من نوادر وذكاء البدو حكاية البدوي مع الأصمعي رواية العرب، قصة نستنبط منها الصبر على الحوار وتقبل الأراء والاستماع إلى النهاية وبصدر رحب..
حيث حاول الأصمعي أن يضحك الحاضرين على البدوي، فضحك البدوي على الأصمعي وسجلها التاريخ لتبقى خالدة في صفحاته تقرأ جيل بعد جيل..
قال الأصمعي [1]: دعاني بعض العرب الكرام إلى قرى الطعام، فخرجت معه إلى البرية، فأتوا بباطية بأذنين وعليها السمن غارق، فجلسنا للأكل، وإذا بأعرابي ينسف الأرض نسفاً حتى جلس من غير نداء، فجعل يأكل والسمن يسيل على كراعه فقلت: لأضحكن الحاضرين عليه فقلت:
كأنك أثلةٌ في أرض هش ... أتاه وابلٌ من بعد رش
فالتفت إلي بعين مبحلقة وقال لي: الكلم أنثى والجواب ذكر وأنت:
كأنك بعرة في إست كبشٍ ... مدلاةٌ، وذاك الكبش يمشي
فقلت له: هل تعرف شيئاً من الشعر أو ترويه؟ فقال: كيف لا أقول الشعر، وأنا أمه وأبوه؟ فقلت له: إن عندي قافية تحتاج إلى غطاء؟ فقال: هات من عندك.
فغطست في بحور الأشعار، فما وجدت قافية أصعب من الواو المجزومة فقلت:
قومٌ بنجدٍ قد عهدناهم ... سقاهم الله من النوّ
قلت: أتدري النو ماذا؟ فقال:
نو تلالا في دجى ليلةٍ ... حالكةٍ مظلمةٍ لو
فقلت له: لو ماذا؟ فقال:
لو سار فيها فارس لانثنى ... على بساط الأرض منطو
فقلت له: منطو ماذا؟ فقال:
منطوي الكشح هضيم الحشا ... كالباز ينقضُّ من الجو
فقلت له: الجوُّ ماذا؟ فقال:
فاعلوا لما قد عيل من صبره ... فصار نجوى القوم ينعوْ
فقلت: ينعو ماذا؟ فقال:
ينعو رجالاً للقنا شرعت ... كفيتُ ما لاقوا وما يلقُوا
قال: فعلمت أنه لا شيء بعد الفناء، ولكن أردت أن أثقل عليه فقلت له: ويلقوا ماذا؟ فقال:
إن كنت ما تفهم ما قلته ... فأنت عندي رجل بو
فقلت له: البو ماذا؟ فقال:
البوُّ سلخٌ قد حشي جلده ... يا ألف قرنانٍ، تقوم أو
فقلت له: أو ماذا؟ فقال:
أو أضرب الرأس بصوَّانةٍ ... تقول في ضربتها فوّ
فخفت أن أقول له: فو ماذا؟ فيضربني ويكمل البيت. فقلت له: أنت ضيفي الليلة.
فقال: لا يأبى الكرام إلا لئيم.
فقلت لزوجتي: اصنعي لنا دجاجة، ففعلت فأتيته بها وجئته أنا وزوجتي وابناي وابنتاي وقلت له: فرق يا بدوي.
فقال: الرأس للرأس، وأعطاني الرأس، وقال: الولدان جناحان، لهما الجناحان، والبنتان لهما الرجلان، والمرأة لها العجز، وأنا زائر لي الزور، وأكل الدجاجة ونحن ننظر إليه وبنا نتحدث.
فلما أصبحنا قلت لزوجتي: اصنع لنا خمس دجاجات ففعلت وأتيته بالدجاج وقلت له: أقسم يا بدوي.
فقال: تريد شفعاً أو وتراً.
فقلت: إن الله وترٌ يحب الوتر.
فقال: كأنك تريد بالفرد.
فقلت: نعم.
فقال: أنت وزوجتك ودجاجةٌ، وابناك ودجاجةٌ، وابنتاك ودجاجةٌ وأنا دجاجتان.
فقلت: لا أرضى بهذه القسمة.
فقال: كأنك تريد شفعاً.
فقلت: نعم.
فقال: أنت وولداك ودجاجة، وزوجتك وبنتاها ودجاجة، وأنا وثلاث دجاجات، والله لا أحول عن هذه القسمة.
قال الأصمعي: فغلبني مرتين مرة في الشعر ومرة في الدجاج ثم انصرف، انتهى.
تعقيب:
لماذا لم يذكر الأصمعي من هو هذا البدوي؟
اعتاد أهل البادية في مثل هذه المواقف ألا يعرفون عن أنفسهم، فإن مر في ضائقة أو أصابته حاجة، ابتدع طريقة ما لسد حاجته وقضاؤها فقالوا في ذلك مثلاً: "سوء الاكتساب يمنع من الانتساب"، كما ويمتنع البدوي عن التعريف بنفسه أو نسبه إن كان له غرض سري يبحث عنه أو يسعى للوصول إليه وهناك أمثلة عديدة على ذلك، ويبدو من خلال هذه الحكاية أن البدوي كان عابر سبيل وربما نفذ زاده فرأى الزاد أمامه حينما وصل للقوم، فأغار عليه وقد استطابه وأحبه..
+++++
الهامش
[1] الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي (121 هـ- 216 هـ/ 740 - 831 م) راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، باهلة قبيلة تنسب لبني أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن بزار بن معدّ بن عدنان، اشتهروا باسم أمهم "باهلة" بنت صعب بن سعد العشيرة القحطانية.
مصدر القصة/
الكتاب: نوادر الخلفاء المشهور بـ «إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس»
المؤلف: محمد، المعروف بدياب الإتليدي (المتوفى: ق 12هـ)
المحقق: محمد أحمد عبد العزيز سالم
الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
التسميات :
الرواية