تقدم العرب في الجغرافيا قديما

 

تقدم العرب في الجغرافيا قديما

التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية وأثره في أوربا

للمؤرخ الفرنسي غوستاف ليون (٧ مايو ١٨٤١ م - ١٣ ديسمبر ١٩٣١ م)

كان من نتائجِ ريادات العرب ومعارفهم الفلكية التي ذكرتُها أن اتفق لعلم الجغرافية تقدم مهمٌّ، ولا غرو؛ فالعرب الذين اتخذوا في البداءة علماء اليونان، ولا سيما بطليموس، أَدِلَّاء لهم في علم الجغرافية لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم فيه على حسب عادتهم.

كانت مواضع المدن الكثيرة التي عَيَّنها بطليموس تعييناً جغرافياً غيرَ مطابقة للحقيقة تماماً، وبلغ مقدار غَلَطِه في تعيين طول البحر المتوسط وحده أربعمائة فرسخ.

ويكفي أن نقابل بين الأمكنة التي عينها الأغارقة والأمكنة التي عينها العرب؛ ليظهر لنا مقدار التقدم الذي تم على يد العرب، فهذه المقابلة تدل على أن مقدار بالعرض الذي حققه العرب يَقْرُب من الصحة بما لا يزيد على بضع دقائق، وأن خطأ الأغارقة فيه بلغ درجاتٍ كثيرة.

وكان تعيين الطول صعباً على العرب، وذلك لما يُعْوزُهم في ذلك الحين من مقياسٍ للزمان (كرنومتر) ومن تقاويمَ مضبوطةٍ للقمر فكانت مَغَالِطُهم أظهر من ذلك، وإن لم يَزِد على درجتين إلا نادرًا، أي وإن كانت دون غلط الأغارقة بمراحل.

حقاً إن أغاليط الأغارقة في تعيين الطول كانت فاحشةً في بعض الأحيان، ومنها أن غلِطَ بطليموس، الذي اتخذ الإسكندرية مبدأً للطول، في طول طنجة نحو ١٨ درجةً فجعله ٥٣ درجة و ٣٠ دقيقة بدلاً من ٣٥ درجة و ٤١ دقيقة، ومنها أن جَعَل بطليموسُ في تقاويمه طولَ المحور الكبير للبحر المتوسط الممتد من طنجة إلى طرابلس الشام تسع عشرة درجةً زيادة على الحقيقة، أي ما يَعْدِل أربعمائة فرسخ تقريباً، مع أن غَلَط تقاويم العرب فيه أقلُّ من درجة واحدة.

وكتب العرب التي انتهت إلينا في علم الجغرافية مهمةٌ إلى الغاية، وكان بعضها أساسًا لدراسة هذا العلم في أوربة قروناً كثيرة العلوم الجغرافية..

وأقدمُ كتاب نعرفه عن العرب في علم الجغرافية هو الكتاب الذي نشره النضرُ البصري في سنة ٧٤٠ م، ففي هذا الكتاب عالج النضرُ مختلف الموضوعات التي لا تَمُتُّ إلى علم الجغرافية بصلة في الغالب، والتي يلوح أنها خاصة بأعراب على الخصوص.

ثم جاء الإصطخري، فألَّف كتاب الأقاليم في أواسط القرن التاسع من الميلاد، فكان أرقى من كتاب النضر البصري، وكتاب الإصطخري هذا لم يكن، مع ذلك، سوى إحصاء لما في مختلف الولايات من الأنهار والمدن والجبال ... إلخ.

وما كتبه المسعودي المعاصر للإصطخري والمقدسي في سنة ٩٨٥ م في علم الجغرافية هو من قبيل الرحلات أكثر من أن يكون من الكتب الجغرافية.

وأشهر جغرافيي العرب هو الإدريسي، ومن كُتب الإدريسي، التي تُرجمت إلى اللاتينية، تعلَّمت أوربة علم الجغرافية في القرون الوسطى.

وُلد الإدريسي في الأندلس، ثم ساقت الإدريسي مغامراتٌ كثيرة إلى بلاط ملك صقلية، روجر، بعد أن استولى النورمان عليها بزمن قصير، ولما كانت سنة ١١٥٤ م ألَّف الإدريسي كتابه الجغرافيَّ العظيم، مشتملاً على ما قيده المتقدمون في علم الجغرافية، وعلى ما رواه عن السياح من المعارف الكثيرة، وعلى عدة خرائط؛ فاقتصرت أوربة على نَسْخِه بدناءةٍ مدة ثلاثة قرون.

وخريطة الإدريسي التي نَشَرْتُ صورتها، والتي اشتملت على منابع النيل والبحيرات الاستوائية الكبيرة، أي على هذه الأماكن التي لم يكتشفها الأوربيون إلا في العصر الحاضر، أكثرُ خرائطه طرافة، فهي تثبت أن معارف العرب في جغرافية إفريقية أعظمُ مما ظُنَّ زمناً طويلاً.

وأَذكر من جغرافيي العرب القزويني وياقوتاً الحموي اللذين عاشا في القرن الثالث عشر من الميلاد، وأن كتاب هذا الأخير مُعجَمٌ جغرافيٌّ حافلٌ بوثائقَ عن جميع البلدان التي تتألف منها دولة الخلافة.

وعُرف صاحبُ حماة، وأبو الفداء (١٢٧١ م-١٣٣١ م)، بأنه من علماء الجغرافية أيضاً، ولكنه لم يصنع غيرَ تلخيص كتب أخرى، وقُلْ مثل هذا عن المقريزي والحسن.

ويحتاج إحصاء أهم جغرافيي العرب وما ألفوا من الكتب إلى بيان طويل، فقد ذكر أبو الفداء وحده أسماء ستين عالماً جغرافياً من الذين ظهروا قبله، وتكفي الخلاصة السابقة لإثبات شأنهم مع ذلك، ولولا إصرار الأوربيين الخاص على مُبْتَسراتهم الموروثة، التي لا تزال باقية، حِيالَ الإسلام؛ لتعذر إيضاح السبب في إنكار علماء أفاضل في الجغرافية، كمسيو فيفيان دو سان مارتن، لذلك الشأن، ومع ذلك يكفي ما أتى به العرب من عملٍ كبير لإثبات قيمتهم، فالعرب هم الذين انتَهَوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عُدَّت أول أساسٍ للخرائط، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع، والعرب، من ناحية الرِّياد، هم الذين نشروا رحلاتٍ عن بقاع العالم التي كان يشكُّ الأوربيون في وجودها، فضلاً عن عدم وصولهم إليها، والعرب، من ناحية الأدب الجغرافي، هم الذين نشروا كتباً قامت مقام الكتب التي ألُّفت قبلها؛ فاقتصرت أمم الغرب على استنساخها قروناً كثيرة.

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم