الصحة عند العرب قديما


الصحة عند العرب
لم يجهل العربُ أهميةَ حفظ الصحة، وكان العرب يعرفون جيداً أن علم الصحة يُعلِّمنا طرق الوقاية من الأمراض التي لا يستطيع الطب شفاءها، وكانت مناهجهم الصحية طيبةً منذ القديم، وما أَمَرَ به القرآن من الوضوء، والامتناع عن شرب الخمر، ثم ما صار عليه أبناء البلاد الحارَّة من تفضيل الطعام النباتي على الطعام الحيواني غايةٌ في الحكمة، وليس فيما نُسِب إلى النبيِّ من الوصايا الصحية ما يُنْتَقَد.

وكان من عادة مؤلفي العرب الغالبة أن يُوجِزوا وصاياهم الصحية في كلمات جامعة يسهل حفظها، ومن ذلك ما قاله طبيب عربيٌّ في القرن التاسع من الميلاد:

ليس شيءٌ أضرَّ بالشيخ من أن تكون له جاريةٌ حسناءُ وطباخٌ ماهر.

ويظهر أن مشافيَ العرب التي أنُشئت فيما مضى أفضل صحياً من مشافينا الحديثة؛ فقد كانت واسعةً ذات هواء كثير وماء غزير.

ولما عُهِد إلى الرازي في اختيار أفضل حي في بغداد لإقامة مشفًى عليه التجأ إلى طريقةٍ لا يُنكرها عليه أصحاب نظرية الميكروب الحديثة، وذلك أنه علَّق قطعة لحمٍ في كل حي من أحياء العاصمة، وأعلن أن أصلح حيٍّ يقام عليه المشفى هو الحي الذي يتأخَّر فيه فساد قطعة اللحم المعلَّقة عن الأحياء الأخرى.

وكانت مشافي العرب، كمشافي أوربة في الوقت الحاضر، ملاجئَ للمرضى وأماكن لدراسة الطلاب، وكان الطلاب يَتَلقَّون دروسهم في فُرُش المرضى أكثر مما يتلقَّونها في الكتب، ولم تُقَلِّدهم جامعات أوربة في القرون الوسطى إلا قليلاً.

وأنشأ العرب مشافيَ للمصابين ببعض الأمراض كالمجانين، وكان عند العرب، كما عندنا جمعياتٌ للإحسان تقوم بمعالجة فقراء المرضى مجانًا في أيام معينة، وكان يُرسَل في الحين بعد الحين أطباءٌ وأدويةٌ إلى الأماكن القليلة الأهمية التي لا تستحقُّ أن يقام فيها مشفى.

ولم يجهل العرب تأثير الجو الصحي، ومن ذلك نص ابن رشد في شروحه لكتب ابن سينا على تأثير الإقليم في داء السِّلِّ وإيصاؤه المصابين به، كما يوصون الآن، بأن يَقضوا فصل الشتاء في جزيرة العرب وبلاد النوبة، واليومَ نرى المصابين بداء السِّلِّ يُرْسَلون، في الغالب، إلى بقاع النيل القريبة من بلاد النوبة.

وتنطوي وصايا مدرسة ساليرم على نصائحَ غاليةٍ في علم الصحة، ولا أحدَ يجهل أن هذه المدرسة، التي عُدَّت أولَ مدرسةٍ في أوربة زمناً طويلاً، مدينةٌ للعرب بشهرتها، وذلك أن النورمان، لمَّا استولوا على صقلية وعلى جزء من إيطالية في أواسط القرن الحادي عشر من الميلاد، أحاطوا مدرسة الطب التي أنشأها العرب بما أحاطوا به المعاهدَ الإسلامية من الاعتناء الكبير، وأن قسطنطين الإفريقيَّ، الذي كان من عرب قرطاجة، عُيِّن رئيساً لها، وأنه ترجم أهمَّ كتب العرب الطبية إلى اللغة اللاتينية، فاقتُطِفَت من هذه الكتب وصايا مدرسة ساليرم التي ظَلَّت سببَ شهرتها الفائقة زمناً غير قصير.

وكان العرب يعتمدون كثيراً على علم الصحة في معالجة الأمراض، وعلى الوسائل الطبيعية، وليس غيرَ ذلك أمرُ الطبِّ القائم على المداواة الطبيعية التي استقرَّ عندها العلم الحديث كما يظهر. ويلوح لي، على الأرجح، أن الطب العربي في القرن العاشر من الميلاد، لم يؤدِّ إلى وفياتٍ أكثر مما يقع في هذه الأيام.

تقدُّم العرب في الطب

إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة، وظهرت للعرب عدةُ طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قروناً كثيرة كاستعمال الماء البارد في معالجة حُمَّى التيفوئيد.

والطبُّ مَدِين للعرب بعقاقيرَ كثيرةٍ كالسَّلِيخة والسنا المَكِّيِّ والرَّاوَنْد والتمر الهندي وجوز القَيء والقِرمِز والكافور والكحول ... وما إلى ذلك، وهو مدين لهم بفن الصيدلة، وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تُستعمل كالأشربة واللُّعُوق واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة ... إلخ، والطب مدين لهم، كذلك، بطرق طريفة في المداواة عاد إليها على أنها اكتشافاتٌ حديثةٌ بعد أن نُسِيت زمناً طويلاً، ومنها طريقة امتصاص النبات بعضَ الأدوية كما صنع ابنُ زُهْر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنباً أشُرِبَ من بعض المُسْهِلَات.

وعلم الجراحة مدين للعرب، أيضا، بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلت كتبهم فيه مرجعاً للدراسة في كليات الطبِّ إلى وقت قريب جداً، ومن ذلك أن العرب كانوا يَعرِفون في القرن الحادي عشر من الميلاد معالجةَ غِشاوة العين بخفض العدسة أو إخراجها، وكانوا يعرفون عملية تفتيت الحَصاة التي وصفها أبو القاسم بوضوح، وكانوا يعرفون صبَّ الماء البارد لقطع النزف، وكانوا يعرفون الكاويات والفتائل إلخ، وكانوا يعرفون المُرقِد الذي ظُنَّ أنه من مبتكرات العصر الحاضر، وذلك باستعمال الزؤان لتنويم المريض قبل العمليات المؤلمة «حتى يفقد وعيه وحواسه.»

المرجع// كتاب حضارة العرب، للمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون

تصفح موضوع الأطباء العرب قديما 

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم