فعلم الجغرافيا لا يزال حتى يومنا هذا، يراوح مكانه، في الصروح العلمية، وكأنه محكوم عليه أن يبقى أسيراً مدى الحياة، لحضارة الإغريق وفلسفة اثينا وخرائط اليونان والرومان، ولا يزال يدرس هذا العلم كعلم وصفي! على الرغم من أنه أحد أهم علوم الحضارة العربية الإسلامية، ومن أضخم العلوم القديمة التي ساعدت الحضارات على الزحف والتمدد والنماء..
ولما كان علم الجغرافيا، قد تعدى مرحلة الوصف إلى مراحل التحليل والتفسير والتعليل الكمي والنوعي، ومعالجة المشكلات ووضع الحلول، فمن الضرورة أن يتطور المنهج وتتشعب منه أنطلاقة جديدة تواكب هذا التطور التكنولوجي الرهيب وتخدم مصالح الإنسان على هذه الأرض، وهذا أمر ممكن وواضح وله بالطبع فوائد جمة لا تعد ولا تحصى، ويجب ألا ننسى بأنه العلم الذي يدرس العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به، وهذه العلاقة اليوم تطورت تطورا هائلاً، وليست هي تلك العلاقة التي كانت حاضرة لحضارات الامم السحيقة في التاريخ، إن علاقة الإنسان بالبيئة وفق منظور التأثر والتأثير اتسعت وتعمقت وتشعبت، وبناءاً على ذلك يجب أن نرى علم الجغرافيا من جديد يلعب دورا هاماً في تذليل كافة العقبات التي تعترض هذه العلاقة..
ففي الوقت الذي غابت فيه شمس الحضارة العربية الإسلامية، عن القارة الباردة، كان علم الجغرافيا يتلألأ ويرسل أنوراه لتقشع الظلام أمام عيون الأوربيين، فيروا كل الطرق والسبل أمامهم مفتوحة ليتتبعوا آثار تلك الحضارة التي كانت يوما ما تضيء الأرض كلها بنورها الذهبي، فانطلق الجغرافيون وتشكلت الجمعيات الجغرافية والرحالة يخوضون كل موطئ قدم مرت منه خيول الحضارة العربية الإسلامية، وعلى إثر ذلك تعاظمت قوة الحضارة الغربية وبدأت تلتهم الأخضر واليابس والتي على ما يبدو لم يشبع نهمها حتى اليوم، ونحن نتفرج ونتلقى ونسمع ونرواح مكاننا معتمدين على الاستيراد والاستهلاك فقط، وازدادت ظواهر التخلف والغباء والتقهقر وتنامى الكسل والخمول، فأين نحن من حضارة الأجداد الذين خاضوا السهل والصعب من أجل نشر النور والعدالة والمساواة والأخلاق النبيلة بين البشرية جمعاء، في زمن قصير جداً، بلغوا قمة الحضارة والتاريخ والمجد، وتركوا للعالم أساسيات العلوم والحضارة.
إن علم الجغرافيا يجب أن يظهر من جديد، ولكن بحلة حضارية فخمة وثمينة، وهذا ممكن جداً، ولكنه بحاجة لمن يفهم ويعي ويبصر ويتأمل ويعرف جيدا ضرورة ذلك، فكون علم الجغرافيا علم ذو صلة ترابطية مع كل العلوم الأدبية والعلمية فهو اذا علم متطور وواسع ويمكن أن يخوض غمار الأمواج المتلاطمة التي تحطم كل شيء يعترضها، فيكون له دورا جليلا في معالجة كل العوائق والمشكلات التي تواجه العالم بأسره..
فعلم الجغرافيا: يدرس ويهتم بالسكان الذي وصل الأن عددهم في العالم كله نحو أكثر من 7 إلى 8 مليار نسمة!! وبحجم هذا العدد الهائل هناك مشكلات بيئية وسكانية واجتماعية في كل بقعة أو دولة من دول العالم البالغة نحو أكثر من 200 دولة، تتوزع على قارات العالم السبعة..
ومن اهتمامات علم الجغرافيا وفروعه: 1- الطبيعية ( الجيولوجيا والتضاريس - والمناخ - والنبات والحيوان - والمسطحات المائية)
2- البشرية: السكانية والديموغرافيا - والاقتصادية - والسياسية - العمرانية
3- الفلك وعلم الخرائط.
ومن هذه الفروع يمكننا أن نضع خارطة متشعبة للمجالات والدراسات التي يمكن للجغرافيين الخوض في أعماقها، بناء على مشكلات العالم المعاصر، بهدف أن تكون أكثر تخصصا وتعمقا وأكثر صلة بالتخطيط الاستراتيجي لمعالجة مشكلات العالم المتزايدة والمستعصية سواءً على الصعيد العالمي أو الدولي أو المحلي: ونضع الأمثلة على ذلك
1) ففي مجال السكان والبشر: - جغرافيا الجريمة و الارهاب - جغرافية الصراع الفكري والثقافي - جغرافية المشكلات الاجتماعية - جغرافية التطور التكنولوجي - جغرافية الهجرة العالمية - جغرافية الصراع السياسي - جغرافية الثورات التحررية - جغرافيا الحروب البشرية - جغرافية الاستصلاح الزراعي - جغرافية التطور الصناعي - جغرافية العلاقات التجارية الدولية - جغرافية التخطيط العمراني - جغرافية الاستقرار البشري- جغرافية الدولة القوية - جغرافية الأمراض والمشلات الصحية - جغرفية اللغات - جغرافية العواصم المثالية - جغرافية المنشآت الاستراتيجية - الجغرافية التاريخية - جغرافية الديانات .. الخ
2) ففي مجال الطبيعة : جغرافية التغير المناخي - جغرافية التلوث - جغرافية التصحر - جغرافية المياه - جغرافية الموارد الحيوية - جغرافية الاستغلال الأمثل للأرض - جغرافية الفضاء - جغرافية التربة - جغرافية الأعاصير - جغرافية الزلازل - جغرافية الكوراث الطبيعية - جغرافية المعادن الثمينة - جغرافية الأنهار - جغرافية الغابات - جغرافية الثروات الطبيعية ....الخ، ولينتقل هذا العلم من المجال النظري إلى المجال التطبيقي والتكنولوجي مثله مثل علوم الأرض وعلوم الهندسة وعلوم الطب، وليكن له مجاله في الاختراعات والابتكارات.
3- الفلك وعلم الخرائط وهو علم واسع ايضا ويمكن تنوعه وتعد اختصاصاته : في النجوم والكواكب وكل الأجرام السماوية كالنيازك والمذنبات والأقمار والمجرة ، والمجموعة الشمسية والجاذبية وطبقات الفضاء والغازات والظواهر الجوية.. الخ
والخرائط العالمية ايضا يمكن تقسيمها وتنوع اختصاصاتها لتغطي ليس فقط قارات العالم والظواهر الطبيعية بل لتشمل كل العلوم والتخصصات والمجالات الحياتية للإنسان، ويجب الاهتمام في مجال الخرائط وتعليمه على أصوله، ليكن الجغرافيون العرب خاصة في هذا الوقت هم المختصون بانتاجها وتصميماتها لا أن يدرسوها دراسة نظرية فقط، بل يجب دراستها والتدريب على تصميمها تصميما دقيقاً وانتاج مجموعات ضخمة منها كأطالس شاملة لكل متطلبات الإنسان المعاصر، وليكن لأصحاب هذا العلم لمسات وبصمات هامة في التخطيط الاستراتيجي لبلدانهم وأوطانهم وشعوبهم وأمتهم من أجل اثراء ودفع عجلة التقدم والتطور والنهضة والاصلاح وايجاد المجتمعات الحضارية الواعية والسليمة والصحيحة..
4- يجب افساح المجال أمام الأنشطة الجغرافية كافة في الدول، وخاصة " الدول العربية" والتشجيع على اقامة الاندية والندوات والمؤسسات والمراكز والجمعيات الجغرافية المتنوعة والتي تغطي كافة المجالات التي ذكرناها آنفا، والتي لم نذكرها نحن لأننا نعطي الأمثلة فقط، وعلى ذوي الاختصاص وأصحاب القرار الخوض في التفاصيل الدقيقة لهذه الاقتراحات وأخذها على محمل الجد والاهتمام ومجال التطوير والتوسع في هذا العلم كما قلت هو مجال مفتوح، وهذا أيضاً ينطبق على كافة العلوم الأخرى المتشاركة في نفس المجالات التي تساهم بقوة في تطور المجتمع ونهضته وبناء قوته.
إقرأ ايضا موضوع المؤرخ