بسم الله الرحمن الرحيم*
اختلاف حال الأجيال ينشأ باختلاف أعمالهم وهو ما أسماه ابن خلدون(اختلاف نحلتهم في المعاش)
- وهو يقرر أن الإنسان اجتماعي بطبعه ويجتمع مع الآخرين للتعاون فيما بينهم للحصول على الضروري في حياتهم قبل أن يتدرجوا في الوصول إلى ما هم بحاجة إليه زائد على الضرورة ثم يصلون لمرحلة طلب ما هو كمالي بالنسبة لهم، وهو بذلك يقول أن الإنسان يسعى للحصول على الضروري ثم يحاول الحصول على ما يحتاجه دون ضرورة ملحة ثم يتطور للحصول على الكمالي في المرحلة الأخيرة.
- قسم التجمعات الإنسانية إلى قسمين بدو وحضر ثم قسم البدو إلى عدة أقسام حسب أعمالهم وما يتوفر بأيديهم فمنهم من يعمل بالفلاحة من غراسه وزراعة وهم سكان القرى والجبال واستقرارهم أكثر من ترحالهم (وهم عامة البربر والأعاجم).
ومنهم من يعمل برعي المواشي من غنم ومعز وبقر وهم رحالة غالبا خلف الماء والكلأ فالترحال أصلح لحالهم من الاستقرار ويطلق عليهم (الشاوية) حسب لفظ ابن خلدون لكنهم رغم ترحالهم لا يبتعدون كثيرا ويتوغلون في الصحاري لعدم وجود المراعي داخل القفار(مثل التركمان والترك والأكراد والصقالبة).
ومنهم من يعمل برعي الإبل وهم أكثر ترحالا وتوغلا في الصحاري والقفار لأن الإبل لا تستغني عن أشجار الصحاري ونباتها إلا أنهم يتقلبون في الشتاء من وسط الصحاري إلى أطرافها فِرارا من أذى البرد ولذلك هم أشد الناس توحشا وهم بالنسبة للحضر بمقام الوحش غير المقدور عليه(هؤلاء هم العرب ومثلهم رحالة البربر والأكراد والتركمان والترك بالمشرق)، إلا أن العرب أشد بداوة لأنهم مختصون بالإبل فقط أما البقية من بربر وأكراد وتركمان وترك فهؤلاء يرعون الماشية من بقر وشياه.
وهؤلاء من زُرّاع ورعاة تجبرهم طبيعة أعمالهم أن يكونوا بالبادية لاتساعها للزراعة والرعي وهو مالا تتسع له الحاضرة، وبهذا يكون اجتماعهم للتعاون فيما بينهم لتلبية الضروريات لما يحفظ حياتهم ويكفل لها الاستمرارية دون أن يحصل لهم زيادة فوق الضروريات للعجز عن ذلك.
وفي مرحلة لاحقة تتسع فيه أحوالهم ويحصل لهم فوق الحاجة من غنى ورفه وهذا ما يدعوهم للسكون والدعة (الاستقرار) والاستكثار من القوت والملبس والتأنق والسعة في البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر.
وفي مرحلة لاحقة تتسع فيه أحوالهم أكثر فأكثر ويزيد الرفه والدعة فينعكس ذلك على المبالغة في الترف والتأنق في الملابس الفاخرة والحرير والديابيج وتتنوع الأقوات ويتعالون في البيوت ويصل بهم الترف إلى غايته في اتخاذ القصور وإجراء المياه فيها وإعلاء الصروح والمبالغة في تزيينها وتنجيدها وهؤلاء هم الحضر وأهل الأمصار وهم من يعملون في الصناعة والتجارة ومكاسبهم أنمى وأرقى من أهل البدو لأن عندهم ما هو زائد عن الضروري وهذه الأجيال طبيعية حسب لفظ ابن خلدون.
حسب هذا المنطق، فإن أساس الوضع الحضاري لأي أمة يستند على وضعها الاقتصادي وسلوكها المعيشي (نمط ووسائل الإنتاج) مما يتولد عنه اجتماع أفرادها في تنظيمات وتكوينات مجتمعية.
البدو أقدم من الحضر وسابق عليه والبادية أصل العمران والأمصار مداد لها.
يدلل ابن خلدون على فكرته القائلة "بأن البدو أصل للمجتمعات كلها وهم تبعاً لذلك أقدم من الحضر" أن الإنسان يبدأ أولا بالسعي للحصول على ما يسد رمقه، ويكفل له استمرارية حياته، وهذه هي بداية كل التجمعات البشرية، ومنها تأتي كلمة بادية، والتي قد تعني من بين معانيها الكثيرة البداية، وبما أن الحضر منشغلون بالترفي والكمالي في أحوالهم، فيستحيل أن يكونوا بحال من الأحوال سابقين على البدو من حيث النشأة، لأن الانشغال بالضروري أقدم وسابق على الانشغال بالكمالي، وبما أن الضروري أصل والكمالي فرع ناشئ عنه فالبداوة أصل للحضارة وسابق عليه، وخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، والمدنية غاية للبدوي يجري إليها، ومتى ما حصل على الدعة فيها وصل إلى قيادة المدينة، وهذا شأن القبائل البدوية كلها، أما الحضري فلا يعود للبادية إلا لضرورة تدعوه إليها.
أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.
حيث يؤكد ابن خلدون أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى فهي متهيئة لقبول ما يصل إليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم( كل مولود يولد على الفطرة) فإذا سبق أليها الخير تبتعد عن الشر ويصعب أن تكتسبه وإذا سبق إليها الشر صعب عليها الخير .
فأهل الحضر يعانون من الترف والإقبال على الدنيا والشهوات وتلوثت أنفسهم بالكثير من المذمومات وبعدت عن الخير ومسالكه حتى أن الحشمة حسب تعبير ابن خلدون ذهبت عنهم فهم يتحدثون بفاحش القول في مجالسهم وعند كبرائهم ومحارمهم لمجاهرتهم بالفواحش قولا وعملا.
أما أهل البدو فهم أقل بكثير من سوء أهل الحضر فهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع بالنفس من سوء لقلة السوء في البادية نسبة للحاضرة حيث أنهم مشغولون في تحصيل أسباب بقائهم ووقت فراغهم لا يكاد يذكر حتى ينشغلوا بأمور الدنيا وملذاتها.فالحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير ولذلك أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر.
أهل البدو أقر إلى الشجاعة من أهل الحضر.
السبب حسب ابن خلدون أن أهل الحضر ركنوا للدعة وحياة الترف واطمئنوا على ما عندهم من أموال ورزق بسبب الأسوار المنيعة التي تحيط بهم والحاكم الذي يسوسهم والجنود الذين يحمونهم حتى القوا السلاح وتوالت الأجيال على عدم حمله حتى تنزلوا كما يقول ابن خلدون (منزلة النساء والوالدان) الذين هم عالة على أبيهم وصار هذا خلقا لهم. بعكس أهل البادية لابتعادهم عن الحامية وانتباذهم عن الأسوار فهم يدافعون عن أنفسهم ولا يوكلون غيرهم بأمر الدفاع عنهم ولا يثقون بأحد بهذه المسألة ولذلك هم دائما ما يحملون السلاح ويفزعون خلف كل صيحة وهيعة واثقين بأنفسهم فالبأس لهم خلقا والشجاعة سجيتهم يستجيبون لكل داع وينفرون لكل صارخ وأهل الحضر عالة عليهم إذا ما صحبوهم في البادية لا يملكون شيئا معهم حتى في معرفة النواحي والجهات و موارد المياه.
مقياس تحديد البداوة والحضارة.
في حين صنف العلماء الزراعة مهنةً للريفيين أو القرويين،كان قد ألحقها ابن خلدون بالبدويين، ولم يكن عند ابن خلدون مجتمع وسط بين المجتمعين البدوي والحضري، وكان المحك الرئيس عند ابن خلدون للبداوة هو الترحال، فمتى حل الاستقرار الدائم انتهى عصر البداوة.
وقد اختلفت آراء العلماء في تحديد مقياس للحياة البدوية والريفية والحضرية مابين تصنيف حسب المهنة أو حسب حجم المجتمع أو تجانس السكان أو عدم تجانسهم نفسيا واجتماعيا وثقافيا أو درجة الحراك الاجتماعي واتجاهه أو أشكال التباين الاجتماعي أو أنساق التفاعل الاجتماعي، ومع التقدم الذي تشهده المجتمعات باختلاف مشاربها أرى والله أعلم أن مقياس ابن خلدون وهو الترحال يبقى الأقوى للتصنيف، فالمقاييس الأخرى مرنة جدا وقد تتداخل فيها المجتمعات البدوية بالريفية بالحضرية بسهولة، والثغرات بها كبيرة وهذا ما نتج عنه سهولة إطلاق صفة بدو وبداوة على جميع العرب كما يقول عالم الاجتماع علي الوردي فالكثير من العادات والأعراف والسلوكيات التي تنسب للبدو، هي عادات وسلوكيات ريفية موجودة لدى كل أهل الريف في العالم سواء أكانوا في أمريكا اللاتينية أو الصين الشعبية، وإذا تجاهلنا مقياس ابن خلدون وهو الترحال فأصدق مقياس من بعده من وجهة نظري هو "المتصل الريفي الحضري" حيث يكون هناك مجتمع بلغ الغاية في البداوة من خشونة العيش والترحال وعدم الأخذ بأسباب الحضارة، أو مجتمع بلغ الغاية في الريفية، وفي مقابله مجتمع الحضارة والتمدن والاستقرار الدائم والأخذ بالعلم والصناعة، والمجتمعات تتدرج في هذا المقياس حسب قربها من هذا النموذج أو ذاك.
أما ما يحصل في مجتمعنا العربي السعودي من تصنيف حسب الأهواء ودون مقياس للبداوة والحضارة فهو الأبعد عن الطرح العلمي على الإطلاق، فلا يصح أن يتم التصنيف دون مقياس، ولا ينبغي أن يُصَنف أهل المدن بأنهم بدو وحضر مع أنهم في مدينة واحدة و يأخذون بأسباب الحضارة وقد يسكنون الحي نفسه، وذلك بأن يتم التصنيف حسب صفات معينة كأن يوصف البدو بالشجاعة والكرم والحمية والغيرة والنخوة والأصالة مما يعني بالضرورة أن أهل الحضر عكس ذلك، لأنه لابد أن تكون الصفات مقابل صفات أخرى معاكسة لها وهذا ما يحتمه مقياس التصنيف، وكأن يُقال أن الحضر هم أهل العلم ومحاسن الأخلاق والذوق واللباقة مما يعني بالضرورة أن البدو عكس ذلك، أو أن يُقال أن أبناء القبائل هم البدو وأبناء غير القبائل هم الحضر رغم أننا نجد أبناء القبيلة الواحد يقسمون أنفسهم على أنهم بدو وحضر مع أنهم يعودون للقبيلة نفسها، وهذا لا ينطبق لأن الجميع أهل مدن وكرم وعلم ومحاسن أخلاق سواء أكانوا أبناء قبائل أم لا وسواء تم تصنيفهم حسب الهوى على أنهم بدو أم حضر، وفي المقابل الصفات السيئة موجودة عند جميع طبقات وشرائح المجتمع كما الصفات والخصال الحميدة فالأسرة الواحدة قد يكون منها عالم وأديب وآخر جاهل فوضوي يجلب العار لأسرته فالبداوة مرحلة تاريخية اجتماعية تمر بها المجتمعات وليست صفات يمتدح فيها الأشخاص أو يُذمون وهي بداية نشأت المجتمعات قاطبة كما يقول ابن خلدون هذا والله أعلم.
نظرية ابن خلدون أو ما يعرف بـ العمران البدوي والعمران الحضري:
صنف ابن خلدون وفقا للدكتور علي الحوات المجتمعات إلى المجتمعات البدوية وهو ما أطلق عليه "العمران البدوي" والمجتمعات الحضرية وهو ما أطلق عليه "العمران الحضري" وقارن بين هذين النوعين من المجتمعات في مجالات وميادين اجتماعية وثقافية مختلفة ثم استخلص أن المدينة هي الهدف النهائي للاستقرار البشري إذ كلما تحسنت أوضاع أهل البادية أو الريف اتجهوا للإقامة في المدن ثم استخلص أيضا أن الطريق من البادية إلى المدينة طريق لا رجعة فيه.
نظريات مماثلة:
كان مدار نظرية ابن خلدون في العمران البدوي والعمران الحضري أن هناك نموذج يمثل قمة التقدم والتطور وهو "مجتمع الحضارة والتحضر" الذي يتوج "بالمدينة" وهذا النموذج يتمثل في مجتمع العلم بحسب تحليل أوجست كونت وممثلا في مجتمع الصناعة بحسب تحليل هيربرت سبنسر وممثلا في مجتمع تقسيم العمل بحسب تحليل أميل دوركايم وممثلا في مجتمع الحرية الفردية والعمل الحر بحسب تحليل ماكس فيبر وممثلا في مجتمع النسق الاجتماعي المتوازن والقادر على أداء وظائفه الأساسية لتحقيق غاياته وأهدافه العليا بحسب تالكوت بارسونز.
ومن أشهر التصنيفات النظرية للحياة الريفية والحضرية حسب الدكتور محمود عوده ما يلي:
1- تصنيف فردنالد تونيز Toennies الكلاسيكي الشهير والذي يمثل أحد قطبية المجتمع الأولي الذي تسوده العلاقات الأولية و القرابية Gemeinschaft بينما يمثل القطب الآخر المجتمع الذي تشيع فيه العلاقات الثانوية والتعاقدية Geselschaft.
2- ثنائية إميل دوركايم الشهيرة التي تقابل بين نوعين من المجتمعات وفقا لشكل التضامن الاجتماعي، أولهما يقوم على التضامن الآلي Mechanical Solidarity بينما يقوم الثاني على التضامن العضوي Organic Solidarity.
3- يفرق ماكس فيبر بين النماذج التقليديةTraditional types والنماذج العقلية Rational types.
4- يضع سوركين نموذجه المشهور الذي يقابل من العائلية Familistic والتعاقدية Contractual.
5- يميز هواردبيكر Becker بين النموذج المقدس Sacred type والنموذج العلماني Secular.
6- أما روبرت ردفيلد Redfieldفيميز بين المجتمع الشعبي Society Folk والمجتمع الحضاري Civilization ويرتكز مفهوم المجتمع الشعبي لردفيلد على المشاعر الجمعية الأولية التي تميز الثقافة الشعبية في مقابل المشاعر الفردية التي تسم المجتمع الحضاري أو المدينة.
التسميات :
جغرافيا