أسباب إنحطاط العرب !

 

كتب الباحث الفرنسي غوستاف (٧ مايو ١٨٤١ م - ١٣ ديسمبر ١٩٣١ م)

 عن أسباب انحطاط العرب؛ فيقول:

يمكن الاستنادُ إلى كثير من العوامل التي ذكرنا أنها من أسباب عظمة العرب في بيان انحطاطهم، ويكفي أن ننظر إلى عامل الزمن المهم؛ لنعلم أنه ينشأ عن أنفع صفات الأفراد والأمم في أحد الأزمنة أسوأ النتائج في زمن آخر، وأن الاستعداد الخُلقي أو الذهني الذي يكون عامل نجاح في أحد الأوقات حتماً يكون عامل حبوطٍ وإخفاق في وقت ثانٍ.

ولقد بَينْتُ سابقاً كيف أن غرائز العرب في الحرب والخصام، التي كانت نافعة في دَوْر فتوحهم، لم تلبث أن أصبحت ضارةً بعد انقضائه وخُلُو الميدان من أعداء يحاربونهم، وذلك أن العرب، بعد أن تمَّت فتوحهم، أخذ ميلهم المتأصل إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ حتى سقطت، وذلك كما حدث لهم في إسبانية وصقلية اللتين أضاعوهما بفعل انقساماتهم الداخلية على الخصوص، واللتين أجلاهم النصارى عنهما بسبب تنافسهم الدائم فيهما.

ويمكن عد نُظم العرب السياسية والاجتماعية، التي ذكرنا أنها من أسباب تقدمهم السريع، من عوامل انحطاطهم أيضًا، وبيان ذلك: أن العرب لم يقدروا على فتح العالم إلا حينما خضعوا للشريعة الجديدة التي جاء بها محمد، وجمعوا كلمتهم المتفرقة تحت لوائها، وهي التي كان يمكنها وحدها أن تجمع القوى المبعثرة في جزيرة العرب، وقد بَقِي نير هذه الشريعة الحازم طيباً ما بَقيت نظم النبي ملائمة لاحتياجات أمته، فلما أصبح تعديل هذه النظم ضربة لازبٍ، بسبب مبتكرات حضارة العرب، كان نير التقاليد من الثِّقل بحيث لا يمكن زحزحته.

وعادت نُظُم القرآن، التي كانت عنوان احتياجات العرب في زمن محمد، لا تكون هكذا بعد بضعة قرون، والقرآن، إذ كان دستوراً دينياً ومدنياً وسياسياً في آن واحد، وكان لا يتبدل بسبب مصدره الإلهي، تَعَذَّر تعديل أحكامه الأساسية.

وتجلَّت نتائج الاختلاف - على الخصوص - بعد أن أخذ نجم سلطان العرب يَأفُل، وصار يتكرر رد الفعل الديني الذي أصبح يهدف باسم تجديد الإسلام، إلى وقوف الإسلام عند ظاهر أي القرآن، مع أن المسلمين في عصور خلفاء بغداد وقرطبة الزاهرة كانوا يعرفون جيداً أن يُعدِّلوا تعاليمهم وفق ما تقتضيه احتياجات الأمم التي رَضِيَتْ بها.

وتجلى محذور عدم القدرة على التعديل الكبير - على الخصوص - في نُظُم العرب السياسية التي تقضي بأن يَقْبِض على زمام الدولة وليُّ أمر واحد يجمع في يده جميع السلطات العسكرية والدينية والمدنية، فهذه النظم، وإن كانت وحدها تساعد على تأسيس دولة عظيمة بسهولة، تعدُّ أقل النظم صلاحًا لبقائها، والدول الكبرى المطلقة التي تكون جميع السلطات فيها قبضةَ رجل واحد، وإن كانت ذات قدرة عظيمة على الفتح، لا ترتقي إلا إذا كان على رأسها رجال عظماء، فإذا افتقدتهم تداعى كل شيء دفعة واحدة.

ومن نتائج سوء نظام العرب السياسي: ما أصيبت به دولتهم من الانقسام، أي لم يُعتِّم ولاة الأقطار، الذين كان يَنْصِبُهم الخلفاء ليديروا شؤونها، والذين كانوا يتمتعون فيها بمثل ما يتمتع به الخلفاء من السلطات العسكرية والدينية والمدنية، أن أرادوا الاستقلال بها، وقد سَهَل عليهم هذا الاستقلال؛ لما لم يروا من سلطان يساوي سلطانهم، وقد نشأ عن نجاح بعضهم إغراءُ الآخرين، فلم تلبث أهم ولايات الدولة أن تحولت بهذا إلى دويلات مستقلة.

وكان لهذا الانقسام نتائجُ ضارةٌ ونتائج نافعة، فأما نتائجه الضارة: فهي أنه أضعف سلطان العرب الحربي، وأما نتائجه النافعة فهي: أنه مَهَّدَ السبيل لتقدم الحضارة، والحق أن مصر والأندلس ما كانتا لتبلغا ما وَصَلتا إليه من الرقي والرخاء لو لم تنفصلا عن الدولة الكبرى، وأنه ما كان ليتفق لهما، في حالة بقائهما من أجزاء تلك الدولة، غيرُ مصير الولايات العثمانية التي يُعزل ولاتها عزلًا مستمرًا فلا يصرفون همَّهم إلا إلى الاغتناء منها بسرعة؛ لِمَا لا يَرَون لأنفسهم فوائد في تقدمها.

أجل، إن تقدم بعض تلك الدُّويلات المستقلة كان عظيمًا، ولكن عاقبتها كانت كعاقبة الدول القديمة التي استندت إلى عدد الجنود وقيمتهم في سلطانها العسكري بدلًا من أن تستند بعض الاستناد إلى أداةٍ حربية مهمة كما هو واقعٌ الآن، والتي كانت تنهار أمام أول غارة أجنبية.

ثم إن الحضارة التي تهذب الطبائع وتُثقف الذهن لا تُنمِي الصفات الحربية، وهي تهيئ سقوط الدول الكبرى بذلك، وذلك لأن الأمم التي يكون أبناؤها من المُعوِزين ترغب في تغيير حالها، وتهدد الأمم المتمدنة المتقاعسة التي تكون على شيء من الرَّخاء، وبهذا سقطت أكثر الحضارات القديمة، وهذا ما أصاب الرومان، وهذا ما أصاب العرب أيضاً، ولو كان الترك والمغول وغيرهم من الأمم التي صرعت العرب في إبان تمدنهم قد هاجموا أتباعَ النبي أيام تأسيس هؤلاء لدولتهم، وتأليفهم أمةً صابرة على المكاره متعودة شظف العيش غير مُترَفةٍ لباءوا بالخسران.

ونذكر من أسباب انحطاط العرب أيضًا: اختلافَ العروق التي خضعت لسلطانهم، ويتجلَّى تأثير هذا السبب على وجهين مختلفين مشؤومين: الأول؛ ما أسفر عن تقابل مختلف العروق من التحاك، وما يجر إليه هذا التحاك من تنافسها. والثاني؛ ما أسفر عن التوالد الكثير من فساد دم الغالبين بسرعة.

وكان اختلاط مختلف الأمم في دولة واحدة عاملَ انحلال قويٍّ دائماً، وقد أثبت التاريخ أنه لا يمكن بقاء مختلف العروق تحت سلطان واحد إلا بمراعاة الشرطين الآتيين، وهما: أن يكون الفاتح من القوة ما يَعلمُ كل واحد معه أن كلَّ مقاومة له لا تُجدي نفعًا، وألا يتوالد الغالب والمغلوب، ومن ثَمَّ ألا يفنى الغالب فيه.

ولم يُراعِ العرب الشرط الثاني قط، ولم يراعِه الرومان في كل زمن، وقد انحط الرومان حالاً حينما عَدَلوا عنه.

ومن أهم العوامل الكثيرة في انحلال العالم الروماني القديم؛ سهولةُ منح السادة القدماء جميعَ حقوق المواطن للبرابرة، فقد نَجَم عن هذا أن غصَّت رومة بمختلف العروق، وعَطِلَت من سيادة الرومان، وانطفأت المشاعر التي كانت سر عظمتها سابقاً، وقد كان المواطن من أهل رومة لا يتردد ثانيةً في التضحية بحياته في سبيلها؛ لما في عظمتها من مثلٍ عالٍ قادر، فما تكون قيمة مِثْلَ هذا المثل الأعلى في نفوس البرابرة؟

ومن الصعب جدٍّا أن تَنْضَوِيَ إلى نظامٍ واحدٍ أممٌ مختلفة العروق وذات مصالح ومشاعر متباينةٍ في الغالب، وهذا لا يكون إلا بالضغط الشديد على الأكثر، ومن الأدلة عليه النظام المفروض على الايرلنديين والهندوس في الوقت الحاضر.

وما كان العرب ليلجئوا إلى مثل هذا الضغط حِيالَ مختلف العروق التي خضعت لهم ما انتحلت ديانتهم ونظمهم بسهولة، وما ساوى الإسلام مساواةً تامة بين جميع الذين اعتنقوه على اختلاف شعوبهم.

هذه هي شريعة القرآن، ولم يرغب الغالبون عنها، ولم يؤلف الغالبون والمغلوبون في بدء الأمر سوى أمة واحدة ذات معتقداتٍ واحدة ومشاعر واحدة ومصالحَ واحدةٍ، وقد ساد الوِفاق جميعَ نواحي الدولة العربية ما ظل العرب أقوياءَ محترمين في كل مكان.

بيد أن منافساتِ هذه الشعوب كانت خامدةً غيرَ هامدة، وقد بدت حينما عاد العرب إلى ما تعودوه من الشِّقاق والانقسام، وصارت بلاد الإسلام ميدان خصام دائم بين أحزابٍ لم تترك تنازعها حتى حين كان النصارى يحاصرون آخر مَعقِلٍ إسلاميٍّ في الأندلس.

ونشأ عن وجود عروقٍ كثيرة في البلاد التي دانت للإسلام نتيجةٌ أخرى أشرنا إلى خطرها آنفًا، وهي اضطرار العرب إلى الامتزاج بجميع الأمم التي كانوا يعيشون بينها، وكان يمكن العرب أن يكتسبوا بعض الأهليات من اختلاطهم بالأمم التي لم تكن دونهم كثيرًا، كنصارى إسبانية مثلاً، وهم إذا ما اختلطوا بعروقٍ متأخرة كبعض الشعوب الآسيوية والبربر لم يُصبهم غير الخسران، وكان التوالد في كلتا الحالين يؤدي حتمًا إلى تقويض الأخلاق التي يتألف من اجتماعها عرقهم، ولذا أصبحت البلاد التي كانت خاضعة لسلطانهم كإسبانية ومصر، لا تشتمل إلا على قليل من العرب بعد زوال سلطانهم السياسي عنها.

وكان عامل توالد العروق الذي أشرنا إليه يكفي وحده لتقرير انحطاط العرب، ولو لم يكونوا عُرْضَةً للمغازي ومختلف العوامل الأخرى، وذلك كما هو ثابت من أمرهم في مراكش التي نراها اليوم شبه همجية مع عدم غزو الأجنبي لها ومع مزاحمتها برخائها لبلاد الأندلس فيما مضى، والتي نجد أن تفوق البربر فيها وتوالد سكانها والزنوج أدَّيا إلى خفض مستوى حضارتها خفضاً عظيماً.

وقد زُعم أن المستقبل للمولَّدين، وقد يكون الأمر هكذا، ولكنني لا أتمناه للأمم التي ترغب في المحافظة على مستواها في العالم.


              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم