بسم الله الرحمن الرحيم..
عرف العرب في البادية نظاماً اجتماعياً خاصا بهم، قبل ظهور الإسلام فكان من أجزاء هذا النظام بعض القيم والعادات والأخلاق ومن بينها الأخلاق الحسنة والنبيلة التي جاءت الشريعة الإسلامية لتؤكد عليها وتعتبرها من دلائل الإيمان والتقوى، وتحرم كل العادات السيئة وتعتبرها من دلائل الشرك والكفر، ومن بين العادات التي كانت في البادية وفي القرى على حد سواء هي عادة وأد البنات (دفن البنات وهن أحياء لحظة ميلادهن) وذلك خوفاً من العار لأن العرب في جاهليتهم كانوا في صراع حربي بين بعضهم البعض على الأمور التافهة وغير التافهة، وعلى الرغم من ذلك فإنها عادة ليس عند جميع السكان، وإنما عند كثير من العرب، وكذلك شرب الخمر والميسر والسحر وقتل النفس التي حرم الله، والزنا والربا وأكل الميتة والتبرج إلى غير ذلك من المحرمات، ورغم كل ذلك هناك قبائل عربية من أهل البادية كانوا على قدر كبير من الشرف والأخلاق، وكان في نظامهم الإجتماعي مجموعة من القوانين والأعراف والمبادئ التي بقيت حتى يومنا هذا، حيث أن الإنسان في بداية مراحله الحياتية يكون أقل خبرة في الحياة عمن سبقه في العمر، وهذا بطبيعة الحال من الأمور العادية، ولذلك هناك فروق في السلوك والأفعال فالشاب والفتى أكثر اتجاهاً للعدوانية في سلوكه بينما الشيخ أكثر تعقلا وتبصراً ودائما يتجه للسلم والاستقرار، وهذا ناتج من خبرته في الحياة.
ومن هنا فإن أهل القرى المستقرة، مروا في سابق عهدهم بالبداوة،أي أن البداوة مرحلة من مراحل عراك الإنسان مع الحياة، فمنهم من يثبت عليها ويبقى مجارياً لها، ومنهم من ينتقل إلى مرحلة تليها، فالتنقل والترحال أسبق من الاستقرار، والصيد والالتقاط أسبق من تربية الحيوانات والزراعة المنظمة، وبيت الكهف أسبق من بيت الصخر المنحوت أو المبني، وهكذا البداوة أصل الحضارة.. والحاجة أم (أصل) الاختراع، وعليه تكون أنظمة البادية أسساً سابقة لأنظمة القرى، وتكون عادات أهل القرى المستقرة متحولة عن عادات أهل البدواة أو نمطاً جديدا للحياة جاء بتغير واستحداث أنظمة تناسب حياة الاستقرار..
ونحن هنا نتحدث عن أسس ومبادئ مجتمع البادية وفق متطلبات حياتهم في الصحراء، حيث فرضت عليهم تلك الحياة القاسية والشاقة جملة من الأنظمة والأعراف كان أولها: " تقديم العون والمعونة لمن تنقطع به السبل من عابري السبيل ممن أعياهم السفر في الصحراء فنفذ زاده من الماء والطعام أو أصابه الجوع والعطش والأعياء والمرض أو للأذى، فكان الكرم وإكرام الضيف والنجدة والتفاخر بها، حتى صار قانونا وعادة من عادات الرجال الصناديد، ومن هنا دخل الاطمئنان لكل فرد في المجتمع وشجعه على خوض عباب الصحراء طولا وعرضاً، لانه سيجد من يعينه وينجده ويكرمه"، ولذلك كان عرب البادية مسلمين بفطرتهم وبفطنتهم حيث كانوا أهلا للكرم والنجدة والنخوة والشهامة والتضحية والفداء والاحسان وكذلك العفو عند المقدرة، وكانوا يوقرون كبيرهم ويحترمونه ويعطفون على صغيرهم ويشفقون على ضعيفهم وكل هذه القيم جاء الإسلام مؤكدا عليها ومعززا لها.
ومن أنظمة البادية وعاداتهم عدم أكل الميتة في عرفهم وتقالديهم هي عيب وعار، قبل أن يعرفوا أحكام الشريعة، ولذلك كانت الذبيحة تذبح أمام الضيف اكراما له واحتراما وتقديرا واطمئناناً ويقدم له الطعام كاملا غير منقوص، ومن أحكام البادية أيضاً الفصل في المنازعات فكانوا يعرفون القصاص في القتل والجروح ودفع الديات وحماية الضعيف والأجير والتصدي للظالم ونصرة المظلوم وكل ذلك جاء الإسلام ليؤكد عليه، ويصحح لهم منهجهم ونظامهم.
ولما كان المجتمع البدوي يخشى من العيب والعار، فكانت نسائهم تحظى بالرعاية والاهتمام فلهن حياتهم الخاصة داخل بيوتهن فلا يخرجن بمفردهن (دون محرم) ولا يخرجن إلا محجبات، وجاء الإسلام ليؤكد على ذلك فحافظ على خصوصية المرأة وجعل الرجال قوامون على النساء، ومسؤولين عن رعيتهم وحرَّم على النساء التبرج أو كشف العورة، وهذه القيم والأخلاق كانت موجودة قبل الإسلام في مجتمع البادية، كما عاقب الإسلام الزاني والزانية وفرض عليهما أشد أنواع العقوبة في الدنيا، وكانت عقوبة الزناة في المجتمع هي القتل ولا يزال المجتمع المحافظ يشدد على ذلك ويعتبر أن غسل العار أمراً مهما، فالزانية والزاني يقتلان من أجل حماية المجتمع والحفاظ على سلامته وطهارته وبنيانه السليم.
ومن هنا يمكننا القول أن العادات الأصلية لمجتمع البادية هي عادات إسلامية بالفطرة، قبل أن يتعلموا الشريعة الإسلامية، وحينما جاء الإسلام أصبح المجتمع البدوي أكثر المجتمعات العربية من جهة والإسلامية من جهة ثانية، تمسكاً بالشريعة الإسلامية وتعصباً لها، ودفاعاً عنها، ورغبة في الجهاد من أجلها، فهي معززة لقيمهم وعاداتهم ومصححة لمنهجهم، ولو قمنا بسرد عادات البدو وتقاليدهم لعرفنا مدى توافقها مع الشرع والسنة، حيث نجد في عاداتهم ما يلي:
الكرم - والنخوة - والعون - وعزة النفس - والوفاء بالعهد - والفداء والتضحية - والأمانة - وعدم الغدر (لأن من عادات العرب أن الغدر عيباً وعار وهمالة) كما أن الخيانة ايضا عار وعيب - والاحسان للآخرين فخر- والرحمة والعطف والشفقة والحنان من الشهامة - والفروسية والنجدة، ونصرة المظلوم والمستجير والطنيب - وعدم الافراط في استخدام القوة - والعفو عند المقدرة - والتسامح - وبر الوالدين - وحب التفاؤل وكره التشاؤم- والاحترام والتقدير - وحب النظافة- والتطلع للمجد والشرف- والشجاعة والثبات على الحق - والحرية والكرامة - والتفاخر بالأدب والحكمة وتبجيل الحكماء والعلماء والصالحين والشرفاء والوجهاء والشيوخ والفرسان والأبطال - وتعزيز كل مخل بالأدب ومعاقبة كل بواق وخائن وغدار- والاحساس بمشاعر الآخرين والتضامن معهم ومشاركتهم في الأفراح والمسرات والاحتفالات وفي المآسي والأحزان- وتقديم الواجب في أي مناسبة - والمحافظة على صلة الأرحام والنسب والقرابة والاعتزاز بالنسب وحفظه وتوثيقه وتوريثه للأبناء والأحفاد- والسعي لتحقيق السلم واصلاح ذات البين وتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين - والمساهمة في نشر الوعي الثقافي والتراثي وارساء قواعد العدل والمساواة- واحتقار وتأنيب كل عمل أو ظاهرة اجتماعية سيئة من قبل الجماعات أو الأفراد من أجل اجبارهم على العدول وتصحيح الأفعال والسلوكيات وذم كل جهل وجهالة - حتى أن أهل البادية كانوا على درجة عالية من المحافظة على الطبيعة وحبهم لكل شيء جميل وخلاب، فهم بحق أصدقاء للبيئة - وكانوا أول من مارس الرفق بالحيوان في الرعي والصيد والتربية.
كل هذه القيم والسلوكيات الحميدة والحسنة كانت من منهج ونظام مجتمع العرب البدو، لأن أسس الاستخلاف والحضارة الإنسانية الأخلاقية موجودة فيهم، فهم بحق أولى الجماعات والأقوام بالإيمان بالله وبتعاليم الشريعة الإسلامية وبتحمل مسؤولية نشر الدين الإسلامي بين الناس، وهم أكثر الأقوام البشرية اقتناعا بتصحيح السلوك والأفعال، وأسرع من غيرهم بالاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، فمن صفاتهم الأساسية التسامح وقبول الاعتذار والعفو والصفح، وأقرب من غيرهم للتعاضد والألفة والمحبة، وتلك هي الصفات الأساسية والرئيسية الأصيلة لطباع البدو، وما هو مغاير لذلك فليس من أصل عاداتهم وطباعهم..