وظيفة المختار أسبابها وتاريخها |
بسم الله الرحمن الرحيم،، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجميعن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
سأشرح في هذه المقالة، تاريخ ظهور وظيفة "مختار" القرية أو البلدة، وأسباب ودوافع ذلك، ورأي القبيلة في هذا الأمر، وبعض الأحداث المتعلقة بهذه الوظيفة وتبعاتها محلياً..
أولاً: تاريخ ظهور هذه الوظيفة؛
بدأ أول ظهور لهذه الوظيفة في بلاد الشام ما بين عام 1850م - 1856م، أما طريقة اختيار رئيس أو مسؤول أو والي أو ما شابه من مسميات أخرى كهذه، هي طريقة قديمة تاريخياً، وكلمة مختار بحد ذاتها قديمة ايضاً، ولكن نحن نتحدث فقط عن ظيفة "مختار" بهذه التسمية تحديداً، وهي وظيفة ظهرت في أواخر الدولة العثمانية وخاصة بعد تعرض مراكزها وجنودها ومؤونها للنهب والغزو المتكرر عقب حروبها مع القوات المصرية بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي والي مصر عام 1830م.
إذا بدأت الحكومة العثمانية رسمياً، بتعيين أشخاص لوظيفة "مختار" في كل حي وبلد وقرية وعزبة سكنية، بعد أن ناقشت طرائق وأساليب فرض السيطرة مجدداً على المجتمعات، بعيد انسحاب قوات إبراهيم باشا "المصرية" من بلاد الشام، والتي انتصرت قواته على القوات العثمانية مكبدة اياها خسائر فادحة، كما ساعدت هذه الحرب أيضاً سكان البلاد على التسلح والتجرؤ على جنود الحكومة العثمانية، ومن الجدير ذكره في هذه النقطة، أن إبراهيم باشا أثناء غزوه للعثمانيين شجع واستعان بالقبائل البدوبة، والتي هي في الأصل عبارة عن كتائب مسلحة بطبيعتها، فوجدت في ذلك فرصتها التي طالما كانت تتربصها من قبل، وبعد انسحاب القوات المصرية من بلاد الشام عام 1840م على أثر توقيع الاتفاق مع الحكومة العثمانية، واعادة انتشار الحاميات العثمانية في البلاد، اشتدت حملة النهب والسلب للسلاح والمؤون من قبل العربان، وظهرت حاجة الحكومة الماسة لاعادة السيطرة وفرض الأمن من جهة، وضرورة توطين البدو من جهة ثانية وهي الطريقة التي بدأ بها ابراهيم باشا أثناء سيطرته على بلاد الشام، حيث قام بتشجيع البدو على الاستقرار وممارسة الزراعة، الأمر الذي حدث بالفعل، وهي طريقة تم استخدامها سابقاً في نطاق محدود في مصر، وتجري نفس الطريقة على قدم وساق في ذات الوقت في معظم البلدان العربية، كأحد الحلول المطروحة للحد من عمليات نهب وسلب البدو الرحل للقوافل، والحد من الحروب الأهلية..
ثانياً: أهداف ودوافع وظيفة مختار القرية:
مختار القرية، تم من خلال طلب الحكومة نفسها ذلك من قبل التجمعات القروية والبدوية، القديمة والجديدة على حد سواء، وكان طلب الحكومة ذلك من السكان، هو طلباً اجبارياً، بهدف ابقاء عين الحكومة متحملقة في تصرفات وسكلوكيات السكان، وسرعة الكشف عن الجنايات والجرائم وأعمال الشغب والنهب، وتسليم الأشخاص محل الشبهة أو المدعي عليهم والمتهمين للحكومة، هذه أهم أهداف الحكومة من وراء هذه الوظيفة، ومن هنا كان مختار القرية كشخص موظف لدى الحكومة، عليه الحضور لمركز الأمن للابلاغ عن أي سلوك مشبوه في قريته وتقديم ما يلزم من معلومات للحكومة، وكذلك عليه سرعة تأدية الأوامر المرسلة له.
وهذا السبب الذي جعل "مختار" القرية دائماً عرضة للانتقام من أفراد مجتمعه من جهة، ونفور الناس منه من جهة أخرى، وإذا أظهر المختار تضامنه أو تعاونه مع قريته وتستر على من تعتبرهم الحكومة "جناة" يتم معاقبته وفصله من هذه الوظيفة.
ويمكن تعداد مهام وظيفة مختار بحسب نص القانون فيما يلي:
- وظيفة المختارين هي إعلان القوانين والنظامات وأوامر الحكومة
- وجمع أموال الدولة المطروحة وتذاكر التوزيع التي يرسلها مدير الناحية
- وتبليغ تذاكر الإحضار التي ترسل بمعرفة الحكومة
- وتبليغ الحجز
- وإخبار مدير الناحية عما يقع في القرية والمزارع من المواليد والوفيات
- وإعلامه بالسرعة عن قضايا الجرح والقتل
- المعاونة في تسليم الخارجين والقتلة إلى الحكومة
- وإعطاء معلومات إلى مدير الناحية عن الأراضي المحلولة والمكتومة والمستملكات التي لم تجر معاملاتها الانتقالية والإنشاءات المغائرة للنظام
- والنظارة (مراقبة) على الناس الذين ينتخبون من طرف مجالس الاختيارية ليكونوا في ضابطة القرية كالنواطير.
ثالثاً: رأي القبيلة "البدوبة" في ذلك:
البدو الذين بدأوا الاستقرار في بعض القرى والمناطق الصالحة للزراعة والرعي، ما زالوا متشبثين ببعض عاداتهم البدوية؛ التي تعتبر الحكومة ألد أعدائهم، وأن التعاون من الحكومة من وجهة نظرهم هو أمر مرفوض، وهم يؤمنون بحرية مطلقة في حياتهم، وما زال الاستقرار أمراً جديدا عليهم، يتعارض مع نظامهم الاجتماعي الخاص بهم.
ولذلك اتخذ البدو أسلوباً خاصاً، في التعامل مع الحكومة بخصوص مطلبها " تعيين مختار"، حيث قام العربان باختيار الأشخاص الذين ليس لديهم القدرة على الحصول على المعلومات الضارة بالقبيلة ومصالحها وأفرادها، لتكن عين الحكومة في القبيلة "عمياء" وأذنها "طرشاء"، هذا بالنسبة للبدو الذين بدأوا بالاستقرار مؤخرا (في فترة ظهور هذه الوظيفة)، أما البدو الذين ما زالوا يعيشون في بيئتهم الخاصة، لم يكن بينهم من يعمل بمثل هذه الوظائف، فما هو معلوم بأن للبدو نظامهم الاجتماعي الخاص بهم، والذي من الصعب التخلي عنه.
وأما الفرق بين "المختار" وبين زعيم القرية فهو فرق كبيرا، لقد حاول بعض المخاتير الأذكياء في القرى والبلدات السيطرة على القرية بمساعدة الحكومة، إلا أنهم تصادموا مع الزعماء المحليين من شيوخ العائلات وزعمائهم، بسبب اعتبار الناس للمختار بأنه عميل للحكومة، بينما شيوخ العائلة هم الرجال الحريصون على سلامة أبنائهم، ومن هنا فإن دور شيخ العائلة وزعيمها هو الدور الناجع والناجح في المجتمع وهو صاحب الكلمة المسموعة.
كان ذلك في فترة الدولة العثمانية، وأما بعد وقوع الشام والعراق لفترة الانتداب البريطاني والفرنسي بعيد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب عام 1917م، مارست حكومات الانتداب فرض سيطرتها الأمنية واستعانت بالمخاتير للحصول على معلومات مهمة حول الثوار والفدائين في قراهم، الذين انتفضوا في وجه الانتداب، ومن هنا كان تعامل المختار مع حكومة الانتداب قد يودي بحياته إلى هلاك مخزي وعار دائم، فمنهم من وقع في ذلك بالفعل، ومنهم من انضم إلى الثوار ومات ميتة مشرفة، ومنهم من استعمل ذكاؤه في كسب رضا الحكومة من جهة، والثوار من جهة أخرى، لأنه استطاع بحنكته أن يكون عوناً لبلده ولم يفرط في معلومة تضرهم.
ومن هنا، فإن العرب سواء في عهد الدولة العثمانية وكذلك في عهد الانتداب الذي تبعه، رفضوا مبدأ هذه الوظيفة من أصلها، وكان بعض الرجال يعتبرونها عيباً لا يغتفر، فامتنعوا عنها، وخاصة القبائل البدوية التي تتمسك بتراثها العريق، ومنذ ذلك الوقت التي بدأت فيه الحكومات تفرض سيطرتها الأمنية بشتى الوسائل إيجابية كانت أم سلبيةً، انعكس هذا الأمر بشيء لم يكن لصالح الحكومة ولا لصالح الشعب أو الامة.