التغريبة الهلالية ما بين التاريخ والأدب، تنقسم إلى 1- هجرة نجدية من الجفاف إلى الخصـب 2- جيش شامي لمحاربة المعز بن باديس، لأجل الدولة الفاطمية. إلا أن التوقيت الزمني لهذين الحدثين هو توقيت مشترك 442هـ/ 1050م، سنقوم بالحديث في هذين الحدثين، وفق منهج الوصف والبحث التاريخي.
أولاً: التغريبة الهلالية في الأدب الشعبي:
فقصة البحث عن موضع خصب تتوفر فيه المراعي والزرع والماء، لقبيلة تسكن نجد وقريبة من مناطق الخصب في العراق والشام، وأن الموضع المناسب لها يوجد في تونس بأقصى الغرب، هو أمر خيالي جداً ولا يمكن قبوله من الناحية الاجتماعية ولا الجغرافية ولا التاريخية.
النقطة الثانية ايضاً في الأدب الشعبي: أن الوفد مكون من ثلاثة إلى ستة فرسان مهمتهم الاستطلاع والبحث، فخرجوا في رحلة طويلة يقدر طولها بنحو أكثر من 5 شهور ذهاباً وإياباً، وهذا أمر لا يمكن انتظاره من أجل ابلاغ القبيلة عن موطن جديد يحل أزمة الجفاف والقحط الذين يعانون منه، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمكن لهؤلاء الفرسان أن يخوضوا معارك مع جيش أو جيوش، ولكن الأمر السائد لدى البدو في حالة الجفاف والقحط أن يتحركوا جميعاً باتجاه مكان آخر فهم أعلم من غيرهم في ذلك، وطبيعة حياتهم أصلا هي الترحال والتنقل فهم يشتون في موضع ويصيفون في آخر، بحثا عن الدفئ في الشتاء وبحثا عن المراعي في الربيع، وبالمناسبة إن بلاد الشام بشكل خاص كان معروفا منذ الجاهلية بخصوبة أرضه واعتدال مناخه ووفرة مياهه ومراعيه عند عرب الحجاز، وكان يشتهر عندهم بأنه مستطرف أهل الحجاز، وكانت القبائل تنزله عبر رحلاتها التجارية منذ القدم.
وهنا لا يمكن التسليم بهذا التهويل المفرط للأحداث التي وردت في الأدب بهذا السرد اللامنطقي، والأرجح أن القحط والجفاف إن أصاب منطقة فإنه يؤثر على عدد كبير من السكان، ويتطلب منهم التصرف السريع للخروج من هذه المشكلة البيئية، والحقيقة تؤكد تعرض كثير من البلدان لأوقات من الجفاف والقحط حدثت على أثرها هجرات ورحيل عام، مثل الهجرة من العراق إلى الشام في سنة 825هـ/1422م بسبب تعرضهم للقحط والجور(1)، ولا ننسى بأن القحط قد أصاب الناس بالمدينة وما حولها، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عام الرمادة سنة 18هـ ، وارسلت قوافل الاغاثة من مصر والشام والعراق إلى المدينة، وهناك أيضاً نوبات من القحط قد أصابت الشام وأخرى مصر، فأمر القحط أو المجاعة أمر قد حدث بالفعل لكن سرد قصة التغريبة الهلالية لهذا الأمر هو سرد غير منطقي كما أوضحنا، وعلى أية حال فإن الأدب الشعبي للتغريبة الهلالية هو عبارة عن قصص وروايات مختلفة تماماً عن الوقائع التاريخية الحقيقية للجيش الهلالي الشامي الذي نزل مصر متوجها إلى المغرب العربي الكبير سنة 442هـ.
ثانياً: الجيش الهلالي إلى المغرب الكبير:
جاء ووفق السرد التاريخي، عدة حقائق لا بد من أن نذكرها وهي:
1- وقع صدام عسكري بين قوات الجيش الفاطمي وقوات الجيش القرمطي في فلسطين سنة 368هـ/ 978م، وكان في الشام قوات من بني هلال تقاتل مع القرمطي ضد الجيش الفاطمي، ومعهم قوات من بني سليم وبني عوف بن عامر.
2- حدث اتفاق بين عرب الشام على مبايعة أمير مكة سنة 401هـ، حيث اتفقت كل من بني هلال وبني سليم وبني عوف بن عامر على مبايعة أبو الفتوح الحسن بن جعفر بالخلافة وتسميته الراشد بالله، وهو تهديد للخلافة الفاطمية، لأن هذه القبائل تسيطر على العراق وسوريا وفلسطين والبحرين وشرق الجزيرة العربية والحجاز، وكانت جيوشهم تتمركز بالقرب من حدود مصر الشرقية.
3- وقع صراع وعصيان من قبل قبائل بني قرة الهلالية وغيرهم من عرب مصر مع الدولة الفاطمية سنة 442هـ /1050م وكذلك عصيان آخر سنة 467هـ/ 1074م.
4- استقدام قوات بني هلال وبني سليم بطلب من الخلافة الفاطمية سنة 442هـ أمر حقيقة يتعارض من الناحية السياسية لما في مصر من صراع مرعب بينهم وبين قبائل الشام والعراق والحجاز الذين هم ضد التوسع الفاطمي، وصراع آخر بين الفاطميين (السلطة الحاكمة) وبين بني هلال في البحيرة نفس تاريخ قدوم قوات بني هلال من الشام، كيف يستحضر الفاطمي جيشاً حربياً إلى بلاده، قريب من الناحية العرقية لبني قرة الذين تواجههم الحكومة بقمع وحرب شعواء؟! وكيف يستقدم الفاطمي جيشاً هلالياً كان قبل وقت قصير يخوض حرباً مع القرامطة ضد الفاطميين! أليس في هذا الخبر غرابة ودهشة! كما أننا نلاحظ بأن وجود قبائل من بني هلال بن عامر بن صعصعة في مصر قبل تاريخ التحرك الهلالي الشامي إلى المغرب، حيث نزل قوم من بني هلال مصر سنة 109هـ/727م مع ربعهم هوازن وقيس، وورد بأن بني قرة كانوا في مصر سنة 396هـ/ 1005م وكان كبيرهم اسمه مختار بن قاسم (2) وحيث أن دخول قوات بني هلال وبني سليم وبني عوف من الرملة بفلسطين إلى مصر كان في 442هـ/1050م نفس هذا التاريخ كانت فيه مواجهة دامية بين بني قرة في البحيرة مع قوات الجيش الفاطمي إلى جانب قوات من طيء وبني كلب ضد بني قرة لدحرهم عن البحيرة، وبعد عدة سنوات من ذلك وقع صدام آخر بين بني قرة والفاطميين أي سنة 467هـ/1074م وفي نفس هذا التاريخ كانت قوات بني هلال قد استقرت في بلاد طرابلس وتونس بعد قتالهم ضد ابن باديس، فصار من قبيل الصدفة لصالح الدولة الفاطمية "العبيدية".
ومن هنا فنحن نستدل على شيء لا بد أنه مهم من الناحية التاريخية، وهو إنَّ دخول قوات بني هلال من الشام إلى مصر ليس بطلب من وزير الدولة الفاطمي أبو الحسن اليازوري كما أشيع بل هو دخول لنصرة قبائلهم في منطقة البحيرة، إلا أنَّ دخولهم إما وقع بخدعة وحنكة أنهم مناصرين للجيش الفاطمي، ومنشقين عن القرامطة ويرغبون بالانضمام للفاطميين، أو أنه تواطئ ورشوة مع الوزير الفاطمي، أو إن دخولهم كان عنوة وبالقوة وعدم قدرة الفاطميين على التصدي لهم، ومما يلاحظ من الأحداث التاريخية بعد دخول قوات بني هلال بالمناسبة هم عدة قبائل قيسية وليست من بني هلال فقط، ويرافقهم فرسان من قبائل أخرى تربطهم بهم صلة رحم، حيث يلاحظ بأنه بعد دخول هذه القوات إلى مصر، تمكنت بني قرة من العودة من برقة مرة أخرى إلى البحيرة وطرد قبائل طيء وكلب منها، وهذا دليل على وجود دعم سياسي وعسكري ومساندة لها، والملاحظة الهامة بعد ذلك إن توسع بني هلال وقبائل قيس في الشمال الافريقي وقتالهم ضد ابن باديس ليس دعما للدولة الفاطمية ولا وقوفا ضد مذهب أو طريقة، وإنما هو قتال وقع بسبب تنافس عرقي محض من جهة وتنافس على التوسع الجغرافي للقبائل من جهة ثانية، بدليل أن القبائل العربية القديمة التي كانت في صفوف ابن باديس، تخلت عنه وانضمت لقبائل بني هلال وبني سليم، فلو كان الأمر متعلق بصراع سياسي أو مذهبي لما وقع ذلك، وإنما الامر مختلف تماما.
ولما تمكن العرب من هزيمة صنهاجة في تلك الفترة، اقتسموا الأراضي وتوزعت القبائل ما بين برقة وطرابلس وتونس مثل بني زغبة وبني قرة وبني رياح وبني سليم وغيرهم، هذا التوسع الجديد، دفع الفاطميين إلى انشاء علاقة جديدة مع العرب بناءا على هذه الوقائع خوفاً على سلطتهم، فادعى المؤرخون ما ادعوه في العصر الفاطمي من أنهم استقدموا بني هلال لقتال ابن باديس واباحوا لهم بلاد المغرب! وأنهم دفعوهم إلى هناك ليخلصوا من شرورهم! كيف يستقدم الخليفة قوات قتالية من الشام إلى مصر بعدد ضخم وهو في نفس الوقت يخشى شرورهم ويحاربهم!، وصار هذا الخبر يتناقل عنهم بعد ذلك لدى مؤرخي العصر الفاطمي، ورسخ في أذهاننا فصدقناه، ليس الأمر كذلك ولا بهذه السهولة واليسر، إلا إن كانت الدولة الفاطمية أذعنت لدخول بني هلال وخشيت التعرض لهم، الأمر الذي أدى إلى انتشار صيت بني هلال كفرسان وأبطال لا يهابون السلاطين ولا الحكومات في ذلك الوقت مما أدى إلى انطلاق سيرتهم وأدبهم كأدب بطولي واسطوري تهوى الأفئدة العربية بطبيعتها إلى الاستمتاع والتفاخر به وتريبة النشئ بتلك القصص البطولية.. والتي هي بحق بطولة واصرار على الوصول للأهداف حتى لو كانت بعيدة وصعبة.
ثالثاً: الادعاء بانزياح كافة عرب بني هلال دفعة واحدة، أو كلهم إلى المغرب والشمال الأفريقي:
أمر جد، في غاية الاستغفال، فقد رأينا في استعراضنا المختصر بأن بني هلال كانت قبل 442هـ موزعة جغرافيا في عدة مناطق، وهي بلاد الشام في سوريا وخصوصا بالجنوب منها، وكان أقوام منهم في المدينة المنورة والحجاز، وكان أقوام منهم في الاحساء وجنوب العراق، وكان قوم منهم في الرملة بفلسطين، وكان أقوام منهم بنجد وعمُان واليمن، وآخرين في بلبيس بالشرقية من مصر، وآخرين كانوا في البحيرة وبرقة قبل تاريخ وزمن التغريبة بكثير، حتى أنه وأثناء حدوث المعارك بين بني هلال وصنهاجة في تونس كان بني هلال في بقية أنحاء مصر وشرق الجزيرة العربية، كما كانت هناك صراعات وحروب داخلية بين بني هلال أنفسهم ذكرها بعض المؤرخين، والحقيقة أن التغريبة الهلالية فيها من التضليل والتهويل والتضخيم وايضا الافتراء على بني هلال وعلى العرب، وتشويه لجزء من تاريخ بني هلال، كما أن هذه الأحداث لم يشترك فيها كل قبائل بني هلال، والتي كانت في ذلك الوقت قبائل وليست قبيلة، فهي موجودة زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانتشر منها قادة وصحابة وعلماء في أرجاء أراضي الخلافة الإسلامية في العهد الراشدي والأموي والعباسي، حتى كان منهم من يسكن أراضي الري و خراسان والأندلس وليس في البلاد العربية فقط.
وخلاصة القول: إن عرب بني هلال كأي عرب آخرين قديما وحديثاً، فيهم خصائص وصفات نبيلة وجليلة ولهم تاريخ عريق وطويل وعميق منذ فجر الإسلام، ولا يختزل تاريخهم في التغريبة فقط، بل تاريخهم أعظم وأكبر من ذلك وهم موجودين في شتى بقاع الديار العربية الإسلامية كافة، وتراثهم ضخم وفيه الكثير جدا من الكنوز الثقافية والأدبية والتاريخية، وإن شاء الله نتمكن من نشر قصص منه في مقالات متعددة في هذه المدونة..
(1) ابن شاهين الظاهري، نيل الأمل في ذيل الدول، ج4، ص111
(2) المقريزي، اتعاظ الحنفاء، ج2، ص68