متى دخل العرب مرحلة الانحطاط

منذ زمنٌ بعيد جداً، كان العرب أصحاب رسالة سماوية طاهرة هي رسالة الإسلام، ومن أهم ملامح تلك الفترة الذهبية وأفضل أهدافها هو نشر الرسالة الإسلامية، التي كانت آنذاك تتحلى بأفضل القيم الأخلاقية والمجتمعية، ولعل التسامح وإكرام الضيف بغض النظر عن لونه وعرقه كان من أهم الملامح العامة للعرب في تلك الفترة، وكان العرب أنفسهم أسياد الموقف وقادة البوصلة وأصحاب القرار.
لكن وبعد أن تمكنت السلالات الصفراء من السيطرة على مقاليد الخلافة والسلطنة والحكم بدأ الكارثة تحل وتتربع وتفقس وتتكاثر في بلاد العرب، وحقيقة الأمر أن قيادة الأمة العربية والإسلامية لا بد لها أن تكون في يد العرب فقط، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك وقد أجمع أهل السنة والفقه والشريعة من علماؤنا على ذلك حيث يجب أن يكون الخليفة من قبيلة قريش، لا من العجم والعبيد والمماليك والترك والأرمن وغيرهم، وهذه شروط الخلافة للتذكير:
الأول: العدالة على شروطها الجامعة.
والثاني: العلم المؤدِّي إلى الاجتهاد في النَّوازل والأحكام.
والثالث: سلامة الحواسِّ من السَّمع والبصر واللِّسان؛ ليصحَّ معها مباشرة ما يدرك بها.
والرابع: سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدِّية إلى حماية البيضة وجهاد العدوِّ.
والسابع: النسب وهو أن يكون من قريشٍ لورود النصِّ فيه وانعقاد الإجماع عليه [1]
إن سيطرة تلك السلالات على أمور وشئون البلاد منذ العصر العباسي وما تبعه بعد ذلك من انحدار في أخلاق الأمة، واستئجار المؤرخين الذين أخذوا يهللون ويطبلون لأشخاص لا يعرف عن نسبهم وأصلهم شيء سوى مجموعة من الأكاذيب والافتراءات، وجعلوهم ( قادة عظام) ونسبوا إليهم بعض الفتوحات - الوهمية - هنا  وهناك وأخذوا يظهرون الزعماء العرب الأطهار على أنهم سكارى يسرفون ويبذورن ويهرعون وراء الشهوات، وهذا كله محض كذب وافتراء وتلفيق يهدف لترسيخ أنفسهم في الحكومات والسلطنة والقيادة، والحق يقال بأن جميع الانتصارات والفتوحات التي وقعت في بلاد المسلمين تمت على أيدي الجنود العرب بغض النظر عن قائد الجيش، فقائد الجيش مجرد رمز أو تمثال لا يستطع ذبح دجاجة، فأما وقود الحضارة الإسلامية العربية التي انطلقت من مكة والمدينة ووصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها كان بواسطة الجنود العرب، لكن وبعد أن دخلت العناصر الغريبة التي قامت بأفعال مستهجنة ومستغربة من أجل الوصول للسلطة، كانت سبباً في انحطاط وتأخر العرب، لأنهم أوجدوا صراعاً داخليا ينفر وجودهم ويكره التعامل معهم.
فهؤلاء الوحوش من السلالات الصفراء، كان كل همهم جمع المال والترف والبغي والتمتع في لهو الحياة الدنيا، فنشروا دور الدعارة والبغي في الحانات والمواخير والقصور حتى وصلت إلى أمور لا تطاق ويطول شرحها ووصفها ويعجز القلم عن كتابتها من شدة ما فيها من خزي وعار.
ولا تصدق ما كتب وما قيل عنهم، لأنها كتبت بأقلام لم تصدأ بالحق يوماً، فمنهم المأجور ومنهم المغلوب على أمره، فان تجرأ أحد وكتب نقدا لهم قتلوه أو عذبوه أو نفوه من البلاد.
ولم يكن في تلك السنين حال الأمة العربية بأحسن مما هي عليه الآن، لقد أصابتهم الأوبئة وفتكت بهم المجاعات والقحط والجفاف والفقر وكل ذلك بسبب ما وقع في البلاد من حروب بين السلالات الصفراء في صراعهم على الحكم والأملاك والاقطاعات، حتى دمروا البنية الاجتماعية والعسكرية للعرب في المدن والقرى، فانعزل أهل العروبة في البوادي يدافعون عن أنفسهم ويحمون أعراضهم وبيوتهم وشرفهم، ولكنهم لم يسلموا من هجمات الحكام المتكررة والمتعاقبة عليهم لجمع المال والسطو على أنعامهم من الأغنام والإبل والخيول والسلاح، كل ذلك وأكثر كان يحدث في البلاد العربية والإسلامية من أشخاص لا نعلم لهم نسباً ولا أصلاً سوى أنهم جلبوا من سوق الرقيق على حد زعمهم، وهم في الحقيقة مرتزقة يتقنون فنون المكر والخديعة والنفاق واللؤم والخباثة، فكان من ضررهم أن عم الخراب والدمار والانحطاط والتفرق والضعف في البلاد، والمتمعن بدارسة التاريخ جيدا بنظرة ثاقبة يلمس ذلك ويعثر عليه بين دفات الكلمات والحروف ويقارن تلك المعلومات بما يجب أن نكون عليه.
لقد كانت دولة الخلافة قوية وصالحة في بداياتها الأولى منذ أن أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بعده أبو بكر الصديق، فعمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، فعلي بن أبي  طالب فعماوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، ثم خلفاء الدولة الأموية فخلفاء الدولة العباسية في بدايتها الأولى ثم استعان العباسيين بالعجم والترك واختاروهم لتولي مناصب مهمة في الدولة، فحدث نتيجة ذلك الخلل الأولي الذي نخر جسد الدولة.
وكان ففي زمن العباسيين هناك خلافة اسمية فقط، فالخليفة كان مجرد رجل كرسي يعلب بها القادة من حوله، حتى ظهر في تلك الفترة تزييف كبير للأنساب سعيا وراء كرسي الخلافة، حتى ادعى الترك والعجم والزنج انتسابهم لقريش واحضروا شهود الزور واهل الطبول والخبول من اجل الوصول للسلطنة وجمع الاموال وامتصاص دماء العرب وسرقة تاريخهم وأمجادهم.
وفي العصر الأيوبي وبعد موت صلاح الدين الأيوبي بدأت الحروب والمؤمرات تنخر في بلاد الشام ومصر والتي كانت صراعا على السلطة بين أولاده وأحفاده.
وفي عصر المماليك وقع أكثر من أربعون انقلابًا عسكريًا-على الأقل- فضلًا عن المحاولات الفاشلة.. أكثر من عشرين سلطانًا انتهت حياتهم بالاغتيال أو الإعدام أو شابت موتهم شبهة اغتيال.. مؤامرات ومؤامرات مضادة بين الأمراء بعضهم وبعض، أو بينهم وبين السلاطين، هذه لمحة بسيطة من حصيلة الاضطرابات في العصر المملوكي الممتد بين عاميّ 1250م و1517م والذي كان قانون تداول السلطة فيه هو قاعدة (الحكم لمن غلب) المنسوبة تاريخيًا للسلطان العادل الأيوبي، وعن هذا العصر المشتعل بالأحداث، عن نهايات من قضوا نحبهم من سلاطين المماليك اغتيالًا أو إعدامًا أو في قتال للدفاع عن عروشهم[ 2]، راجع كتب التاريخ والروايات لتكتشف المزيد.
وفي زمن الخلافة العثمانية التي لم تترك فاحشة إلا وقد ارتكبتها ضد العرب بشكل خاص، ولم تبنى قصور الاستنبول إلا من دماء العرب وخيراتهم وجماجمهم وأموالهم، حتى ظن العرب بأن الاتراك أبشع استعمار عرفوه، واستخدم الأتراك سياسات محكنة في فرض سيطرتهم على الأمة العربية، وهذا هو الذي دفع العرب بالتحالف مع عدو ضد عدو.
ولم تكن الخلافة العثمانية حامية ومدافعة عن الإسلام كما يقول البعض، بل كانت حامية ومدافعة عن مصالحها وعما كانت تنهبه من خيرات البلاد، لقد كان الحكم العثماني من أبشع الحكومات التي مرت على العرب وعلى الإسلام، وأما حروب الدولة العثمانية فقد كان وقودها هم الجنود العرب ولم يكن الأتراك سوى ضباط وادارة فأما السواد الأعظم فهم عرب وأكراد وغيرهم.
والنتيجة التي جناها العرب من وراء 400 سنة تحت حكم الأتراك هي :
تدمير الزراعة وهجرة الأراضي والفقر وخراب القرى والأمصار ونزع أسلحتهم ونهضة مدن تركيا وصناعاتها ورفاهيتم وترفهم وبذخهم من جراء ما جمعوه من بلاد العرب من أموال طائلة، لقد كان الأتراك مهتمون جدا بالأمور التي تعيد عليهم بالربح الوفير.
فما ان خرج الأتراك من بلاد العرب حتى تسلم البلاد الاستعمار الامبريالي الصهيوني وما زال العرب لم يفقوا على أرجلهم التي تكسرت منذ 1000 عام ولم تجبر بعد لأن الكسور والجروح عميقة جدا فهي بحاجة إلى ألف عام أخرى للشفاء.
وصل الاستعمار إلى بلادنا العربية فوجدها متهالكة ومحطمة لا قدرة لها على التنفس، فبدأ يرسم خرائطه ويجند عملاؤه ومعاوينه ويخطط لهم دول ودويلات وحدود ويعين لهم قادة وزعماء وملوك ويتمختر بين أطلال آثارها ضاحكا مستهزئا بأول حضارة في العالم انتشرت في قارات العالم القديم.
إن الخلاف الفكري الذي تغلل في جسد الأمة العربية، كان من نواتج التاريخ الحزين الذي عصف بالأمة منذ 1000 عام وأكثر، والحقيقة إن من يدعي طاهرة التاريخ العثماني ما هو إلا واهم، فهو ربما يكون عاطفياً أكثر، أو يكون منحازاً لفكر ومذهب وما شابه، فالخلافة الإسلامية لا تجوز شرعا لمن هم من غير العرب أو بالأحرى من قريش، ولا علاقة هذا الشرط بحديث النبي بأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، نعم للعربي فضل على العجمي بالتقوى وللتقوى هنا معان كثيرة جدا فمن بينهما أن لغة العربي هي لغة القرآن الكريم، والرسول عليه الصلاة والسلام عربي فيكون معنى الحديث إن الله فضل العربي بتقواه على العجمي فهو أكثر منه تقوى، ومن معاني  التقوى هنا الخلافة الإسلامية فلا تجوز إلا  لصاحب التقوى، وليس للعجم تقوى، وفي حديث للنبي أخرجه الحاكم والطبراني عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حب قريش إيمان وبغضهم كفر، وحب العرب إيمان وبغضهم كفر، فمن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني.
وقال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( البقرة: 143).
وهذه الأية تعني نحن الأمة الأكثر عدلاً ومعرفة بالحكم وطبيعته ونحن من يشهد على بقية الأمم، فنحن خلفاء الله في أرضه حملنا الرسالة بعد النبي العربي وهذه الرسالة رفضت الجبال أن تحملها، ونحن أهل التقوى الذين نؤمن بالكرم وإكرام الضيف وعابري السبيل فنحن أولى أن نحكم أنفسنا وبلادنا ولا تجوز الخلافة في غيرنا من الأجناس والأعراق.
ويقول الله سبحانه وتعالى:
{  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }. صدق الله العظيم [الحجرات:13] وفي هذه الآية دليل على أهمية العرب فهم الأمة الوحيدة التي لا زالت حتى اليوم يعرفون ويحفظون بأنسابهم وقبائلهم وفي الآية أن أكرم الناس عند الله هو بطبيعة الحال الأكثر تقوى من غيره فالتقوى هي أعلى قمة في سلم وهرم الإيمان وهذا لن يكون في الأجناس غير العربية لا عند العجم ولا عند الترك وغيرهم، والله أعلى وأعلم.
ويأتي هذا المقال بهدف تذكير العرب بأهمية وجودهم وقرارهم وكيانهم ووحدتهم وتعاونهم، لأنهم أفضل الأمم هكذا هم وهكذا يجب أن يكونوا، وجعلت الديانة الإسلامية فيهم حتى يكونوا حماتها ويكون لهم شرف نشرها، ومن أراد أن يكتشف ما تعرض له العرب من ظلم ومؤامرات فعليه أن ينحاز لقراءة الحق من بين دفات كتب التاريخ وأخبار العرب ..

بعض المراجع
[1] الماوردي: الأحكام السلطانية ص5.
[2] رواية "دم المماليك" النهايات الدامية لسلاطين المماليك "للكاتب وليد فكري
تصفح موضوع أسباب انحطاط العرب للمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم