الصحراء في عقول البدو

 الصحراء في المفهوم العام.. هي الأرض التي لا نبات فيها.

وأما مفهوم الصحراء لدى تراث وثقافة العرب البدو، فهي الأرض الواسعة الفسيحة، الذي يستمتع الساكن في آفاقها وتلالها وهضابها ووديانها ورمالها وسمائها وهوائها النقي، والذي يتعبرها البدوي أرضاً تكاد تكون لا حدود لها، تضيئها الشمس نهاراً، ويضيئها القمر والنجوم ليلاً، وتجد فيها الكائنات حريتها المطلقة في الحياة، فكانت أنسب مكاناً للحرية المطلقة وأنسب موقعاً للابداع الأدبي المطلق.

تلك الصحراء التي كانت وطناً قومياً للبدو، أصل عاداتهم وتقاليدهم ونظامهم وقوانينهم وأعرافهم ، فيها نشأ الإبداع والمواهب الفنية والأدبية والأخلاقية وفيها نشأت الفروسية وفنون الحرب والسلم.

فكانت الحياة في الصحراء الواسعة عند البدو؛ صرحاً من صروح العلم والموهبة بالفطرة والممارسة والتجارب فهي التي علمتهم علم الأنواء والأحوال الجوية، وعلوم المباحث وتقصي الآثار، وعلوم الطب والمداواة " الطب العربي" وعلوم الآداب كالشعر والقصص والحكمة والأمثال والنثر والبلاغة، وعلوم الجيولوجيا والجغرافيا، فقد كانوا خبراء بمواضع الماء والعشب والصخور والتربة وأسمائها واستخدامها في صناعة أدواتهم مثل الزند والسكين والوعاء والرحاة والابريق والوتد، وكانوا خبراء بالنجوم وأسمائها واستخدامها للدالة على الاتجاه والوقت والطقس، وخبراء بمواضع الزلازل والبراكين ومواسم الفيضانات ومواقعها، وكانوا خبراء بالأمم  ممن حولهم وكذلك بالمسالك والممالك، ومن علوم الحربية فهم خبراء بأوقات الغزو  وطرق المباغتة وفنون القتال والدفاع، وبالمواقع الاستراتيجية وبوسائل الأعلام والأخبار، ومن علوم الهندسة والبناء فهم الذين بنوا من شعر الماعز وصوف الغنم ووبر الإبل وريش النعام وفرو الثعلب وجلد الغزال أجمل البيوت وأخفها، وأروع الملابس والأثاث والفراش والغطاء، وأبدعوا في هذا المجال ابداعاً يفوق الخيال، وأسسوا في هذه الصحراء مترامية الأطراف أول الأسس لبناء المدن التجارية، فكانوا هم أول من انتقل من البادية إلى الاستقرار والحضارة، ولذلك قال علماء الاجتماع لولا البادية ما ظهرت الحضارة.

فالصحراء عند البدو: تلك الأرض الواسعة التي تعتبر قاعدة أساسية لتكوين الثروة من خلال الاتساع الذي يسمح لهم باقتناء وتربية الحلال من الإبل والماعز والأغنام بعدد غير محدود، ولذلك كانت هذه الصحراء المصدر الرئيس لتصدير وانتاج أشهى المأكولات والأغذية مثل اللحوم والألبان والأجبان والسمن والزبد، والبيض، وكذلك منتوجات النسيج مثل الصوف والفرو والجلود، والأعشاب الطبية وكذلك ناهيك عن انتاجهم الوفير في ذلك الزمن مما يصطادون في هذه الصحراءلبيع  افخم الجلود مثل جلود الغزال والنمر وفراء الثعالب والأرانب والذئاب، وريش النعام، وبيع الطيور الجارحة وكلاب الصيد السلوقي، وكانت هذه التجارة رائجة وعليها اقبال كبير، كما كانت الصحراء تحوي بعض الواحات التي ينمو فيها النخيل والرمان وبعض المناطق التي تصلح لزراعة الحنطة والشعير.

وكانت الصحراء هي البيئة والحياة التي عشقها البدو، وهي بالنسبة لهم "الرُّوح" التي تبث فيهم القوة والشموخ والعظمة والحياة الحقيقية، وهي مصدر ثقافتهم وتاريخهم وعزتهم بدونها هم لا يشعرون بسعادة الحياة الطبيعية، ولذلك فالصحراء عند البدو ليست هي الصحراء التي يعرفها بعض العلماء الجغرافيين والجيولوجيين بأنها الأرض التي لا حياة فيها.

فالصحراء قلعة الأدباء والحكماء والفرسان الأبطال والأحرار والرجال، وثقافة الصحراء من أروع وأجمل ثقافات البيئات الاجتماعية على الإطلاق، وهي أجمل لوحة فنية في كوكب الأرض حينما تلتقي فيها سفوح الرمال بسيول الأمطار، أو تلك التلال بضوء القمر..

وصحراء البدو موضع حياتهم وكينونتهم ليست هي الصحراء القاحلة، وإنما هي البيئة واسعة الآفاق التي تسمح لهم بحياة كريمة، فهي اذا تلك البيئة التي يتوفر بها الماء والعشب بشكل يسمح بنجاح تربية حيوانات الرعي، ومن أسماء الصحراء هذه عند البدو: الحماد والبر والبرية والفلاة  وفي اللغة : البيداء، والفيفاء والقفر والمفازة ..الخ

أما صحاري الوطن العربي: فهي  الدهناء والنفود والربع الخالي في المملكة السعودية ودول الخليج، والصحراء البيضاء في مصر، وصحراء النقب في فلسطين، صحراء تطاوين في تونس، صحراءعُمان، صحراء الأنبار في العراق..الخ.

ومن هنا فقد كان للصحراء هذه، أثرها الواضح في تراث العرب تتعدى مفهوم العادات والتقاليد إلى  مفهوم لنظام اجتماعي شامل، فمن مفرداته القضاء "قانون العرف والعادة" أو قانون العشائر أو الدستور البدوي، وهو عندهم أهم بكثير من دستور الدولة ومحاكمها، والتراث والعوايد في المناسبات الخاصة والعامة وفيها : " الدحى والدبكة وهي عدة أنماط، ولها عدة أسماء أيضاً وهي فنون لا تسمح بالتبرج والسفور ولا تستخدم الموسيقى الماجنة إلا أدوات معينة مثل الربابة والمقرون أو اليرغول والشبابة، وكذلك سباقات الهجن والخيل والقفز واللعب بالعصا والسيف، والدحية لا تقام إلا في المساء وتوقد لها نار يطبخ عليها القهوة والشاي ولا يوجد فيها أدوات موسيقية، يشارك فيها مجموعة من البديعة يتبادلون المفاخرات والوقائع والقصص يكون أساسها شخصان يرد كل منهما على الآخر وبقية الرجال يرددون ويصفقون وهم في صف واحد، واذا توقفا هذين الشخصين، يكمل عنهما شخصين أخرين، وهكذا.." واختصار لطول الكلام.. أقول الصحراء أو البادية منهج ثقافي كامل..


              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم