المفاخرات والمنافرات

 

التفاخر والتنافر: جاء في لسان العرب؛ نافَرْتُ الرجلَ مُنافَرَةً إِذا قاضيتَه. والمُنافَرَةُ: الْمُفَاخَرَةُ وَالْمُحَاكَمَةُ. والمُنافَرَةُ: الْمُحَاكَمَةُ فِي الحَسَبِ، والتفاخُرُ: التَّعَاظُمُ. والتَّفَخُّر: التَّعَظُّمُ وَالتَّكَبُّرُ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُتَفَخِّرٌ مُتَفَجِّسٌ. وفاخَرَه مُفاخَرَةً وفِخاراً: عَارَضَهُ بالفَخْر فَفَخَره [لسان العرب، لابن منظور]

ومن التاريخ نقتطف ما أورده ، د. جواد علي في كتابه " المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"

والتفاخر، وهو التعاظم، من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند أهل الجاهلية. وفي الكتب العربية أمثلة كثيرة من تفاخر الجاهليين بعضهم على بعض، وتباهيهم بالأشياء الخارجة عن الإنسان والتمدح بالخصال. وتكون المفاخر بالآباء والأجداد، وبالسيادة والشرف، وبالكثرة، وبالحسب والنسب، حتى إنهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ وفي ذلك نزلت الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . فذكر أن حيين من قريش، بني عدنان وبني سهم، تكاثروا بالسيادة والأشراف، فقال كل حيّ بهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} . وقيل: إن قبيلتين من قبائل الأنصار، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، وقال الآخرون مثل ذلك فأنزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .

وتقع المفاخرات بحضور محكمين في الغالب، أو طرف ثالث محترم، وعلى الطرفين قبول الحكم وإطاعته، وسماع رأي الطرف الثالث في حجج وأقوال المتخاصمين المتفاخرين، وتكون المفاخرة بإظهار كل طرف ما عنده من خصال يفاخر بها، ومن مناقب يستأثر بها، ومن مجد يرى أنه انفرد به دون خصمه، ثم يذكر ما امتاز به على خصمه، بكلام منثور ومنظوم، منسق منمق، وما قام به من أعمال فريدة، وما حل عليه من حروبه مع الناس. وبعد أن يفرغ المتفاخرون من إلقاء ما عندهم من حجج وبيان، ينظر المحكمون في الحجج التي استمعوا إليها، ليبدوا حكمهم بموجبها ويكون حكمهم أصعب شيء يواجهونه، لما يتركه من أثر في نفوس المتخاصمين، ولما سيكون له من تأثير في مكانة من سيخسر المفاخرة.

ويقال للمفاخرة "المنافرة". و "المنافرة" المحاكمة في الحسب، وأن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكّما بينهما رجلًا، كفعل "علقمة بن علاثة" مع "عامر بن طفيل" حين تنافرا إلى "هرم بن قطبة الفزاري"، وفيهما يقول الأعشى يمدح "عامر بن الطفيل" ويحمل على "علقمة بن علاثة":

قد قلت شعري فمضى فيكما ... واعترف المنفور للنافر

وقد نافر "أنيس" أخو "أبي ذرّ الغفاري" شاعرًا على شعره، إذْ كان يرى أنه أجود منه شعرًا. وتكون المنافرة في كل شيء، يرى إنسان أنه يفوق به غيره، كالمنعة والعزّ والجاه والكرم وما شاكل ذلك من خصال. قال "ابن سِيده": "وكأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرًا؟ ".

و"النفار" أن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم. و "النفورة" الحكومة، وورد "يوم نفورة": أي يوم حكومة، حكم فيه بالنفار.

ومن المفاخرات، مفاخر وفود ربيعة ومضر ابني نزار عند النعمان بن المنذر. فكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك". وفيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس بن عيلان "عامر بن مالك" وعامر بن الطفيل. ومن تميم قيس بن عاصم، والأقرع بن حابس. ومفاخرة "آل حذيفة بن بدر" و "آل الأشعث بن قيس الكندي" عند كسرى. وهم من أعرق الأسر في أيامهم، وأشرفها. وقد عَجِب "كسرى" بذكائهم وبحدة أذهانهم. ومفاخرات أخرى مدونة في الكتب.

ومن مفاخرات أهل الجاهلية، منافرة "عامر بن الطفل" مع "علقمة بن علاثة" المذكورة، ومنافرة "بني فَزَارة" و "بني هلال"، ومنافرة "الفقعسي" و "ضمرة"، ومنافرة "جرير البجلي" و "خالد بن أرطاة الكلبي"، ومنافرة "القعقاع بن زُرارة بن عدس" و "خالد بن مالك بن رُبعي بن سلم بن جندل بن نهشل" ومنافرة "هاشم بن عبد مناف" و "أمية بن عبد شمس".

ومن المنافرات، منافرة "عامر بن أحيمر" عند "المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء". فقد ذكر أن "المنذر" أخرج بردين يومًا يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة، فليأخذهما. فقام "عامر بن أحمير" فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدي الآخر، فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ فقال: العز والعدد في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عَوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني، فسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، فقال: من أزلها عن مكانها، فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين، وعرف ب "ذي البُردَين".

وطالما كانت تؤدي هذه المفاخرات إلى وقوع حروب وسفك دماء، ولذلك أبطلها الإسلام، ونهى عنها؟ وعدّها من شعار الجاهلية.

والمساجلة في معنى المفاخرة، بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي. وتساجلوا بمعنى تفاخروا. ذكروا أن أصل المساجلة: أن يستقي ساقيان، فيخرج كل منهما في سَجْله مثل ما تخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلًا للمفاخرة، فإذا قيل فلان يساجل فلانًا فمعناه أنه يخرج من الشرف مثل ما يخرجه الآخر، فأيهما نكل فقد غلب.

وتعرف "المفاخرة" ب "المُباهاة" أيضًا. فيقال. تباهوا إذا تفاخروا. وأما إذا صايحه، فيقال هاباه. وذلك بأن يذكر كل متباه مناقبه ومناقب قومه، يتفاخر بها على خصمه. وطالما أدت المباهاة إلى وقوع خصومات ومعارك.

ومن مفاخر العرب التفاخر بمن برز عندهم في عمل فذ وفي عمل خصال كريمة، أو قام بفعل استحق الإعجاب. فكانت القبائل تتفاخر بذكر أسماء هؤلاء، وتحفظ أسمائهم للتباهي بهم، كما تفعل الدول في التباهي برجالها. ومن مفاخرها: الفروسية، فعد "الحوفزان" مثلًا وهو "الحوفزان بن شريك" فارس بكر بن وائل.

وافتخروا ب "الأصم عمرو بن قيس"، ولقب عند المتفاخرين به بــ "صاحب رءوس بني تميم"، وافتخروا ب "مفروق بن عمرو" "حاضن الأيتام" والظاهر أنه كان يحن على الأيتام ويعطف عليهم، لذلك لقب بهذا اللقب، وافتخروا بـ "سنان بن مفروق"، الذي عرف ب "ضامن الدمن". كما افتخر ب "عمران بن مرة" لأنه أسر "يزيد بن الصعق" مرتين.

ولا يزال العرب حتى يومنا هذا، يفتخرون ويتفاخرون ويفاخرون بكل رجلٌ من رجالهم يتميز بالفروسية والوقوف بجانب الحق ومواجهة الظالمين والطغاة، ويتحلى بالأخلاق الحسنة والخصال الكريمة الطيبة، و ما زال ايضاً المدح والذم مستمرين حتى يومنا هذا، فهذه الأمور من خصال العرب و غالبيتهم تواقون دائماً لمناصرة الحق و التضحية في سبيل ذلك، ويكرهون ويرفضون السلوكيات السيئة والتصرفات الحقيرة رفضاً قاطعاً، 

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم