من فقه اللغة العربية

فقه اللغة العربية
مَوْسُوعَةُ الْهُلًاْلِيُّ - من كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها
المؤلف: أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين (ت ٣٩٥هـ) الناشر: محمد علي بيضون الطبعة: الطبعة الأولى ١٤١٨هـ-١٩٩٧م عدد الصفحات: ٢٣٨

التعريف بالمؤلف: ابن فارس (توفي سنة ٣٩٥ هـ / ١٠٠٤ م)
أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين
• من أئمة اللغة والأدب.
• قرأ عليه البديع الهمذاني والصاحب ابن عباد وغيرهما من أعيان البيان.
• أصله من قزوين، وأقام مدة في همذان، ثم انتقل إلى الري فتوفي فيها، وإليها نسبته.
وله العديد من المصنفات في اللغة العربية وآدابها ومقاييسها وفي التفسير والنوادر
تعريف فقه اللغة : "يعرف فقه اللغة اصطلاحاً على أنه العلم الذي يهتم بدراسة اللغة ذاتها وقضاياها؛ أي أنه يدرس أصواتها، وتركيباتها، ومفرداتها، وخصائصها الصوتية والنحوية والصرفية، ودلالة الألفاظ، وما بينها من علاقة، وما قد يطرأ عليها من التغييرات، كما يهتم بدراسة اللهجات، ومنشئها واحتكاكها ببعضها، وتاريخها، وما تواجهه اللغة من مشكلات وقضايا تثار حولها، وهو العلم الذي يحاول كشف أسرار اللغة ومراحل تطورها. " [محاضرات مقاييس فقه اللغة، الأستاذ ضامري مصطفى، جامعة تلمسان، ص5]
 
مقتطفات من كتابه حول مأخذ اللغة، ولغة العرب

باب القول فِي مأخذ اللغة
...
باب القول فِي الاحتجاج باللغة العربية:
لغةُ العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ أقْرائِكَ. قال أبو بكر: ومن العظيم أنَّ علياً وعمرَ رضي الله عنهما قَدْ قالا: "القُرْؤُ: الحَيضُ" فهل يُجْتَرا عَلَى تجهيلهما باللغة؟
ومنها قوله فِي قوله جلّ ثناؤه: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}1 أنه أرادَ الذكور دون الإناث. قال: وهذا من غريب مَا يَغلَط فِيهِ مثله. يقول الله جلّ ثناؤه: {يَا بَنِي آَدَمَ} 2 أفَتُراه أراد الرِّجالَ دون النساء؟
قال ابن داود: وإنَّ قبيحاً مُفْرِط القَبَاحة بمن يعيب مالك بن أنسٍ بأنه لَحَنَ فِي مخاطَبَةِ العامَّة بأن قال: "مُطرنا البارحة مطراً أيَّ مطراً" أن يرضَى هو لنفسه أن يتكلم بمثل هَذَا. لأن النَّاس لَمْ يزالوا يلحنون ويَتَلاحَنُون فيما يخاطب بعضُهم بعضاً اتِّقَاءً للخروج عن عادة العامة فلا يَعيبُ ذَلِكَ من يُنْصِفِهم من الخاصة، وإنّما العيب عَلَى من غلِط من جهة اللغة فيما يغير بِهِ حكَم الشريعة والله المستعان.
فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب عَلَى أهل العلم، لئلاَّ يحيدوا فِي تأليفهم أَوْ فتياهم عن سَنن الاستواء.
وكذلك الحاجة إِلَى علم العربية، فإن الإعراب هو الفارق بَيْنَ المعاني. ألا ترى أن القائل إِذَا قال: "مَا أحسن زيد" لَمْ يفرّق بَيْنَ التعجب والاستفهام والذمّ إِلاَّ بالأعراب. وكذلك إِذَا قال: "ضرب أخوك أخانا" و"وَجْهُك وجهُ حُرّ" و"وجهُك وجهٌ حرٌ" وَمَا أشْبَه ذَلِكَ من الكلام المشْتَبه.
هَذَا وَقَدْ روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أعْرِبوا القرآن". وَقَدْ كَانَ الناس قديماً يجتنبون اللحن3 فيما يكتبونه أَوْ يقرءونه اجتنابَهم بعضَ الذنوب. فأما الآن فقد تجوزا حَتَّى أن المحدّث يحدث فليحن. والفقيه يؤلف فيلحن. فإذا نُبها قالا: مَا ندري مَا الإعراب وإنما نحن محدّثون وفقهاء. فهما يسران بما يُساء بِهِ اللبيب.
ولقد كلمت بعض من يذهبُ بنفسه ويراها من فقه الشافعي بالرتبة العُليا فِي القياس، فقلت لَهُ: مَا حقيقة القياس ومعناه، ومن أي شيء هو? فقال: لَيْسَ عليَّ هَذَا وإنما علي إقامة الدَّليل عَلَى صحته.
فقل الآن في رجل يروم إقامة الدليل على صحة شيء لا يعرف معناه، ولا يدري ما هو. ونعوذ بالله من سوء الاختيار.
[باب القول على لغة العرب]
هل لها قياس وهل يشتق بعض الكلام من بعض?:
أجمع أهل اللغة -إلا من شذ عنهم- أن للغة العرب قياساً, وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض,
وأن اسم الجنّ مشتق من الاجتنان. وأن الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى الستر. تقول العرب للدّرع: جُنَّة, وأجَنة الليلُ, وهذا جنين، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور, وأن الإنس من الظهور؛ يقولون: آنَسْت الشيء: أبصرته.
وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم وجَهِلَه من جهل.
قلنا: وهذا أيضاً مبنيٌ عَلَى مَا تقدم من قولنا فِي التوقيف. فإن الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الاجتنان التستر هو الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الجنّ مشتق منه. وَلَيْسَ لَنَا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير مَا قالوه ولا أن نقيس قياساً لَمْ يقيسوه، لأن فِي ذَلِكَ فسادَ اللغة وبُطلان حقائقها. ونكنةُ الباب أن اللغة لا تؤخذ قياساً نَقيسهُ الآن نحن.

[باب القول على أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها]
...
باب القول على أن لغة العرب لن تنته إلينا بكليتها:
وأن الَّذِي جاءنا عن العرب قليل من كثير وأن كثيراً من الكلام ذهب بذهاب أهله:
ذهب علماؤنا أَوْ أكثرهم إِلَى أنّ الَّذِي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ. ولو جاءنا جميعُ ما قالوه لجاءنا شعرٌ كثيرٌ وكلام كثير.
وأحر بهذا القول أن يكون صحيحاً. لأنّا نرى علماء اللغة يختلفون فِي كثير مما قالته العرب، فلا يكاد واحد منهم يُخبّر عن حقيقة مَا خولف فيه، بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان.
ألا ترى أنَّا نسألهم عن حقيقة قول العرب فِي الإغراء "كَذَبك كذا" وعما جاء فِي الحديث من قوله: "كَذَبَ عليكم الحَجُّ" و"كَذَبَك العَسَلُ" وعن قول القائل4:
كذبتُ عليكم أَوْعِدُوني وعَلِّلُوا ... بيَ الأرضَ والأقوامَ قِرْدانَ مَوْظَبَا
وعن قول الآخر5:
كَذَبَ العَتِيقُ وماءُ شَنٍّ باردٌ ... إِن كنت سائلتي غَبُوقاً فاذهب
ونحن نعلم أن قوله: "كذب" يَبْعُدُ ظاهره عن باب الإغراء.
وكذلك قولهم "عنْكَ فِي الأرض" و"عنك شيئاً" وقول الأفْوه6:
عنكُم فِي الأرض إنَّا مَذْحِجٌ ... ورُويداً يفضح الليلَ النهارُ
ومن ذَلِكَ قولهم: "أعَمَدُ من سيّد قتله قومُه?" أي "هل زاد?" فهذا من مشكل الكلام الَّذِي لَمْ يفسر بعدُ. قال ابن ميَّادة7:
وأعمَدُ من قوم كفاهم أخوهم ... صدامَ الأعادي حينَ فُلَّتْ نيوبُها
قال الخليل وغيره: "معناهُ هل زدنا علة أن كفينا?" وقال أبو ذْؤَيب8:
صَخِبُ الشوارِب لا يزالُ كأنه ... عبدٌ لآل أبي ربيعة مُسْبَعُ
فقوله "مسْبَعٌ" مَا فُسّرَ حَتَّى الآن تفسيراً شافيًا. ومنه قول الأعشي9:
ذاتُ غَرْب تَرمي المُقدَّم بالرَّدْ ... ف إِذَا مَا تتابع الأرواق
وقوله فِي هَذِهِ القصيدة10:
المِهِنينَ مَا لهم فِي زمان الـ ... ـجدب حَتَّى إِذَا أفاق أفاقوا
ومن هَذَا الباب قولهم "يا عيد ما لك" و"يا هيئ ما لك" و"يَا شَيْء ما لك".
وَلَمْ يفسّر قولهم "صَهُ" و"وَيْهَكَ" و"إنيْه" ولا قول القائل11:
بخائبك الحَقْ يَهْتِفُونَ وحَيّ هَل
ويقولون: "خائِبكُما" و"خائبكم".
فأمَّا "الزَّجرُ والدّعاء" الَّذِي لا يُفْهم موضوعُه فكثير. كقولهم: "حيِّ هَلاَ", و"بِعَيْنٍ مَا أرَيَنَّك", فِي موضِع أعْجَل, و"هَج", و"هَجَا", و"دَعْ", و"دعا",
و"لعًا" للعاثر يدعون لَهُ. وينشدون12:
ومَطيَّة حَمَّلتُ ظَهْرَ مَطيَّةٍ ... حَرَجٍ تُنَمَّى مِلْ عِثارِ بِدَعدَع
ويروى عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقولوا: دَعْدَعْ ولا لَعْلَعْ، ولكن قولوا: اللهم ارْفَعْ وانْفَعْ". فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم مَا كَرِههُما النبيّ -صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
وكقولهم فِي الزّجر "أخِّرْ" و"أخِّري" و"ها" و"هَلا" و"هابِ" و"ارْحَبِي" و"عَدِّ" و"عاجِ" و"يا عاط" و"يعاطِ" وينشدون13:
وَمَا كَانَ عَلَى الجيْءِ ... ولا الهيءِ امتداحيكا
وكذلك "إِجْدِ" و"أجْدِمْ" و"حِدِّجْ" لا نعلم أحداً فسَّر هَذَا. وهو باب يَكثُرُ ويُصَحّحُ مَا قلناه.
ومن المُشتَبِه الَّذِي لا يقال فِيهِ اليومَ إِلاَّ بالتقريب والاحتمال, وَمَا هو بغريب اللفظ لكَنَّ الوقوف على كنهه مُعتاصٌ, قولنا: "الحِينُ", و"الزمان", و"الدهر", و"الأوان", إِذَا قال القائل أَوْ حلَف الحالف: "والله لا كلمته حيناً ولا كلمته زماناً أَوْ دهراً".
وكذلك قولنا: "بِضْعَ سِنين" مُشتَبِه. وأكثر هَذَا مُشكل لا يُقْصَر بشيء منه عَلَى حدّ معلوم.
ومن الباب قولهم فِي الغِنى والفَقْر وَفِي الشريف والكَريم واللئيم، إِذَا قال: "هَذَا لأغنياء أهلي" أَوْ"فقرائهم" أَوْ"أشرافهم" أَوْ"كرامهم" أَوْ"لئامهم". وكذلك أن قال: "امْنعُوه سفهاء قومي" لَمْ يمكن تحديد السَّفه.
ولقد شاهدتُ منذ زمانٍ قريب قاضياً يريد حَجْراً عَلَى رجل مكْتَهِل. فقلت: "مَا السبب فِي حجره عليه?" فقال: "يَزْعم أنه يَتَصيَّدَ بالكلاب وأنه سفيه" فقرئ عَلَى القاضي قوله جلّ ثناؤه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} 14 فأمسكَ القاضي عن الحجر عَلَى الكَهْلِ.
وكذلك إِذَا قال: "مَا لي لِذَوي الحسب" أَوْ"امنعوه السَّفِلَة" وَمَا أشبه هَذَا مما يطول الباب بذكره فلا وَجْهَ فِي شيء من هَذَا غير التقريب والاحتمال، وَعَلَى اجتهاد الموصى إِلَيْهِ أَوْ الحاكم فِيهِ. وإلا فإنَّ تحديدَه حَتَّى لا يجوز غيره بعيدٌ.
وَقَدْ كَانَ لذلك كله ناس يعرفونه. وكذلك يعلمون معنى مَا نستغربه اليوم نحن من قولنا15: "عُبْسُور" فِي الناقة: "وعَيْسَجور" و"امرأة ضِنانِّي" و"فرس أشَقُّ أمقُّ خِبَقٌ" ذهب هَذَا كله بذهاب أهله وَلَمْ يبق عندنا إِلاَّ الرسم الذي نراه.
وعلماء هَذِهِ الشريعة -وإن كانوا اقتصروا من علم هَذَا عَلَى معرفة رَسْمه دون علم حقائقه- فقد اعتاضوا عنه دقيقَ الكلام فِي أصول الدين وفروعه من الفقه والفرائض. ومن دقيق النحو وجليله. ومن علم العروض الَّذِي يربي بحسنه ودقته واستقامته عَلَى كل مَا يبجح بِهِ الناسبون أنفسهم إِلَى الَّتِي يقال لَهَا: الفلسفة. ولكل زمان علم، وأشرف العلوم علم زماننا هَذَا والحمد لله..

--------------------
الهامش
1سورة النساء، الآية: ٨٣.
2 سورة الأعراف، الآية: ٢٦، ٢٧، ٣١، ٣٥.
3 اللحن: الخطأ في القراءة.
4 مقاييس اللغة مادة "كذب" بلا عزو. ولسان العرب مادة "كذب" و"وظب" و"أرض" ونسبه إلى خداش بن زهير. والقردان: جمع قرد. دويبة. وموظب: موضع قرب مكة.
5 البيت لعنترة، في ديوانه: ٢٩. الغبوق: شراب المساء.
6 الطرائق الأدبية: ١٣. والأفوه الأودي هو صلاءة بن عمرو، شاعر جاهلي حكيم.
7 ديوان ابن مقبل: ٧٩، وابن مقبل هو تميم بن أبي المتوفى سنة ٢٥هـ، وقل: ثلم. وفل القوم: هزمهم. وفي مقاييس اللغة مادة "عمد"، ونسبه لابن ميادة، وهو الرماح بن أبرد المتوفى سنة ١٤٩هـ.
8 شرح أشعار الهذليين: ١٢٥. وأبو ذؤيب هو خويلد المتوفى سنة ٢٧هـ.
9 ديوانه: ١٢٤، وفيه: تدافع الأرواق.
10 ديوانه: ١٢٥، وفيه: في زمان السوء.
11 هو الكميت بن زيد الأسدي المتوفى سنة ١٢٦هـ, والبيت في ديوانه: ٢/ ٩٨.
12 هو الحادرة واسمه قطبة بن أوس بن محصن، شاعر جاهلي، والبيت في ديوانه: ٦٢، وفي شرح اختيارات المفضل: ٢٣٤، وفيه:
ومطية كلفت رحل مطية
حرج يتم من العشار بدعدع
13 لسان العرب مادة "جأجأ" ونسبته إلى معاذ السهراء وهو أديب في كوفي من المعمرين مات سنة ١٨٧هـ.
14 سورة المائدة, الآية: ٤٨.
15 العبسور والعسبور والعبسر: الناقة الشديدة السريعة. العيسجور: الناقة الصلبة، والسريعة. والأشق من الخيل: الطويل، ومثله أمق وخبق.
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم