قصة بني عامر في جباية الرسوم

كانت قبيلة بني عامر، التي تشتهر حقيقة بهذا الاسم التاريخي لوحده، وشهرتهم الثانية أنهم من قبائل القيسية وهذا لا خلاف عليه، وكانوا وما زالوا يرتدون الحطة/ العقدة/ الشماغ الأبيض والذي هو في الأصل شعار القبائل العربية الأموية جمعاء، لكن النسابة والمؤرخين يلجئون في كثير من الأحيان إلى ذكر النسب بناءً على مصادر بحثية تتشابه فيها الأسماء في كتب التاريخ والأنساب، وقليل منهم من يتوقف عند ذكر النسب ليتمحص وليحقق وليدقق بشكل جدي وموضوعي، ومن هنا فإن غالبية من تحدثوا عن بني عامر هذه قد أخطأوا فجعلوا كل اسم لبني عامر هو عامر بن صعصعة، وتجاهلوا كل قبائل بني عامر الموجودة في نفس الفترة، كما لم ينتبهوا جيدا للقبائل التي حملت اسم بني عامر وكانت صاحبة صيت وسمعة وشهرة وقوة ونفوذ، كما أنهم لم يتمعنوا جيداً في الحركة الجغرافية لهذه القبائل ودور كل منها في أنظمة السياسة الموجودة آنذاك، كذلك لم يأخذوا بعين الاعتبار الحصاد الاجتماعي للقبيلة من خلال علاقتها مع المحيط التي تعيش بداخله، وكل ذلك نواقص تؤدي إلى انحراف البوصلة عن حقيقتها، ومن هذا المنطلق فإنني سأتحدث عن قصة بني عامر في جباية الرسوم من خلال المواد التي تربط بين التاريخ والجغرافيا والروايات فعلى هذه الأسس أبدأ ان شاء الله:

قبيلة بني عامر بكل صراحة وموضوعية انضمت للقرامطة وبسبب كثرة وجودها وثقلها وقدرتها على قلب الأمور، تمكنت من فرض ضريبة أو خاوة أو رسوم مالية يتم جبايتها من الحكام القرامطة والذين هم في أغلب الأحيان من نفس تيار القبيلة القبلي أي أن رؤوس القرامطة هم من قبيلة بني كلاب وبني كلب (وهناك تقارب لفظي بين الإسمين) وكذلك تقارب تحالفي وجوار جغرافي بين عامر بن صعصعة وعامر بن عوف الكلبي لأنهم أخوة من ناحية الام وعلينا ألا نستهين بهذه العلاقة وتأثيرها في العلاقات بينهم، ومن هنا كان الحكام يدفعون لهذه القبيلة نصيبا من الأموال كحصة لها على دورها في الحراسة والقتال والتجارة، حيث كانت قبيلة بني عامر هذه من القبائل الشهيرة باقتناء الأبل الأصيلة ومن المعروف تاريخيا أن أكثر الإبل شهرة هي إبل قبيلة بني عامر وإبل بني كلب.
وكانت قبيلة بني عامر منتشرة في عدة مناطق جغرافية مكنتها من القيام بدروها على أكمل وجه في مجال نقل الأخبار ونقل البضائع التجارية وهذين أمرين في غاية الأهمية بالنسبة للحكام، ويترتب عليهما استمرار أو انهيار النظام الحاكم، ومن هنا كان اهتمام الحكام بهذه القبيلة أمر مهم، واسترضائها بنصيب مالي معين أمر لا بد منه بناءاً على طبيعة تلك الظروف.
وبدورها اعتمدت قبيلة بني عامر القيسية على قبيلة كلب القضاعية وكذلك طيء تحديداً،  وكانت على علاقة نسب ومصاهرة مع عدد آخر من قبائل الشام مثل بني جرم وبني عذرة وبني جهينة وبني طيء ولخم وجذام، فكانت هذه القبائل تقدم العون والدعم في مناطق سكنها لقوافل بني عامر التجارية التي تمر في الشام ومصر، والأرجح أن هذه القبائل تحديدا هي التي كانت تساند وتدعم دولة بني أمية التي كان مركزها سوريا وفلسطين ومصر..

وكانت قبيلة بني عامر وبسبب هذا النفوذ التي تتمتع به، قادرة على ترجيح كفة الصراع حول الحكم لمن تدعمه هي وترى فيه مصلحتها، وعليه فقد ذكر التاريخ حوادث عدة من تدخلات قبيلة بني عامر لصالح الشيوخ والحكام وقد أوردنا نماذج منها في هذه المدونة، وبحسب الروايات التي سمعناها مرارا وتكرارا ومن عدة رواة، قالوا أن لاجدادهم عدة امارات في الشام ومصر وقد ذكروا بالتحديد منطقة صفد وهي بالفعل احدى محطات البريد بين الشام ومصر، وكانت واقعة على طريق القوافل الواصلة شمالا إلى دمشق، كما أنها تقع في الركن الشمالي الشرقي من مرج بني عامر احد أهم مواضع قبيلة بني عامر في الشام، وفي فترة المماليك كان لصفد نيابة تضم 11 ولاية من ضمنها ولاية جنين وهي من المواضع التي سكنتها قبيلة بني عامر منذ بداية تاريخها وهي تقترب جغرافيا لإمارة بني مرداس العامريين، كما ذكروا موضع آخر وهو قطية بشمال سيناء وتؤكد كتب التاريخ أن قطية كانت مساكن لقبيلة قضاعة قديماً وقبيلة بني عامر بن كلاب القيسية وكان لها دور في تصدير الملح على مستوى واسع فمثلا كان لهم سبخات الجزيرة الفراتية وملاحة الفيوم وملح النطرون وسبخات سيناء وكانوا يتاجرون بها على مستوى الوطن العربي في ذلك الوقت أي أنهم كانوا جماعات متخصصون في تجارة القوافل وآخرين منهم كانوا يعملون في مواضع أخرى جباة للرسوم وهذا سوف نتطرق له لاحقاً.
 ويقول الرواة أن قبيلة بني عامر كانت من أقدم قبائل قطية والفيوم والبحيرة وكذلك قبيلة عذرة وطيء وجذام ولخم وبينهم جميعا علاقة نسب ومصاهرة، وفي شمال شبه الجزيرة العربية وجنوب الشام كانت مناطقهم الشهيرة دومة الجندل وفي العراق بادية السماوة والبصرة، وفي دمشق وحمص وحماة من سوريا، وإن وجود قبيلة بني كلب القضاعية وبني عامر القيسية ذات البطون الضخمة وانتشارهما في هذه المناطق وغيرها ساعد بطونها على تحقيق ثقل سياسي في تلك الأزمنة، فكان لبني عامر دور بارز في الشام ومصر والعراق مما منحها مناطق تجبي منها الأموال لصالح الحكومة، فكانت قطية ودومة الجندل والمرج والعقبة والبحيرة مناطق لجباية الرسوم أو المكس أو الضرائب التي تنقل للحكومة وهي التي تدفع لهولاء العربان حصتهم من المال،  وتحصل القبيلة على أجرة النقل والحراسة الناتجة عن استخدام إبلهم وخيولهم ورجالهم كما أن هناك مصدر آخر لجمع الأموال لا يصل للحكومة، وهذا يعرف باسم الخاوة ويؤخذ من السكان الضعفاء الذين يعيشون في حماية القبائل الكبيرة (الأحلاف) بسبب عدم اشتراكهم في الحروب فلا يخسرون قتلى ولا جرحى ولا أسرى ولا سلاح، فيتم جباية رسوم منهم بشكل اجباري نظير حمايتهم وحماية مصالحهم والدفاع عنهم، فهي تشبه الجزية في الإسلام التي تؤخذ من أهل الذمة، وهناك مصدر آخر أيضا وهو الغنائم التي تأخذها القبيلة أثناء مشاركتها في الحروب، إضافة إلى أعمال النهب التي تحدث في الأطراف والهوامش والطرقات بعيدا عن أعين الشيوخ والأمراء.

ومن المسلم به بأن أكثر من تصل إليه الأموال في القبيلة هم فئة الأمراء والشيوخ والرجال القادة، فهؤلاء هم الطبقة الثرية في أي قبيلة وهذا أسوأ ما في الأمر، وهو أحد أهم الأسباب التي أدت إلى التنازع والتصارع بين زعماء القبيلة للوصول إلى سدة الحكم والمشيخة، وبناءا على ذلك حدثت الانشقاقات والانقسامات بينهم طمعا في المال والشهرة والصيت، ومن خلال روايات وقصص القبيلة التي وصلت إلى مسامعنا في هذا الخصوص ما يلي:
1- اشتباكات عنيفة مع الدولة الفاطمية وقعت في ليبيا حسب قول الرواة، وبحسب ما ذكره المقريزي في غرب مصر "وفي تلك الفترة لم يكن وجودا للحدود الحالية" بل كانت تعرف باسم التخوم والجهات والنواحي والثغور
2- القتال مع اليمانية تحت قيادة قضاعة ضد القيسية (الأحزاب) وليست الأنساب
3- معركة العوامر مع الشريف ( على خلفية جباية رسم مرور) اتهم الشريف على إثرها قبيلة العوامر بالتآمر عليه
4- مطاردة جيش المماليك لرجال من قبيلة المزاريع من بني هلال بن عامر وكانوا في البحيرة بمصر، وقد كانوا يغزون مرارا وتكرارا الفلاحين في الفيوم التي يكثر بها تواجد بني عامر بن ربيعة بن كلاب القيسية، أورد ذلك المؤرخ المقريزي وابن فضل الله العمري وآخرين وذكر ابن خلدون أن بني عامر وبني هلال كانوا يجبون الخراج للسلطان في مناطق برقة وطرابلس والاسكندرية، وهؤلاء هم من نفس قبيلة بني عامر القيسية المتوزعة في الفيوم وقطية والعريش.
5- صراع قبلي قوي وعنيف ودامي حدث في العراق على حد زعم الرواة، أدى إلى تشتيت أركان القبيلة ( صراع داخلي) نزل بسببه جزء من العوامر الأردن ثم توجهوا إلى فلسطين.
8- الاشتراك في معارك المغاريب ضد المشاريق في سواحل الشام ومنها فلسطين.
9- المواجهات بين بني عامر والعثمانيين في بداية القرن الخامس عشر الميلادي
10- صراع داخلي بين شيوخ العوامر ومناصريهم أدى إلى تشتت ما تبقى من أركان القبيلة، وانتهاء دور القبيلة بالاسم الرسمي، لكن استمر نشاطها من خلال بطون أخرى تابعة لها.
11- انضمام المزاريع للقتال مع عرب الأمير الحارثي في العهد العثماني والقتال ضد المعنيين.
12- انضمام قبائل من بني سليم وبني هلال إلى قوات محمد علي والي مصر والقتال في الحجاز والشام والسودان.
إن هذه الأحداث والتي كان لها عبر الزمن السالف صدى وصيت وشهرة في روايات البادية والحضر، قد تآكلت وضاعت وبقي منها " فتات" تشعر في بعض الأحيان تناقض بين هذه وتلك، وحينما تفتش بين دفات التاريخ والأوراق المكتوبة فقد لا تجد لها عنواناً مناسباً يشير إليها، وقد تعثر بالصدفة عن خبر يطل بين الأسطر على استيحاء، وفي الغالب قد تحولت النصوص عن وجهتها الحقيقية، فقد ظهرت حديثاً بعض الأسماء في كتب مزخرفة خيالية اعتمدت في مطبخها على آثار لم تشترك فيه حتى بظلالها، وهكذا هي بواخر التاريخ فقد تصطدم في صخرة تحت عصف أمواج عاتية لتغوص في القاع وتبدأ على أنغامها قصص ونوادر تبث من على شواطئها دون أن يكن لهم بها أدنى معرفة.. وهكذا ضاع تاريخ أعرق قبائل العرب على الإطلاق.. وإن وجدوا منها أعلام ترفف فوق القمم تخطف أعين المندهشين،، فإن التاريخ المخطوف والمختفي له أعظم بكثير..
نورد هنا مثالاً بسيطاً عن مصادر دخل القبائل التي كانت تشرف وتعمل في نقل البضائع والحجاج، وقد أشار عدد من الرحالة بأنهم رأوا قوافل تتراوح عدد جمالها المحملة بنحو 6000 جمل وبعضها نحو 10000 جمل
بعض المعلومات العامة المتعلقة بمصادر دخل القبيلة :
1- أجرة للحراس
2- أجرة للهجان
3- أجرة للجمل الذي يحمل أشخاص أو سلع
4- أجرة للدليل وهو الشخص الخبير بالمسالك والطرق الآمنة
5- أجرة للسقاة الذين يجلبون الماء
6- أجرة للطباخين والطهاة
7- ولمن يجلب العليق ويقدمها للدواب
8- مخصصات للعاملين في البرك والآبار
9- مخصصات لشيخ القبيلة، ومخصصات لكل فرد من أفرادها
10- تجني القبيلة التي تقطن بجوار الطرق التجارية وتشرف عليها، أرباحاً أخرى من خلال بيع بضاعتها.
وقد كانت عملية دفع الأموال للقبائل قد ظهرت في فترة الخلافة الأموية ففي عهد هشام بن عبد الملك أعطى مائة بيت من بني سليم أموالاً من صدقة العشور اشتروا فيها الإبل والخيول واشتغلوا بنقل الغلات إلى بحر القلزم [1] وقد تطورت هذه العادة على مر الأزمنة والعصور حتى أصبحت تراث لا تتخلى عنه القبيلة، واذا شعرت بأنها أفلست فسرعان ما تغير على المدن أو القرى للنهب والسلب وفرض الضرائب وجباية الأموال، فقد أغارت بني عامر القيسية على البصرة في سنة 463هـ/ 1071م [2]وفي العام 467هـ/1074م كان الصراع بين قبيلة بني عامر وآل العيون الذين تولوا حكم الإحساء بسبب وقفهم الضرائب التي كانت تدفع لقبيلة بني عامر من قبل القرامطة[3] وتكرر حدث مشابه من قبيلة بني عامر سنة 582هـ/ 1200م، كما أغارت طائفة من عربان البحيرة (بني هلال وبين سليم) سنة 801هـ/ 1399م على الاسكندرية وفرضوا على السكان الضرائب[3] وقد تعامل المماليك بسياسة حذرة مع القبائل فتارة يدفعون الأموال وتارة أخرى يشنون عليها الحروب، وربما كان العصر المملوكي من أسوأ العصور التي عاشتها القبائل البدوية بسبب كثرة الحروب وخسران القبائل للكم الكبير من قوتها.
وقد خصص السلطان العثماني الأول سليم المبالغ التالية:
6 ذهبات لكل شيخ من شيوخ الحجاز
1 ذهبة واحدة لكل بدوي
500 ذهبة لكل شريف من الأشراف ( تاريخ جبل نابلس، ص64)
ويذكر أن أقــدم ســجل للـصرة في الأرشــيف العثمــاني يعـود لعــام 1009 /هــ 1600م وهي المخصصة لقافلة الحج، دون القوافل التجارية وجاء في أحد الأبحاث أن ما كان يدفع للأشخاص في قافلة الحج حده الأدنى يعادل 3 قروش والأعلى يعادل 220 قرش بالنسبة للأفراد أما القبائل فأقلها 20 قرشا وأكثرها حوالي 3000 قرشا.

[1] العربان ودورهم في المجتمع المصري، إيمان محمد عبد المنعم، ص17
[2] تاريخ الإسلام للذهبي، ج10، ص472.
[3] موقع سماحة الشيخ محسن عصفور
[4] المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، ص61
اطلع على مزيد من الموضوعات المتعلقة 👇



              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم