادية.
3- تتعهد سلطات الانتداب بتسهيل الهجرة اليهودية مع عدم الحاق الأذى بحقوق سكان البلاد.
4- منح الجنسية الفلسطينية للمهاجرين اليهود.
5- يسمح للوكالة اليهودية باستثمار مرافق البلاد الطبيعية بالعدل و الانصاف.
6- تعطى حقوق التشريع و الادارة للانتداب ، و كذلك العلاقات الخارجية.
7- تتولى حكومة الانتداب تنظيم القوات المسلحة الفلسطينية و المسئولية عنها.
و لدى تفنيد صك الانتداب يمكن أن ندرج كل ما ورد في تنفيذ تصريح بلفور ، لأن صك الانتداب تبنى تصريح بلفور ، و أضاف بعض التدابير لضمان تطبيق ذلك التصريح.
المجلس التشريعي عام 1922م:
تنفيذا لسياسة الكتاب الأبيض ، أصدرت حكومة الانتداب عام 1922م "دستور فلسطين" و يشتمل على :
1-   تشكيل مجلس تشريعي برئاسة المندوب السامي ، و يتألف المجلس من "موظف انجليزي بالتعيين ، ثم تجرى انتخابات ل(12) عضو ، منهم (8) مسلمين و (2) مسيحيين و (2) يهود ، و هذا يعني أن البريطانيين و اليهود اغلبية.
2-   يحظر على المجلس مخالفة سياسة الحكومة الهادفة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
3-   يملك المندوب السامي صلاحية الاعتراض على أي من القوانين ، كما يملك الحق في تعطيل عمل المجلس.
المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922:
رفض الفلسطينيون التاب الأبيض و الدستور و المجلس التشريعي.
و عقدوا المؤتمر الخامس في نابلس عام 1922م  أكدوا فيه على رفض المجلس التشريعي.
و قرر المؤتمر القيام بفعاليات احتجاج.
و رفض المؤتمر التعامل مع المشروعات الصهيونية.
و على الأثر ألغى الانتداب الانتخابات ، و عين مجلسًا استشاريًا لكن الأعضاء العرب في هذا المجلس استقالوا بسرعة.
المؤتمر الفلسطيني السادس في 6/3/1923م:
و على الاثر عقد الفلسطينيون المؤتمر السادس في يافا 6/1923م.
و أكد المؤتمرون على ثبات الموقف السياسي الفلسطيني في يافا في 6/1923م.
و أكد المؤتمرون على ثبات الموقف السياسي و رفض كل محاولات التجزأة و التفتيت لهذه المواقف.

وقعت في 3/1924 مواجهات يافا خلال احتفال اليهود بعيد المساخر(بوريم)، و أسفرت المواجهات عن سقوط عدد من القتلى و الجرحى.
و مع الوقت كانت مشاعر الفلسطينيين تزداد غضبا من سياسة الانتداب ، و لما زار بلفور فلسطين عام 1925م للمشاركة في في احتفال الجامعة العبرية في القدس المقامة على أرض عربية انتُزعت بالقوة من اصحابها.
و لهذا أضرب الفلسطينيون احتجاجًا على الزيارة و قاطعوا بلفور ، و عندما زار بلفور دمشق تظاهر السوريون و حدثت اشتباكات مع قوات الأمن كادت تفتك ببلفور فجرى تهريبه إلى بيروت و من هناك سافر إلى بريطانيا.
و شهدت نهاية العقد الثاني من القرن العشرين تطورًا مهمًا للكفاح الفلسطيني و فيما يلي توضيح لهذا التطور.
ثورة البراق( أسبابها ، و وقائعها ، و نتائجها):
منذ الفتح الإسلامي لفلسطين و حائط البراق هو جزء من الوقف الإسلامي.
لكن اليهود يعتقدون أن هذا الحائط هو الجدار الغربي لهيكلهم القديم ، و يطلقون عليه اسم الحائط الغربي.
في سبتمبر عام 1928م ( في عيد الغفران) وضعوا أدوات جديدة و ستائر بجوار الحائط ، و نفخوا في الأبواق ، و بهذا أرادوا فرض سياسة الأمر الواقع.
فأثارت هذه التصرفات مشاعر المسلمين.
و بتاريخ 14/8/1929 خرجت مسيرة صهيونية عنيفة نحو البراق و هتفت " الحائط حائطنا".
و بعد يومين تصادف يوم الجمعة و ذكرى المولد النبوي الشريف، فخرج المسلمون في مسيرة حاشدة.
و حدثت صدامات مع اليهود، و امتدت الاشتباكات إلى عدد من المدن الفلسطينية.
و استبسل الشباب في اقتحام المستوطنات الصهيونية.
لكن الشرطة و الجيش البريطاني كانا يساندان اليهود ضد العرب.
و أصدرت المحاكم البريطانية في فلسطين لمناسبة ثورة البراق حكما بالإعدام على 20 عربي، و أعدمت منهم 3 أبطال هم فؤاد حجازي ، و محمد جمجوم ، و عطا الزير عام 1930 م في سجن عكا.
المؤتمر النسائي عام 1929م :
و عقد مؤتمر نسائي في القدس عام 1929 م ، أكد على المطالب الوطنية، كما دعا المؤتمر الى مقاطعة المنتجات الاقتصادية الصهيونية، و مقاطعة شركة الكهرباء الصهيونية.
و بدأ الطلاب يشاركون بفعالية في الكفاح الفلسطيني.
كما بدأت تتشكل مجموعات فدائية تقوم بتنفيذ عمليات ضد الموظفين البريطانيين و الصهاينة.
و كل هذه أساليب جديدة في الكفاح لم تكن معهودة من قبل.
تقرير لجنة شو:
1-   سببت الاضطرابات المباشرة هو استفزاز اليهود للمسلمين فيما يتعلق بحائط البراق.
2-   العرب يشعرون بالعداء ضد اليهود بسبب خيبة أملهم السياسية و الخوف على مستقبلهم الاقتصادي.
3-   العرب متحدون في مواقفهم ضد الهجرة و الاستيطان ، و ضد مشروع الوطن القومي اليهودي.
4-   شعور العرب بالعجز في الحصول على الحكم الذاتي يزيد من المشاكل في وجه ادارة البلاد، و كان هذا الأمر أحد أسباب الاضطرابات الأخيرة.
5-   أوصت اللجنة الحكومة البريطانية أن تصدر تفسيرا لسياستها في فلسطين أكثر وضوحا مما ورد في الكتاب الأبيض عام 1922 فيما يتعلق بوعد بلفور.
6-   إذا أرادت بريطانيا منع تكرار الثورة يجب عليها إعادة النظر في سياستها تجاه الهجرة و الأراضي.
7-   البلاد لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من المهاجرين ، و لهذا يجب حماية المزارعين الفلسطينيين حتى لا تتكرر الثورة.
8-   دعت اللجنة لإرسال لجنة مختصة لدراسة أوضاع حائط البراق من الناحية القانونية.
الوفد العربي إلى لندن عام 1930:
بعد صدور تقرير لجنة شو، قررت اللجنة التنفيذية إرسال وفد إلى لندن، و اتصل الوفد برئيس وزراء بريطانيا رمزي ماكدونالد و قدم اليه مذكرة بالمطالب الآتية:
1-   منع بيع الأراضي لليهود.
2-   وقف الهجرة الصهيونية.
3-   إعادة تأسيس البنك الزراعي العثماني.
4-   إقامة حكومة برلمانية.
تقرير لجنة سمبسون1930م:
يتكون التقرير من النقاط التالية:
1-   الأراضي الصالحة للزراعة في فلسطين حوالي 6.5 مليون دونم ، سيطر الصهاينة على 14% منها.
2-   و نتيجة لانتقال الأراضي أصبح حوالي 30% من العائلات العربية بدون أرض و لا عمل.
3-   الأراضي الصالحة للزراعة التي يمتلكها العرب أصبحت غير كافية لضمان معيشتهم ،و المحافظة على مستواها.
4-   الصهاينة يمنعون العرب من العمل في الأراضي التابعة للمؤسسات الصهيونية.
5-   الفلاح العربي محروم مما هو متاح للمزارع اليهودي من مساعدت ، إضافة الى تزايد أعداد الفلاحين و نقص أراضيهم، و ازدياد الديون و الضرائب عليهم.
6-   ازدياد الديون و الضرائب دفع العديد من الفلاحين لبيع أراضيهم.
7-   على سلطة الانتداب اتخاذ سياسة أشد حزما ، و العمل على احداث نهضة زراعية تؤدي لاستقرار العرب.
8-   على سلطات الانتداب تشديد الرقابة لمنع الهجرة غير المشروعة .
9-   من الخطأ الاعتقاد أن الصهاينة أكثر رقيا من العرب في الزراعة، و العكس صحيح لأن منطقة مرج بن عامر تضاءل انتاجها الزراعي بعد انتقال ملكيته من العرب الى الصهاينة .
لجنة البراق الدولية:
أرسلت عصبة الأمم المتحدة لجنة دولية لتقصي الحقائق، و قدم إلى فلسطين خبراء من العالم الاسلامي.
وضع هؤلاء الخبراء الوثائق التي أثبتت أن الحائط وقف اسلامي ، و تبنت اللجنة في تقريرها هذه الحقيقة.
الكتاب الأبيض عام 1930:
بناء على توصيات لجنة شو و تقرير سمبسون أصدرت الحكومة البريطانية على لسان وزير المستعمرات لورد باسفيلد بيانا يوضح سياستها في فلسطين، و تضمن التقرير النقاط التالية:
1-   التزام بريطانيا بتسهيل إقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين، مع المحافظة على حقوق الطوائف غير اليهودية.
2-   وجوب تنظيم الهجرة على أساس مقدرة البلاد الاقتصادية.
3-   ترفض الحكومة أي تطوير دستوري إذا كان منافيا لصك الانتداب.
4-   يجب على بريطانيا أن تتكفل بعدم إلحاق الضرر و الحيف بالعرب نتيجة لتأييدها للصهاينة.
5-   ضرور ة الالتزام بالقرانين فيما يتعلق بالهجرة، و منع التهريب على الحدود.
6-   يجب الحد من تدخل الهستدروت في تنظيم الهجرة الصهيونية.
7-   في حال تسبب الهجرة بحرمان العرب من الحصول على أرزاقهم، فيجب تخفيفها أو وقفها عند الضرورة ريثما يتسنى ايجاد عمل للعاطلين.
رفض الصهاينة الكتاب الأبيض ، و استقال وايزمان من رئاسة اللجنة الصهيونية.
و لحق به بعض الساسة البريطانيين. و شنوا جميعا حملة إعلامية شجبوا خلالها هذا الكتاب.
و ما أسرع ما أثرت هذه الحملة في الحكومة البريطانية ، و على الأثر وجه رئيس الحكومة البريطانية رسالة لوايزمان أطلق عليها العرب اسم " الكتاب الأسود".
الكتاب الاسود عام 1931م:
و بمقتضى هذا الكتاب تعهد ماكدونالد بـ :
1- إجراء تحقيق دقيق في موضوع الأراضي التي يمكن استعمالها للهجرة و الاستعمار.
2- من واجب حكومة بريطانيا تسهيل الاستيطان الصهيوني.
3- الحكومة البريطانية لن توقف الهجرة اليهودية الى فلسطين.
المؤتمر الاسلامي:
لما وقعت حادثة البراق تنبه الفلسطينيون للبعد الاسلامي، و دعوا لعقد مؤتمر اسلامي عام 1931 لاشراك عامة المسلمين في الدفاع عن المسجد الأقصى و فلسطين، و قد حضر هذا المؤتمر عدد كبير من العلماء و الشخصيات الاسلامية من كل العالم الاسلامي.
انتخب المؤتمر الحاج أمين الحسيني رئيسا، و أعلن المؤتمر القرارات التالية:
1-   البراق مكان مقدس للمسلمين.
2-   استنكار السياسة البريطانية الاستعمارية الصهيونية.
3-   انشاء جامعة اسلامية في القدس " جامعة المسجد الأقصى".
4-   استنكار السياسة البريطانية الاستعمارية الصهيونية.
المؤتمر العربي:
و في نفس السنة عقد ؤتمر عربي وضع ميثاقا قوميا ينص على وحدة البلاد العربية، و رفض التجزأة ، و رفض الاستعمار.
و كان هذا المؤتمر تجديدا لروح المقاومة العربية عامة، و قضية فلسطين بصفة خاصة.
فلسطين تحت الانتداب
(1931- 1939)

السياسة البريطانية:
عينت الحكومة البريطانية السير آرثر واكهوب مندوبا ساميا على فلسطين عام 1931م.
و قد سعد وايزمان كثيرا بهذا التعيين لأن واكهوب صهيونيا بارزًا.
و قد جاء واكهوب و معه تعليمات تؤكد على الالتزام بسياسة بريطانيا الرامية إلى تطبيق صك الانتداب.
حاول واكهوب في البداية ان يخدع الفلسطينيين بمعسول الكلام فأعلن أنه ينوي حفظ الأمن ، و تقديم المساعدة لكل السكان، و تنمية حسن النية بين السكان، و تقوية الثقة بين السكان العرب و الحكومة.
و بدأ اتصالاته بالوجهاء و زار المدن و اقام الولائم و ألغى بعض الضرائب.
لكن لم يهدأ الشعب و لم تنطل عليه هذه الأساليب خلافا لما حدث من قبل عندما جاء هربرت صموئيل ، و السبب في ذلك ان الشعب هذه المرة أصبحت المخاطر واضحة أمامه ، حيث سيطر الصهاينة على مليون دونم و أقاموا 110 مستوطنات ، و أصبح عدد المستوطنين في فلسطين 175 ألف ، و أصبح لهم مؤسسات و أحزاب و تنظيمات مسلحة ، و كل هذا حدث بمساعدة بريطانيا.
و خلال عقد الثلاثينات واصلت الحكومة البريطانية تقديم المساعدة للصهاينة في مختلف المجالات. فعلى صعيد المهاجرين كان يدخل فلسطين كل سنة عشرات الآلاف من اليهود.
أما بخصوص التسليح فقد تمادى اليهود فيه حيث اكتشفت بالصدفة في شهر 10/1935م شحنة ضخمة من الاسلحة و الذخائر آتية من لليهود من بلجيكا في براميل الاسمنت. و لم تفعل الحكومة البريطانية أي شيء لمصادرة هذه الأسلحة.
مرحلة جديدة من الكفاح:
بدأ الشعب الفلسطيني يستعد للتحرك رفضا لسياسة الانتداب، و قد تنوعت أساليب الكفاح في هذه المرحلة و اكتسبت سمات جديدة.
حزب الاستقلال:
بدات تتشكل الأحزاب و كان أولها حزب الاستقلال الذي تأسس عام 1932م.
أ‌-     دعا الحزب الى مكافحة الاستعمار و الصهيونية.
ب‌-محاربة الهجرة.
ج- محاربة بيع الأراضي.
د- و إقامة حكم برلماني عربي.
و في نفس السنة عقد مؤتمر للشباب الفلسطيني في يافا دعا إلى تجنيد الشباب لخدمة الحركة الوطنية.
و عقدت في المدن الفلسطينية اجتماعات شعبية من (1932م – 1933م) تعتبر أن الانجليز هم أصل الداء و تدعو لمقاطعتهم و مقاومتهم و تحدي قوانينهم.
و دعت اللجنة التنفيذية إلى تظاهرات في القدس في 13/10/1933م دون اذن من الانتداب ، و وقع صدام في هذه المظاهرة مع البوليس الانجليزي.
و في 27/10/1933م سارت مظاهرة أخرى في يافا، و حدث صدام و وقع فيها 30 شهيد، و قتل أحد أفراد البوليس. و كان ممن ضُرب بالعصي و أعقاب البنادق موسى كاظم الحسيني.
و امتدت التظاهرات في جميع أنحاء فلسطين، و رافقها اضراب عام استمر 7 أيام.
تُوفي موسى كاظم الحسيني على أثر الإصابة و انحلت بعده اللجنة التنفيذية و أخذت تتشكل أحزاب جديدة مثل :
1-   حزب الدفاع الوطني
2-   الحزب العربي الفلسطيني
3-   حزب الكتلة الوطنية
4-   حزب الاصلاح.

مؤتمر علماء فلسطين (يناير/1935):
عقد هذا المؤتمر برئاسة الحاج أمين الحسيني ، و بحضور 500 من القضاة و الوعاظ و الأئمة من جميع أنحاء فلسطين و قرر المؤتمر:
1-   تحريم بيع الأرض و حرمان هؤلاء البائعين من الدفن في مقابر المسلمين.
2-   إحاطة زعماء المسلمين و العرب علمًا بما يحدث في فلسطين ، و طلب معونتهم.
3-   مساعدة المشاريع الاقتصادية ، و تأسيس الشركات الوطنية، و حض الأهالي على تشجيع الصناعات الوطنية.
ثورة الشيخ عز الدين القسام :
تعتبر ثورة القسام ابرز و أهم تعبير عن التطور الكفاحي الذي حدث في الثلاثينات.
و الشيخ القسام سوري الأصل ، ولد في حبلة (قرب اللاذقية) عام 1871م و درس في الأزهر.
حكم عليه بالاعدام بسبب مشاركته في الثورة ضد الفرنسيين، فلجأ إلى حيفا عام 1920م.
عمل مدرسًا في المدرسة الإسلامية ، و رئيسا لجمعية الشبان المسلمين، و اماما و خطيبا لجامع الاستقلال.
و أخذ يحث الناس على الجهاد ضد البريطانيين و الصهاينة .
التف حوله المظلومون ، و كون منهم تنظيما سريًا ، و كانت التربة خصبة و مهيأة للمقاومة .
عمل على تربية أعضاء التنظيم روحيًا ، و تدريبهم عسكريًا.
أكد على البعد الاسلامي للقضية الفلسطينية، و دعا لمحاربة الحلف البريطاني الصهيوني.
و مع بداية عام 1935 بدأت العمليات العسكرية، و تم اغتيال ضباط انجليز.
و كذلك عمليات القسام منظمة و دقيقة و سرية.
و في 20/11/1935م استشهد الشيخ عز الدين القسام في أحراش يعبد.
و شُيع القسام في حيفا في تظاهرة وطنية كبيرة أعلنت عداءها للانجليز و للوطن القومي اليهودي.
من أهم ما يميز القسام أنه جمع بين العلم و العمل.
و بعد أن توفي القسام تزايدت الثورة اشتعالا.
الثورة العربية الكبرى 1936-1939:
تواصلت في هذه السياسة الفترة السياسة البريطانية الغاشمة ،و العدوان الصهيوني لم يتوقف، و كثرت الهجرة الصهيونية ، وتعرض الأهالي لأزمة اقتصادية خانقة.
و في هذه الأثناء تعاقد الاحتلال مع مقاول صهيوني لبناء 3 مدارس في يافا، فرفض تشغيل أي عامل عربي.
و بدأت أعمال المقاومة :
ففي 15/4/1936م قتل الثوار يهوديا على طريق نابلس طولكرم، فرد اليهود بقتل 3 قرويين في يافا.
و في 17/4/1936م حدثت اشتباكات فقتل 7 صهاينة و استشهد عربيان.
و في 20/4/1936م حدثت مظاهرة في يافا تصدت لها الشرطة فقتل شرطيين، و قتل 5 يهود على يد العرب.
و هنا أعلن الاحتلال حالة الطواريء.
بدأ الناس ينظمون أنفسهم، و أخذت أشكال التنظيم تتسع أفقيا لتشمل كل الوطن بمدنه و قراه، فتشكلت اللجان القومية في نابلس و حيفا و يافا و غزة.
ثم اجتمع ممثلو اللجان القومية و قادة الأحزاب السياسية في 25/4/1936م، و أعلنوا تشكيل "اللجان العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، و عضوية قادة الأحزاب السياسية، و ذلك لإدارة الأزمة بشكل جماعي ناجح.
و كانت نابلس قد بادرت في 20/4/1936م إلى الدعوة للاضراب العام المستمر حتى تبدل السلطات سياستها بشكل كامل، و عم الاضراب الشامل كل البلاد.
و هدد الاحتلال بالعقاب الجماعي.
و لحماية الاضراب و الاشراف على حسن سيره نظم الثوار "الحرس الوطني".
و أصدر الحرس الوطني بيانا اعتبر فيه أن الانجليز هم الأصل و اليهود هم الفرع في المشكلة.
سمحت سلطات الاحتلال البريطاني بدخول 4500 مهاجر يهودي بتاريخ 18/5/1936م.
و على الاثر اشتد الهجوم على المستعمرات ، و كثرت عمليات تدمير خطوط السكك الحديدية و الجسور و اقتحام المخافر.
و قدمت إلى فلسطين قوات من المتطوعين من سوريا و لبنان و العراق و برز من بين قادة المتطوعين فوزي القاوقجي. و من أشهر شهداء المتطوعين القائد السوري سعيد العاص.
الاجراءات البريطانية لإنهاء الثورة:
استخدم الاحتلال اجراءات قمعية و أخرى سياسية لإنهاء الثورة.
أ‌-     الإجراءات القمعية:
1-   فرض حظر التجول الليلي.
2-   تشغيل المحاكم العسكرية و فتح السجون.
3-   مداهمات القرى و نسف المنازل.
4-   تكثيف الاعتقالات  بتهمة مساعدة الثوار.
5-   نسف أجزاء من الحي العربي القديم في يافا بحجة فتح شارع لتطوير الحي.
6-   إصدار حكم الإعدام على كل من يحوز السلاح.
ب‌- الإجراءات السياسية لإنهاء الثورة:
1-   اتصلت الحكومة البريطانية بملوك العرب  مبدية استعدادها للنظر في المطالب العربية عندما يعود الهدوء.
2-   جرت اتصالات بين ملوك العرب و اللجنة العربية العليا أسفرت عن إصدار ملوك السعودية و العراق و اليمن و أمير شرق الأردن نداء بنص واحد طالبوا فيه الفلسطينيين بوقف الإضراب ، و واعدين بتقديم المساعدة لتحقيق المطالب الفلسطينية.
3-   و بعد مشاورات داخلية أعلنت اللجنة العربية العليا حل الإضراب ووقف الأعمال العسكرية في 12/10/1936م.
4-   و في فترة الإضراب سقط حوالي 1000 شهيد فلسطيني  حسب الإحصائيات الفلسطينية، بينما البريطانيون يقولون أن العدد 200 فقط.
اللجنة الملكية( لجنة بيل) و مشروع التقسيم 1937م:
شكلت بريطانيا لجنة للتحقيق برئاسة اللورد بيل في شهر 11/ 1936م.
لكن وزير المستعمرات البريطاني أعلن أنه لا وقف للهجرة اليهودية قبل أن تصل اللجنة إلى فلسطين.
و لهذا قاطع الفلسطينيون اللجنة، و لم يلتقوا بها إلا في الأيام الأخيرة بسبب الإنقسام الداخلي، و كذلك بسبب ضغط الحكام العرب.
أصدرت اللجنة تقريرا يتضمن النقاط التالية:
1-   نصحت اللجنة بعدم إقامة حكومة ديموقراطية لأن هذا يعني سيطرة العرب عليها، و عدم إقامة وطن قومي لليهود. و هذا مخالف لصك الانتداب.
2-   يتعذر إجابة المطالب الصهيونية بزيادة الهجرة و تسهيل إنتقال الأراضي بسبب قوة الروح القومية العربية.
3-   و لهذا اقترحت اللجنة إلغاء الانتداب ، و استبداله بتقسيم الأراضي.
4-   حدود الدولة اليهودية حسب لجنة بيل، من حدود لبنان شمالا إلى جنوب يافا، و تشمل عكا و حيفا و صفد و طبريا و الناصرة ، و ترتبط بمعاهدة صداقة مع بريطانيا.
5-   الاماكن المقدسة ( القدس و بيت لحم و ممر يصلهما بيافا مشتملا على اللد و الرملة) تبقى تحت الانتداب.
6-   تضم الأراضي الفلسطينية الأخرى ( الجنوب و الشرق) إلى شرق الأردن، و ترتبط بمعاهدة صداقة و تحالف مع بريطانيا.
7-   يتم تبادل السكان بين الدولتين  العربية و اليهودية بشكل تدريجي، و قسرًا إن لزم الأمر. و يًمنح العرب أراض في منطقة بئر السبع بعد مشاريع للري.
8-   تُعقد معاهدة جمركية بين الدولتين لتوحيد الضرائب.
9-   أكد التقرير على وحدة المسلمين و المسيحيين في الموقف.
10-   أوصت اللجنة بوضع حد أعلى للهجرة اليهودية.
11-   ألف مهاجر في السنة مع مراعاة قدرة البلاد الاقتصادية.
وقفة مع تقرير لجنة بيل:
أ‌-     يلاحظ أن الدولة اليهودية المقترحة يسكنها حوالي 325 ألف عربي يملكون حوالي 3 مليون دونم .في مقابل 300 ألف يهودي يملكون حوالي 2 مليون دونم.
ب‌-و يلاحظ ايضا أن 8/7 ما يملكه العرب من بساتين البرتقال في فلسطين كلها يقع ضمن الدول اليهودية المقترحة .
ج- و كذلك فإن الدولة اليهودية المقترحة تشمل أهم المدن الفلسطينية مثل يافا و حيفا و عكا و صفد و طبريا.
د- عدد اليهود في القسم العربي كان 1250 يهودي فقط. و معنى تبادل السكان أن يتم هذا بين 325 ألف عربي في الدولة اليهودية و 1250 يهودي في الدولة العربية.
هـ- معظم مخزون المياه الجوفية في فلسطين يقع في الدولة اليهودية.
الفلسطينيون يرفضون التقرير و يجددون الثورة:
بعد تقرير لجنة بيل هب أهالي فلسطين ، و تواصل العمل الفدائي حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
هرب المفتي إلى لبنان خوفا من الاعتقال.
شددت الحكومة على المحاكم الشرعية و اموال الأوقاف لمنع وصولها ليد المجاهدين.
و في شهر 9/1937م تم اغتيال حاكم لواء الجليل، فبدأ الإنجليز حملة فظيعة من الإرهاب و القتل و اعتقل الاحتلال عدد كبير من القيادات السياسية و نفتهم.
و حلت جميع الأحزاب السياسية و اللجان القومية و اللجان العربية العليا، و اعفت المفتي من جميع مناصبه.
و تم اعدام الشيخ فرحان السعدي و هو صائم في 27 رمضان ، و أعدم معه 148 مناضل.
و استدعى الاحتلال قوات عسكرية من بريطانيا و من مصر لمواجهة الثوار.
اتبع المجاهدون حرب العصابات و سيطروا على مدن عديدة كالقدس و الخليل.
و واصل الاحتلال سياسته القمعية و بلغ عدد المعتقلين 50 ألفًا ، و فرض حظر التجول.
و بلغ عدد البيوت المهدومة خمسة آلاف بيت.
و المحكومين بالمؤبد بلغ عددهم 2000 من الرجال و النساء، و الشهداء تجاوزوا 3 آلاف.
و قد شاركت الجماهير العربية في هذه الثورة بفعالية من حيث الامداد بالسلاح و المال و الدعاية السياسية، و المقاتلين، و كان من أبرزهم فوزي القاوقجي و سعيد العاص.
مؤتمر بلودان عام 1937م :
طالب الفلسطينيون الحكومة الاحتلالية بعقد مؤتمر عربي لدراسة الأوضاع بعد صدور تقرير لجنةبيل فرُفضت.
فعُقد المؤتمر في المصيف السوري (بلودان) في 8/10/1937م و قرر المؤتمرون ما يلي.
مقررات المؤتمر:
1-       فلسطين جزء لا يتجزأ من الأقطار العربية.
2-       رفض التقسيم،و رفض الدولة اليهودية.
3-       أبدت هذه اللجنة شكوكا إزاء إمكانية التقسيم حسب اقتراح لجنة بيل.
4-       و استعرضت هذه اللجنة 3 اقتراحات لكنها رفضت اثنين و رجحت الثالث الذي ينص على تقسيم فلسطين إلى اربعة أقسام:
1-   الدولة العربية: و تشتمل على معظم المناطق الداخلية إضافة إلى الساحل الجنوبي(يافا إلى غزة).
2-   الدولة اليهودية : و تشتمل على الساحل من شمال يافا إلى جنوب حيفا و ميناؤها تل أبيب.
3-   المنطقة الإنتدابية شمال فلسطين، إضافة إلى منطقة النقب.
4-   القدس: تقع ضمن المنطقة الإنتدابية بشكل دائم.
أدى صدور قرار التقسيم إلى تصاعد الثورة، و تصاعد معها القمع.
قرر الإحتلال منع لبس الكوفية و العقال، فالتزم أهل فلسطين بلبس الكوفية تضامنا مع الثوار و للتعمية عليهم.
مؤتمر لندن ( مؤتمر الطاولة المستديرة) عام 1939م:
أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستدعو إلى مؤتمر لندن يجمع العرب و الفلسطينيين و الصهاينة.
أصر الفلسطينيون على أن يمثلهم أعضاء اللجنة العربية العليا.
استجابت الحكومة البريطانية و أعادت المنفيين ، و اجتمعت اللجنة العربية العليا في لبنان حيث يقيم الحاج أمين الحسيني و حددوا مطالب الشعب الفلسطيني و اعضاء الوفد.
مطالب الوفد الفلسطيني:
1-   الإعتراف بحق الفلسطينيين بالاستقلال.
2-   انهاء فكرة تأسيس وطن قومي لليهود.
3-   إلغاء الغنتداب البريطاني و جميع ترتيباته.
4-   وقف الهجرة و بيع الأراضي.
رفض الفلسطينيون مقابلة الصهاينة في الإجتماع. و لهذا تم ترتيب اجتماعات مع كل طرف على حدة.
المطالب الصهيونية:
أ‌-     تطبيق التقسيم استنادا لوعد بلفور و صك الإنتداب.
ب‌-فتح باب الهجرة.
ج- يجب العمل على جعل اليهود أكثرية في فلسطين.
د- دعم الوجود العسكري المنظم لليهود في فلسطين.
أسفرت المناقشات في لندن عن اقتراح الحكومة البريطانية لأسس تسوية للقضية الفلسطينية، و هي في جوهرها ما تضمنه الكتاب الأبيض عام 1939م.
لكن الفريقين رفضا هذه التسوية، فأكدت الحكومة انفضاض المؤتمر في 27/3/1939م.
و أعلنت أنها ستنفذ ما تراه ملائما و لو لم يقبله الطرفان.
الكتاب الأبيض عام 1939:
1-   ستعمل بريطانيا على إقامة دولة فلسطينية في فلسطين للعرب و اليهود.
2-   الإستقلال سيستند إلى مشاركة اليهود في الدولة.
3-   قبل الإستقلال يجب أن تسود فلسطين مرحلة حكم ذاتي انتقالية ، و اذا قتضت الضرورة تأجيل فترة الحكم الذاتي فسيتم ذلك.
4-   زيادة الهجرة سيتم إذا قبلها العرب.
5-   يملك المندوب السامي الحق في نقل الأراضي وفقا لما تتطور إليه أساليب تقدم الزراعة و الإنتاج.
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم