عادات وتقاليد العرب في عين الغرب
هذا ما كتبه غوستاف لوبون وهو طبيب ومؤرخ فرنسي، في كتابه "حضارة العرب"
الولادة والختان
الولادة من أفراح العرب الخاصة، والختان من أفراحهم العامة، فإذا بلغ الصبي السنة السادسة أو السابعة من عمره خُتِن، ويوم الختان يُسار بالصبي في موكب عظيم في المدينة لابساً أفخر الثياب، مبرقع الوجه، راكباً حصاناً مجهزاً بأثمن عُدة، ومخفراً بأولاد آخرين لابسين مثله، ويتقدم الموكب الحلاق الذي سَيَخْتِنه ورجال الموسيقا، ويعترض النساء بين الفينة والفينة للموكب مُزَغْرِدَات، ثم يصل الموكب إلى المسجد المُنَار بأبهى الأنوار، ثم يسار منه إلى بيت الأبوين؛ ليتناول الناس الطعام من مائدتهما، ثم يُبدأ بالألعاب التمثيلية في الغالب، ويختن الحلاق الصبي عند الانتهاء من الأكل وعلى صوت الصنوج خَنْقًا لصوته، ويُحيي المدعوون الكثيرون ليلتهم بشرب المرطبات والقهوة والنارجيلات.
الزواج
تُعد حفلات الزواج من الأفراح كحفلات الختان، وأقتصر الآن على بيان الأعراس دراساً في فصل آخر حال المرأة في الشرق: حينما يرغب الفتى في الزواج يُفوِّض إلى امرأة كبيرة العمر أن تبحث له في الأسر عن الفتيات الصالحات للزواج، ويختار واحدة ممن وصف له جمالهن وكمالهن، ثم يفوِّض إلى شخص أمر خطبها، وتُسأل المخطوبة عن رأيها صورةً، ولا يكون لديها ما يسوغ رفضها تَزَوُّجَه ما دامت لا تراه إلا بعد عقد الزواج، ثم يفاوض الخطيب أباها في مقدار مهرها، وذلك لأن الرجل هنالك، لا المرأة كما في أوربة، هو الذي يدفع المهر، فإذا تمت المفاوضة جاء الخطيب ومعه أصدقاء له إلى بيت حماه حيث يكون منتظراً إياه هو وبعض الأصدقاء والشهود وأحد الكتبة، وعندئذ يُلفظ بصيغة العقد الشرعية، ويُدوِّن الكاتب ما وقع، وبهذا يكون عقد النكاح قد انتهى شرعاً، ومن هنا ترى أن ذلك الزواج عقد خاصلاً يتطلب تأييداً دينياً أو مراسم مدنية، ولا تُزفُّ العروس إلى زوجها إلا بعد أيام تقام فيها الحفلات، وتُرسَل العروس المبرقعة في موكبٍ مؤلَّف، من الأصحاب والموسيقيين إلى الحمَّام، ثم تعود إلى بيت أبيها حيث الموائد، وتُبعث مبرقعةً في اليوم التالي إلى بيت زوجها المعَدِّ المُنَار بعناية لاستقبالها، وذلك في وسط موكبٍ تتقدمه جماعة من الموسيقيين والمهرجين والمصارعين، فإذا ما انصرف الناس أمكنَ الزوج أن يرفع النِّقاب عن زوجه وأن يتأمَّلها لأول مرة.
ولا تقام تلك الحفلات إلا في الأحوال التي يكون فيها عقد نكاح، وعندما لا يصار إلى طريقة عقد النكاح يذهب المرء إلى أسواق النخاسة الكثيرة التي لا تزال موجودة في الشرق، ولا سيما في القاهرة، مع إنكار وجودها في الكتب، ويأخذ واحدةً من الإماء الشركسيات أو الكَرْجِيات الحِسان بمبلغٍ قد يصل أحياناً إلى ستة آلاف فرنك، وتكون هذه الأمَة من الأسرة، وتكون لأولادها ما لأولاد الزوجات من الحقوق، ويعامَل الإماء برفق ولا يُفكِّرن في التحرر، وإن كان التحرر من الأمور السهلة إلى الغاية، فما عليهن في مدينةٍ كالقاهرة، التي تعاني مناحي أوربة، إلا أن يذهبن إلى أولياء السلطة؛ ليُعْرِبْن عن رغبتهن فيه.
المآتم
مراسم الدفن عند المسلمين فخمة فخامة مراسم الزواج، فالميت يوضع، بعد أن يُكَفن، في تابوت ويغطى التابوت بشالٍ كشميري، ويتناوب حَملَه خمسة أو ستة من أصدقائه، ويتقدم الجنازة فريق من العُميان والمساكين مُرتلين بعض آي القرآن، ويأتي خلفها الأقرباء والأصحاب والنائحات، ويصلى على الميت في المسجد، ثم يُدفن في المقبرة، ويوجه وجهه إلى مكة، وإذا كان الميت عظيماً أقيم حول قبره بنيان مكعب تعلوه قبَة، وإذا حلت الأعياد زينت القبور بالأزهار، وقضى النساء أياماً حولها بالدعاء.
الأزياء
يعجب المرء، حين يتصفح إحدى المجلات التي صدرت منذ قرنٍ والمشتملة على صُوَرٍ للأزياء التي شاعت في أوربة وحدها في غضونه من تحول آراء الأوربيين وأذواقهم في الأزياء ومحافظة العرب على أزيائهم التي ألِفوها منذ اثني عشر قرناً مما يدل على ثبات تقاليدهم، أجل، لم تكن أزياء المسلمين واحدة في جميع أنحاء إفريقية ومصر وسورية وجزيرة العرب، ولكنه يسهل تبيُّن ما بينها من الشبه العظيم، وهي تُرَدُّ إلى جلباب وعباءة دائماً، والعباءة زرقاء أو سوداء في مصر، وبيضاء في الجزائر، ومخططة بخطوط بيضٍ وسود في سورية ... إلخ.
وقد يكون غطاء الرأس أكثر ما يتحول من الأزياء العربية، ومع ذلك فإن غطاء الرأس قد تحول ضِمن دائرة ضيقة، ففي مصر يلبسون الطربوش والعمامة، وفي سورية يلبسون الكوفية، وهي مِنديلٌ زاهي الألوان يُلفُّ به الرأس، وهو مصنوع من وبر الإبل، وفي الجزائر يُستر الرأس بغطاء أبيض يستقر عليه بشَطَن مماثل للعقال.
وليس لأزياء النساء أنواع في غير الطبقات الموسرة، ويتألف لباس المرأة الفقيرة من حُلَّة طويلة مشدودة من الوسط بنطاق، ومن غطاءٍ لا يترك من الوجه شيئاً ظاهراً سوى العينين، ويتألف ثوب المرأة المصرية من جلبابٍ أزرق مصنوع من القطن، ولا تعرف المرأة المصرية، ولا الشرقية، الِمشَد وما إلى المشد من وسائل التجميل المصنوعة، ومع ذلك فإن الفلاحة المصرية ذاتُ بختَرةٍ تائهة تدهش رجال الفن، وتذكرنا ببخترة إلاهات قدماء الأغارقة، والإنسان، وقتما يرى الفلاحة المصرية الناهدة الضامرةَ الكتف الحاملة إناءً على رأسها تمشي باتزان، يقطع حقاً بأن أمهر الخياطين في أوربة لم يُوفَّقوا لمنح المرأة الأوربية مثل هذه المشية على الرغم مما يلجأون إليه من وسائل التجميل المصنوعة الغالية.
وأقول زيادةً على ما تقدم، وذلك لكيلا أعود إلى دراسة الأزياء عندما أبحث في شؤون عرب المدن، إن ملابس أغنياء العرب معقدة، ولكنها أنيقة، وهي مؤلفة من قُمُصٍ من الحرير أو الشُّفُوف، ومن صُدُراتٍ مطرزة بالذهب، ومن سراويل واسعة ... إلخ، وإن النساء يَلبَسن، وقتما يخرجن من بيوتهن، مآزرَ ويسترن وجوههن ببراقع وليس من المفيد أن نسهب في بيان الزي عند العرب بأكثر مما تقدم، وما نشرنا في هذا السِّفر من الصور الكثيرة أفضل من كل إيضاح، فأرجو أن يتبين القارئ عالم الشرق، الذي يختلف عن عالمنا، من خلال صور الأزياء والأمثلة والمباني وما إليها أكثر مما يوصف ذلك العالم الذي لا يتجلى من غير أن يُلْقَى في الروع باهر الصور وزاهي الألوان.
المساكن:
يميل سكان المدن من العرب إلى إنشاء مساكنهم على الطراز الأوربي في الوقت الحاضر، ولذلك تصبح القصور العربية القديمة نادرة جداً.
وتشاهد أجمل البيوت المبنية على الطراز العربي في دمشق، وليس في مناظر هذه البيوت الخارجية ما يستوقف النظر على العموم، وفي داخل المنازل، لا في خارجها، تتجلى حياة الشرقيين الذين لا يضحون بشيء في سبيل المظاهر، وتدخل تلك البيوت، على العموم، من مسلك ضيق مقبَّب يجلس فيه الخدم، وإذا ما انتهيت منه دخلت ساحةً كبيرة، وإن شئت فقل حديقةً مُفَرَّشَة بالرخام ومشتملة في وسطها على حوض محاط بأشجار الصفصاف والبرتقال والليمون والرمان وأنواع الرياحين التي تنشر شذاها داخل البيت، ويحيط بتلك الساحة أقسام البيت الصالحة للسكن، والتي يحتوي داخلها كل زخرف عجيب، والصورة التي التقطناها عن داخل أجمل قصور دمشق فنشرناها في فصل آخر أفصح دليل على ذلك، والوصف أعجز من أن يُصوِّر لنا ما لِسُقُفِهِ من الروافد الناتئة والأشكال الهندسية المجوَّفة التي نقش المتفننون أجمل النقوش العربية على خشبها الأرزي والحماطي، والوصف أعجز من أن يصور لنا، كذلك، رسوم قطعه الزجاجية العجيبة، وجُدُره المكسوة خطوطاً وكتاباتٍ، وأفاريزه المتدلية التي تربط السقف بجوانب حياطه.
وتقسم الردهة المهمة المرتفعة ارتفاع طبقتين في ذلك القصر إلى ثلاثة أقسام على العموم، وتحيط هذه الأقسام بساحة مبلطة، وتتوسط هذه الساحة فِسْقِيَّةٌ رخامية منقوشة مثمَّنَة الزوايا فوارة.
ويتألف رياش ذلك القصر من أريكة كبيرة مغطاة بالحرير المطرز بالذهب والفضة حول حياط ردهته، وتشتمل بقية أمتعته على متكآت ومقاعد صدفيةٍ ومشاكٍ مستورةٍ بالرخام والخشب الثمين والزجاج والميناء الفارسي؛ لتوضع فيها الأواني الصينية والفضة وفناجين القهوة المستقرة بظروف صغيرة مُخَرَّمة والنارجيلات والمباخر ... إلخ.
وينشد العربي الراحة في تلك الملاجئ الهادئة الساحرة العطرة التي يتخللها الرُّخاء ولا ينفُذ من نوافذها سوى ضياء قليل، ولا يعكر صفوها غير خرير ماء الحياض المرمرية، ويستطيع العربي الذي تحيط نساؤه به هنالك أن يطلق لخياله العنان فيُخيَّل إليه أنه انتقل إلى جنة محمد من خلال دخان نارجيلته.
ويختلف طراز البيوت العربية في الجزائر ومراكش بعض الاختلاف عن طراز بيوت العرب في دمشق، فقد استُبدلت القاعة فيها بالحدائق لضيق الاتساع، وتحيط بالقاعة أجزاء المسكن.
وإذا ما نظر الإنسان إلى تلك البيوت من الخارج رآها مكعباتٍ حجريةً بيضاً كبيرةً تعلوها سطوح، ويَنفُذ النورُ إلى أجزائها من قاعاتٍ محاطة بأقواس تقوم عليها طبقات من الأروقة التي تدخل الغرف منها، وهي مُبلطة بالآجر المطلي، ويغطي الميناء جدرانها، ويستر الخشب المحفور سقوفها من الداخل، ويتألف أثاثها من الحُصر والبُسُط ومن مُتَّكأٍ يوضع في أقصى الغرفة ويَصلح للجلوس في النهار والنوم في الليل، ومن صناديق خشبية مدهونة لصيانة الثياب والحلي، ويُستر أعلى تلك القاعات بنُسُجٍ ذات حبال مربوطة بكلاليب على السطوح منعًا لحرارة الشمس، والواقع أن البيوت القائمة على هذا الطراز تلائم البلاد الحارة، وأن الناس في المدن العربية القديمة في إسبانية، ولا سيما في إشبيلية، يشيدون بيوتهم على طرازها حتى الآن.
وفن عمارة إحدى الأمم عنوان صادق لاحتياجاتها، وإذا ارتحلت أمة عن قطر إلى آخر حوَّلت فن عمارتها إلى ما يلائم بيئتها الجديدة، ولهذا نرى اختلافاً بين البيوت العربية في القاهرة، مثلاً، والبيوت الموصوفة آنفاً؛ ففي المدن الكبيرة كالقاهرة، حيث تضيق المساحات، تقام البيوت على ثلاث طبقات في الغالب، ولا تكون رداهها مرتفعة كما في دمشق، وتفتح نوافذها على الشوارع لعدم كفاية قاعاتها الضيقة لتجديد هوائها، ولكن العرب إذ يرون أن تكون النوافذ مغلقة أمام الغرب لم يُعَتِّموا أن اخترعوا الشبابيك الخشبية ذات التخاريم وسموها المشربيات.
والآن لا يُرى في القاهرة غير عدد قليل من البيوت القديمة التي أنشئت على طراز العمارة في عصر الخلفاء والتي تنقلب إلى خرائب، وأذكر منها بيت مدير المساجد العام، ويرى أغنياؤها في الوقت الحاضر إنشاء بيوتهم على الطراز الأوربي لما يجدون فيها من الهيف! وتمتاز البيوت القديمة في القاهرة من بيوت كثير من المدن الشرقية بأبوابها المزخرفة إلى الغاية.