مطلب في الروايات والحكايات

 

مطلب في الحكايات

من أقوال ورؤى السلف عن الحكايات والروايات 

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ [رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى]: "الحِكَايَاتُ عَنِ العُلَمَاءِ وَمَحَاسِنِهِمْ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الفِقْهِ؛ لِأَنَّهَا آدَابُ القَوْمِ".

وَأَمَّا (مَا) لَعَلَّهُ يُذْكَرُ مِنْ مِحَنِ مُمْتَحَنِهِمْ، فَفِيهِ مَسْلَاةٌ لِلْمُمْتَحَنِينَ، وَأَدِلَّةٌ عَلَى ثَبَاتِ قَدَمِهِمْ فِي الصَّالِحِينِ، وَكَذَا مَا يُذْكَرُ مِنْ بُلْدَانِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ.

وَقَالَ الْبُرْهَانُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ فَرْحُونَ -ابْنُ أَخِي الْمَاضِي- فِي خُطْبَةِ "طَبَقَاتُ الْمَالِكِيَّةِ" لَهُ:

"شَرَفُ العِلْمِ لِهَذَا العِلْمِ مَعْلُومٌ، وَالْجَهْلُ بهِ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا قِيلَ فِيهِ: (عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ، وَجَهَالَةٌ لَا تَضُرُّ) فَإِنَّ ذَلِكَ مَقُوَلٌ فِي عِلْمِ الْأَنْسَابِ، وَهُوَ فَنٌّ غَيْرُ هَذَا" انْتَهَى.

بَلْ الأنْسَابُ مِمَّا يَجِبُ الِاهْتِمَامُ بِهِ، وَفَوَائِدُهُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَوْدَعَ الشِّهَابُ الْقَلْقَشَنْدِيُّ فِي كِتَابِهِ فِيهِ مِنْهَا الْكَثِيرَ .

وَقَالَ الوَلَّوِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ المَالِكِيُّ فِي "تَارِيخِهِ": .....

وَقَالَ الْمُوفَّقُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْخَزْرَجِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ "تَارِيخُ اليَمَنِ" مَا نَصُّهُ:

"حَدَانِي عَلَى جَمْعِهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ إِهْمَالِ النَّاسِ لِفَنِّ التَّارِيخِ، مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَعْوِيلِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ عَلَيْهِ، وَلِمَا يَنْدَرِجُ فِي ضِمْنِهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ، وَتَفْصِيلِ شَوَابِكِ الْأَرْحَامِ وَالْأَنْسَابِ".

قَالَ: "وَلَوْلَا مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ مَا اتَّصَلَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَفِ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ السَّلَفِ، وَلَا عُرِفَ فَاضِلٌ مِنْ مَفْضُولٍ، وَلَا امْتَازَ مَعْرُوفٌ عَنْ مَجْهُولٍ".

وَقَالَ الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الْمِصْرِيُّ المَالِكِيُّ:

"لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَوَائِدِهِ إِلَّا رُؤْيَةُ الْحِكَايَاتِ السَّالِفَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الْمُتَرَادِفَةِ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَا يُسَلِّي الْوَجْدَ مِنْ سُوءِ هَذَا الزَّمَنِ الْأَلِيمِ، وَيُعْلَمُ مِنْهَا أَنَّ مِصْرَاعَ الْهَمِّ قَدِيمٌ".

حِكَايَةٌ مُفِيدَةٌ

فَحَكَى الأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ الأَبَّارِ -أَدِيبُ الْأَنْدَلُسِ- فِي "التُّحْفَةُ":

"أَنَّ الْأَمِيرَ تَمِيمَ بْنَ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ خَرَجَ غَازِيًا فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مَيْمُونٌ الْهَوَّارِيُّ أَحَدُ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ وَنُبَهَائِهَا، وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ -وَكَانَ مَدَارُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَصْرَفُ حُكْمِهِمْ إِلَيْهِ- فَنَزَلُوا بِظَاهِرِ مُرْسِيَةَ فَلَقِيَهُمْ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ هُنَالِكَ، وَدَارَ بَيْنَهُمْ فِي مُجْتَمَعِهِمْ مَا أَفْضَى إِلَى التَّفْضِيلِ بَيْنَ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) وَ (الْحَمْدُ لِلهِ) فَغَلَّبَ أَبُو الْوَلِيدِ (الهَيْلَلَةَ) وَأَبُو مُحَمَّدٍ (الْحَمْدَلَةَ) فَقَالَ مَيْمُونٌ يُخَاطِبُهُ زَارِيًا عَلَيْهِ وَكَتَبَ بِهِ إِلَيْهِ:

أَعِدْ نَظَرًا فِيمَا كَتَبْتَ وَلَا تَكُنْ ... بِغَيْر سِهَامٍ لِلنِّضَالِ مُسَارِعَا

فَدُونَكَ تَسْلِيمَ العُلُومِ لِأَهْلِهَا ... وَحَسْبُكَ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُتَابِعَا

أَخِلْتَ ابْنَ رُشْدٍ كَالذِينَ عَهِدْتَهُمْ ... وَمَنْ دُونَهُ تَلْقَى الهِزَبْرَ المُدَافِعَا

فَأَجَابَهُ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ وَضَّاحٍ مُنْتَصِرًا لِأَبِي مُحَمَّدٍ وَعَلَى لِسَانِهِ:

رُوَيْدَكَ ما نَبَّهْتَ مِنِّي نائمًا ... وَدُونَكَ فَاسْمَعْهَا إِذَا كُنْتَ سَامِعَا

فَلَو سَلِمَتْ تِلْكَ العُلُومُ لِأَهْلِهَا ... لَمَا كُنْتَ فِيمَا تَدَّعِيهِ مُنَازِعَا

وَلَوْ ضَمَّنَا عِنْدَ التّنَاظُرِ  مَجْلِسٌ ... سَقَيْنَاكَ فِيهِ السُّمَّ لَكِنَّ  نَاقِعَا

وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَمَّارٍ هَذَا أَيْضًا فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ (وَلَكِنَّنِي أَرَدْتُ بِحِكَايَتِهِ تَمَامَ الاِسْتِشْهَادِ بِهِ لِلتَّسَلِّي، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ):

"وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ شَرَكَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ قَدِيمًا، وَلَا أُرِيدُ بِالشَّرِكَةِ أَنَّهُمْ دَاخَلُوا الْعُلَمَاءَ بِالْحِرْصِ عَلَى الْجِدِّ فِي الطَّلَبِ لِلعِلْمِ حَتَّى يَنَالُوا مَرْتَبَتَهُمُ الْعَلِيَّةَ، وَإِنَّمَا شَرَكُوهُمْ بِسَيْفِ الْجَاهِ وَحَيْفِ الْمَالِ فِي مَرَاتِبِهِمُ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُمْ شَرْعًا وَقَهْرًا وَغَلَبَةً، وَالتَّلَبُّسِ بِخِرْقَةِ طَيْلَسَانِهِمْ وَعَذَبَتِهِمْ، وَإِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْهُمْ بِعَيْنِ الْحَقِّ وَالنُّورِ تَجِدُهُمْ تَشَبَّعُوا بِمَا لَمْ يُعْطَوا، وَلَبِسُوا ثَوْبَيْ بُهْتَانٍ وَزُورٍ، وَانْقَلَبُوا هُزْأَةً لِلسَّاخِرِينَ وَضُحْكَةً لِلنَّاظِرِينَ بَلْ صَارُوا تَارِيخًا يُعَادُ بِذِكْرِهِ وَيُبْدَأُ، وَيُرَادُ التَّنْوِيهُ بِهِ فِي دَفْعِ الْأَعْدَاءِ".

[قِصَّةُ سِيبَوَيْهِ مَعَ الكِسَائِيِّ] 

قَالَ :

"وَقَدْ غُبِنَ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَمَاتُوا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانُوا بِالعِلْمِ أَحْيَاءً تَصْنِيفًا وَتَحْدِيثًا. فَسِيْبَوَيْهِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ النَّحْوِ، وَأَخَذَهُ عَنِ الْعَرَبِ شِفَاهًا، وَالْفَائِقُ فِي تَعْبِيرِهِ عَنِ العُلُومِ الَّتِي حَقَّقَهَا وَاصْطَفَاهَا، قَدْ قَتَلَهُ الْغَبْنُ، وَخَصَمَهُ الْمُنَاظِرُ لَهُ الْكِسَائِيُّ لَمَّا أَحْضَرَهُ الْبَرَامِكَةُ مَعَهُ، وَسَأْلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ الزُّنْبُورِ وَأَجَابَ سِيبَوَيْهِ بِالصَّوَابِ فِيهَا وَمَا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعَرَبِ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَالْكِسَائِيُّ يَأْبَاهُ مُغَالَبَةً بِسَيْفِ التَّجَوُّهِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الرَّشِيدِ، حَتَّى أَحْضَرُوا الْعَرَبَ لِتُصَوِّبَ أَحْدَهُمَا، فَوَافَقَتِ الكِسَائِيَّ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ قَوْلُ الكِسَائِيِّ؛ لِمَنْزِلِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ فِيمَا قِيلَ أُرْشُوا عَلَى ذَلِكَ، مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ النُّطْقَ بِهِ، وَسِيبَوَيْهِ يَقُولُ لِيَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ: مُرْهُمْ أَنْ يَنْطِقُوا بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ أَلْسِنَتَهُمْ لَا تَنْهَضُ بِهِ. فَمَا وَسِعَ سِيبَوَيْهِ إِلَّا أَنْ خَرَجَ مِنَ البَصْرَةِ قَهْرًا وَغَبْنًا [إِلَى فَارِسَ] وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَات.

وَقَدْ ضَمَّنَ (ابْنُ) حَازِمٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الْوَاقِعَةَ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى المَسْأَلَةِ، مَنْظُومَتَهُ النَّحْوَيَّةَ، فَقَالَ. وَسَاقَ الْأَبْيَاتَ .

وَمِمَّنْ مَاتَ بأَخَرَةٍ غَبْنًا (الإِمَامُ) الْجَمَالُ ابْنُ مَالِكٍ، رَاوِيَةُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ نَحْوًا وَلُغَةً، فَإِنَّه مَعَ أَوْصَافِهِ الْجَلِيلَةِ، وَكَوْنِهِ كَانَ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ الاحْتِيَاجِ وَضِيقِ الْوَقْتِ، عُورِضَ فِيمَا اسْتَقَرَّ فِيهِ مِنْ خَطَابَةٍ بِبَعْضِ قُرَى دِمَشْقَ مِنْ بَعْضِ جَهَلَتِهَا، وَانْتُزِعَتُ مِنْهُ لَهُ، فَكَادَ أَنْ يَمُوتَ، سِيَّمَا وَقَدْ حَضَرَ الْجُمْعَةَ وَسَأَلَ الْجَاهِلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ عَنْ مَخْرَجِ الْأَلِفِ، فَتَحَيَّرَ وَظَنَّ أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ، ثُمَّ عَدَّدَ لَهُ حُرُوفَ الهِجَاءِ مُبْتَدِئًا بِالْأَلِفِ وَسَرَدَهَا، فَصَاحَ الْعَامَّةُ الَّذِينَ تَعَصَّبُوا لِهَذَا الْجَاهِلِ سُرُورًا؛ لِكَوْنِهِ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ بِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ! وَمَا وَجَدَ الْجَمَالُ نَاصِرًا، بَلِ اسْتَكَانَ، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ".

قَال الْقَاضِي الْأَرْجَانِيِّ الْبَدِيعُ الأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي:

إِذَا عَلِمَ الإِنْسَانُ أَخْبَارَ مَنْ مَضَى ... تَوَهَّمْتَهُ قَدْ عَاشَ مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ

وَتَحْسَبُهُ قَدْ عَاشَ آخِرَ عُمْرِهِ ... إِذَا كَانَ قَدْ أَبْقَى الجَمِيلَ مِنَ الذِّكْرِ

فَقَدْ عَاشَ كُلَّ الدَّهْرِ مَنْ كَانَ عَالِمًا ... حَلِيمًا كَرِيمًا فَاغْتَنِمْ أَطْوَلَ العُمْرِ

كتاب الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ ت الظفيري،شمس الدين السخاوي المتوفي سنة 902هـ

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم