المفهوم الحقيقي للقبيلة (2)

رسالة توضيحية لمن يعتبر الحلف القبلي عيب أو نقطة ضعف

القبيلة هي  تقابل الأنساب، ولا يشترط في تكوينها أن تكون القبيلة كلها من أب واحد قريب، فهذه ليست قبيلة وانما عائلة أو أسرة أو في علم الأنساب "فصيلة" لذلك فالقبيلة هي تقابل الأنساب أي أنها تتقابل في أنساب أسرها وعائلاتها عند نسب معين بغض النظر عن سلسلة النسب الخاصة بكل عائلة، فالقبيلة لا تعيش في بيت مغلق كبيت الأسرة الواحدة، لأن البيت الواحد لا يقبل بأن يعيش بداخله غير أصحاب القرابة من الدرجة الأولى، بينما القبيلة تتكون من عدد كبير من البيوت المنتشرة في مساحة واسعة من الأرض، فهي بذلك تسمح لأي عائلة تتقابل معها في نسبها العام بأن تبني لها بيتاً وتشارك معها في نظام القبيلة، إذا فالقبيلة تشبه الحارة أو القرية ولا تشبه البيت الواحد، ولذلك فإن نظام القبيلة منذ أبد الأزل وهو يسمح بتعدد الأسر والعائلات داخل حدودها طالما أن هذه العائلات ملتزمة بالمشاركة في حروبها ودرئ الأخطار عنها، والالتزام بعادات وتقاليد القبيلة الاجتماعية والاقتصادية، وكل قبيلة تحب وتفتخر جدا بأي عائلة محترمة الصيت والسمعة وصاحبة كرم ونخوة وشجاعة ومروءة، حتى ولو أنها غير منتيمة لها، وفي الشعر أمثلة كثيرة على قصائد المدح والفخر بهذه القبائل الأصيلة، وهناك بالمقابل قصائد ذم بالقبائل سيئة السمعة وقليلة الأصل.
فالقبيلة كالحي والحارة والقرية، والقبيلة كالحزب ايضاً، وهي مجتمع محلي ولكنها ليست كالبيت الواحد ولذلك فليس من العيب على القبيلة أن تضم بين ظهرانيها أصول أخرى من القبائل المحيطة، لأن القبيلة تضم عدد من الفصائل ( الفصيل هو بيت الرجل ) وهي أصغر وحدة مجتمعية داخل مكونات القبيلة، وهذه الفصيلة أحيانا ترتبط بفصيل آخر من قبيلة أخرى من خلال المصاهرة فتنشأ علاقة اجتماعية جديدة، ومن الجدير ذكره في هذا المجال وحسب العرف والعادة فإن نظام القبيلة يسمح للفصيل أن ينشئ مثل هذه العلاقات مع أي فصيل يكون من ضمن القبائل المحترمة صاحبة الأصل والحسب والنسب ولا يسمح للفصيل أن يبني علاقة مع المنبوذين والمكروهين في المجتمع، ومن هنا فليس عيبا أن نجد في القبيلة مكونات من قبائل أخرى فعلى سبيل المثال:
عرب أبو كشك في فلسطين هم مجموعة من العائلات القوية انضمت مع الكشوك لتكون منطقة جغرافية اعتبرت من أقوى الأحلاف البدوية في فلسطين، وهم من عدة أصول فمنهم من يعود أصله لقبيلة حرب ومنهم للزبيدات ومنهم من طيء ومنهم الجرامنة ومنهم الترابين ومنهم القرعان ومنهم العوامرة، وهناك عشرات المواقع الأخرى هي نفس هذا التركيب والتشكيل.
وهناك أمثلة عربية عريقة في التاريخ العربي:
1- قبيلة تنوخ: هي مجموعة من بطون القبائل العربية الأصيلة فمنهم من قضاعة ومنهم من جذام ومنهم من لخم ومنهم من دوس ونزار وغيرهم.
2- قبيلة بني غسان: وهم عدد من البطون.
3- قبيلة الأحلاف: وهم عدد من البطون تنحدر من عدة قبائل عربية
4- أهل الشمال: حلف من العيسى والفحيلي والفضل تزعمتهم قبيلة سرحان
5- حلف عباد: ضم عدد من البطون من عدة قبائل
6- حلف تميم وكلب وهو من الأحلاف القديمة والتي لا زالت موجودة
7- بني سعد: حلف في العراق، وبني سعد حلف في مصر
8- حلف كنانة
[ هذا للمثال فقط فالتحالف والحلف بين القبائل العربية لا تنحصر، فالقبيلة التي لها تاريخ مرموق لا بد لها أن تكون شاركت في الأحلاف]
فالقبيلة تأتي في كثير من الأحيان بدلا من الحلف، لأن كلمة حلف لا تظهر كثيرا في الاستخدام المحلي، لأنه يتم ذكر اسم هذا الحلف مباشرة فلا يقال حلف تنوخ ولا حلف غسان ولا حلف الأحلاف بل ذكرت في الكتب بقبيلة تنوخ وقبيلة غسان وقبيلة الأحلاف، ومن هنا إن من يعتبر كلمة خليط من القبائل أو كلمة تحالف قبلي إنها عيب يخجل منه فهذا إنسان جاهل وان كان يحصل على درجة البرفسفور في التاريخ، ولنذكركم بشيء عن التحالف في تاريخنا العربي والإسلامي
قَالَ ابْنُ الأَثير: أَصل الحِلْفِ المُعاقدةُ والمُعاهَدَةُ عَلَى التَّعاضُدِ والتساعُدِ والاتِّفاقِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الفِتَنِ والقِتالِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ والغاراتِ فَذَلِكَ الَّذِي ورَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الإِسلام بِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا حِلْف فِي الإِسلام، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَصْرِ المَظْلُومِ وصلةِ الأَرْحامِ كحِلْفِ المُطَيَّبِينَ وَمَا جَرى مَجْراه فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رسولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْه الإِسلامُ إِلَّا شِدَّةً، يُرِيدُ مِنَ المُعاقدة عَلَى الْخَيْرِ ونُصْرةِ الْحَقِّ، وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْحَدِيثَانِ، وَهَذَا هُوَ الحِلْفُ الَّذِي يَقْتَضِيه الإِسلامُ والمَمْنُوعُ مِنْهُ مَا خالَفَ حُكْمَ الإِسلام [1]
وفي الوقت الحديث تطل علينا اعداد وألوان مختلفة من الأحزاب التي تتشكل من عناصر تتحد تحت عنوان ما، فهذا الحزب يشبه تماما العصبية القبيلة المنبوذة لأنه يسعى بكل السبل لتحيق هدفه هو وحده، ولذلك يحدث الصراع بينه وبين الحزب الآخر، فأما الحلف القبلي الذي يتعاهد على الإخاء والمحبة والتعاضد والمحافظة على السلم المجتمعي فهو ليس بعصبية مقيتة وإنما هو معاقدة على الخير ونصرة للحق، لا لتحقيق أهداف فئوية وشخصية وأطماع تأتي على حساب الغير، ومن هنا فالحزب شبيه جدا بالحلف وشبيه بالقبيلة التي يتحد كل منها لحماية أملاكه ومصالحه وعلى نفس هذا المنوال حدث بين قبائل العرب في تاريخها، حيث عقدت القبائل الكبيرة تحالفات بين نظيراتها من أجل حماية مصالحهما ومن أجل ضمان النصر في المعارك ضد القوى الحاكمة مثل تحالفات القبائل في اواخر العصر العباسي وفي العصر المملوكي، ولولا تحالف القبائل مع بني العباس ما انتصروا على بني أمية، ولولا حدوث الشرخ والانقسام بين أحلاف الدولة الأموية لما انهزم بني أمية.
ومن أكبر وأضخم أحزاب العرب وأحلافهم عبر التاريخ الحلف اليمني والحلف القيسي، فقد انشطر كل حلف إلى مجموعات ضخمة من  الأحلاف أو (القبائل)..
فالقبيلة في أصل تكوينها ليست عائلة ولا يمكن مقارنة نظام القبيلة بنظام العائلة، فالعائلة لا يمكن لها أن تقبل بشيء اسمه الاختلاط مع أحد، أو أن يأتي شخص ويعيش داخل بيت العائلة مثلا، لأن العائلة نظام مغلق والقبيلة نظام أوسع وأشمل ولها قوانين ومبادئ فهي كالدولة لها رئيس أو شيخ ولها قوات ومجلس ولها قرارات ومصالح وسفراء وإلى غير ذلك من أسس البناء.
كما أن نشأة القبيلة غير مرتبط بنسب الأب وأبنائه وأحفاده فهذه عائلة أو بطن أو فخذ، فالقبيلة تتسع وتتباعد الأنساب وتسمح بدخول عناصر جدد في كيانها وفق معايير خاصة فهي تقبل بالمصاهرة مع العرق المرغوب به وتسمح للطنيب والدخيل بالاستنجاد بها، فهي تقوم بحماية المستجير والجار ولا تهون عليها العشرة والرفقة ولا تسمح لعناصرها وأفرادها بارتكاب ما يضر بسمعتها ويهين هيبتها فالقبيلة تسعى دائما لتطوير علاقتها مع القبائل التي توازيها في النسب والسمعة والأصل والحسب وتفتخر بها كما تفتخر بنفسها، ولذلك نجد للقبيلة أحلاف فلا بد من ذلك وعلى سبيل المثال:
قبيلة كلب وقبيلة جهينة وقبيلة بلي وقبيلة عذرة وقبيلة جرم وقبيلة حن وقبيلة عامر وقبيلة بهراء ونهد كلها متفرعة اصلا من قضاعة أو كلها تنسب نفسها إلى قضاعة فكان اسم قضاعة عبارة عن مادة لاحمة ورابطة بين كل قبيلة من تلك القبائل، وعليه نجد من المنطق أن تتحد مجموعة من عائلات وفصائل كلب وبلي وعامر وجهينة لتكون حلف يشتهر باحدى بطونها فأين العيب في ذلك؟!
وقد أكدت المصادر التاريخية تكون العديد من هذه التشكيلات في مناطق متعددة من الأقاليم الجغرافية، ولو نظر أحدكم في تكوينات كل قبيلة من قبائل العرب الموجودة الآن سيجد آثار ذلك ما زال باقياً.
فقد جاء في كتاب سيناء الموقع والتاريخ
أن القبيلة تتكون من عدد من العشائر لا يشترط فيها أن تكون على علاقة نسب [2]
وفي كتاب دور القبائل العربية بمصر قال
يعتبر الحلف من أهم سمات سلوك القبيلة في صعيد مصر[3]
وفي معجم ما استعجم قال
يتبع الرجل أصهاره وأخواله، أي أنهم ينضمون لقبيلته[4]
وفي عشائرالشام قال:
قد تكون العشيرة - وهو يقصد القبيلة - تتكون من عدة أصول ومواطن مختلفة [5] وقد أورد أمثلة على ذلك.
وقال أيضاً:
إن الزواج والمصاهرة "والخؤولة" سببا كبيرا للعصبية القبيلة [6]
وفي القاموس المحيط:
القبيلة قد يكونوا من أب واحد، وقد يكونوا من أقوام شتى [7]
وفي كتاب مدينة يثرب قبل الإسلام نجد يقول:
لكل قبيلة اسم قد يكون اسم رجل وقد يكون اسم حلف يتكون من عدة قبائل [8]

مراجع استعنا بها
[1] لسان العرب لابن منظور ط3 سنة 1414هـ ص 53 الموسوعة الشاملة.
[2] سيناء الموقع والتاريخ، عبده مباشر واسلام توفيق، ص
[3] دور القبائل العربية في مصرمنذ الفتح الاسلامي حتى قيام الدولة الفاطمية، د. ممدوح الريطي ص219.
[4] معجم ما استعجم، البكري الأندلسي، الموسوعة الشاملة.
[5] عشائر الشام، وصفي زكريا، ج1، ص181.
[6] عشائر الشام، ص137
[7] القاموس المحيط، الفيروزأبادي، ص1284م
[8] مدينة يثرب قبل الإسلام، د. ياسين غضبان، ط1 لسنة 1993م ص154

راجع مفهوم القبيلة بشكل عام (1)

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم