زيارة بني عامر للسلطان بيبرس

بسم الله الرحمن الرحيم
يقول سبحانه وتعالى:
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}   الروم (9) 
إن في دراسة التاريخ حكمة وفائدة وعبرة، فلننظر آثار بني عامر الذين كانوا قبلنا، بل لننظر ونتمعن بتاريخ الأمم الذين سبقونا على وجه هذه الأرض.
وموضوعنا الآن هو وفود بني عامر التي وصلت إلى السلطان بيربس ..
بعد أن رجع السلطان الظاهر بيبرس من محاربة التتار، وتوليه زمام السلطنة في مصر سنة 1260م/658هـ وصلت إلى القاهرة وفود من قبيلة بني عامر كان مقدمهم محمد بن أحمد العامري، وقد كانت كلمة مقدم بمعنى زعيم القبيلة ورئيسهم ولم تكن هذه الرتبة إلا لعدد من القبائل القحطانية والقيسية القديمة مثل بني عامر بن صعصعة وبني طيء وقضاعة وبينهما صلة كبيرة.
كان في استقبال وفود بني عامر المهمندار الحمداني ومهمته دار الضيافة واستقبال الوفود من القبائل والعربان الواردين إلى السلطان، وهذا هو السبب الذي جعل الحمداني يدون أسماء القبائل التي تصل أخبارها إليه.
وقد أقبلت وفود بني عامر لتقديم الهدايا والتهاني للسلطان الجديد، بمناسبة توليه السلطنة وبمناسبة انتصاره على المغول من ناحية، ومن ناحية أخرى لتوطيد العلاقات التجارية وتنظيم خطوط القوافل العامرية إلى القاهرة، وقد جلبت وفود بني عامر إلى السلطان معها الهدايا الثمينة من المهور والخيول الأصيلة التي تسر الناظرين وتثلج صدور الهواة.
وقال المهمندار الحمداني وقد توالت وفودهم ورجالهم على الأبواب الناصرية حتى البعيدين منهم رغم طول وبعد السفر قد وصلوا تباعاً، فأغرقهم السلطان بصدقاته ومكارمه وسخائه، وأفيض عليهم سابغ الأنعام، واستقبلوا بعظيم الترحاب وحسن الأستقبال وعوملوا بأتم الإكرام، ولحظوا بعين الاعتناء، أي أن السلطان أنعم عليهم وأجاب لهم مطالبهم، فأصدر تعليماته وأوامره إلى عرب الفضل الطائيين حلفاء جرم القضاعيين الذين كانوا في جنوب بلاد الشام وسيناء بتسهيل الطريق لوفودهم وقوافلهم وقصادهم وتأمين طريقهم في الإياب والذهاب واردين أو صادرين.
فكانت قبيلة بني عامر قد أوفت وأخلصت تلك العهود والمواثيق، وكانت منازلهم وبيوتهم تحت دار الضيافة بالسلطنة قد سدت فضاء الرحاب من كثرة جموعهم وعددهم، وغصت تلك الهضاب ببيوتهم التي شدت خيامها ببعضها البعض، وكان رجالهم ما بين قعود وقيام وكانت دارهم في الإحساء[1]
قال المؤرخ الألماني وكانت قوافل بني عامر تهبط مصر باستمرار ما بين 1293م-1340م وكانت تشترك عرب الفضل بحماية أجزاء من طريق قوافلهم [2] وكانت بني عامر في تلك الفترة تنقسم إلى قسمين قسم منهم بدو رحل وقسم حضر وكانوا كثر وفيهم الإمارة بدمشق وفلسطين والإحساء وحلفائهم بني تميم قديماُ وصلتهم قوية بعرب الفضل وبني الجراح وبني جرم وبني مهدي وغيرهم، وهم بطون وأفخاذ كثيرة وتاريخهم طويل والحديث عنهم لا يمل، وقد وقعت بينهم أحداث داخلية وحروب مريرة وصراعات عديدة تنازعاً على الحكم والإمارة، وقد تقصيت أخبارهم وأنسابهم ومواضعهم في مئات الكتب والموسوعات التاريخية والجغرافية، وقد تفرقوا في بلاد كثيرة، قال أوبنهايم وقد اختفى دورها عن الحكم منذ عام 1591م [3] واختفت إمارة عرب الفضل سنة 1439م [4] واختفت إمارة بني جرم سنة 1500م[5].
ونشرنا في هذه المدونة موضوعات متعددة عن بني عامر تحت عناوين متنوعة، وأما عن علاقتهم بالقرامطة فلم تكن علاقة مذهبية بل كانت علاقة اقتصادية وفقا لما ترتأيه المصلحة القبلية وقد ذكرنا ذلك ايضاً.
وأما ملالحة بني عامر فهم الذين كانوا يسكنون بقرية ملح وإليها نسبوا وهي واحدة من قرى بني عامر، تقع حاليا في الكويت وقد أشار إليها المهمندار الحمداني في سياق حديثه عن فود بني عامر التي توافدت إلى السلطان بيربس، وقرية ملح هي دار أولاد مانع بن عصفور بن راشد بن عميرة، احدى الأسر التي تولت الحكم في امارة بني عامر بالاحساء [6] وتقع القرية حاليا في محافظة الأحمدي.
وهذه القرية تاريخية وقد ذكرها جرير فقال:
قال جرير: 
تُهْدًي الْسلام لأَهْلً الْغَوْرً مًنْ «مَلَحي»
هَيْهَاتَ مًنْ «مَلَحي» بالغَوْرً مُهْدَانا
قال جرير أيضا: 
كأنَّ سَلًيطاً في جَواشًنًها الحَصى
إذا حَلَّ، بينَ «الأَمْلَحَيْن»، وقيرها
وكانت الإحساء تلك ديار بني عامر تعد من أرض الحجاز وفق ما ذكره المقدسي في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ولذلك فهم في كثير من الكتب يعدون من عرب الحجاز كما يعدون في مرج بني عامر ومرج الغوطة من عرب الشام، وهي قبيلة قيسية، كما وقد ثبت أن بني عامر بن صعصعة وخاصة فرع بني كلاب، أكثر القبائل العامرية صلة بتجارة الملح، ولهم سبخات الملح في الجزيرة الفراتية وملاحات الفيوم ايضاً، ولهم دور في تجارة ملح النطرون في مصر وافريقيا، ولهم فروع كثيرة متعددة ومبعثرة في الشام والعراق ومصر وشبه الجزيرة العربية وسواحل افريقيا، لا أحد يستطع أن يحصيها عددا.

المراجع والمصادر:
[1ٍ] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، بن فضل الله القرشي العدوي العمري، شهاب الدين (المتوفى: 749هـ)، أبو ظبي، الطبعة: الأولى، 1423 هـ
[2] البدو، أوبنهايم، ج3، ص195
[3] البدو، أوبنهايم، ج3، ص196
[4] دور إمارة آل الفضل، المحيميد، ص44
[5] البدو، أوبنهايم، ج2، ص98
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم