خفت صوت الشعر، ولكنه لم يصمت تمامًا، فقد كان هناك شعراء استجابوا لدعوة الإسلام سراعًا، واستبدلوا بمفاهيم الشعر الجاهلية مفاهيم إسلامية جديدة، واستطاعوا أن يتقيدوا بمهمة الشعر التي حددتها المثل الإسلامية، وأن يكتسبوا لأنفسهم أسلوبًا أفادوه من التأثر بالقرآن الكريم، كما فعل أولئك الذين جندوا للتصدي لشعراء قريش. بينما ظلت طائفة منهم لم تسعفهم سلائقهم الشعرية بما طبعت عليه من الإلف للتقاليد الجاهلية المتأصلة بعيدة عن التأثر بهذه المثل، ومن ثم لم يتمكنوا من أن يستبدلوا بها غيرها فكان أن سكتوا عن قول الشعر، حتى كادت ينابيعه أن تغيض في وجدانهم.
وكان هناك بطبيعة الحال طائفة أخرى، اختلط فيها الماضي بالحاضر، فمزجت بين ما كانت فيه وما أقبلت عليه. وقد وجد هذان النوعان في الفتوح الإسلامية منطلقًا لهم ومتنفسًا، فشارك عدد كبير منهم فيها، واحتفظت لنا الروايات بأخبارهم وأشعارهم، دون أن تؤثر في ذلك ظروف الفتح التي طمست صورة الشعراء المغمورين، الذين لم يكن لهم شهرة بالشعر من قبل.
أما هؤلاء الذين نضجوا وذاع صيتهم وشهرتهم قبل الفتوح فلا نجدهم قد تأثروا بذلك إلا قليلًا، فشعرهم وإن كان أبياتًا مفردة أو مقطعات مبتسرة يتلقفه الرواة والإخباريون والمهتمون بالشعر، متأثرين في ذلك بما لهؤلاء الشعراء من ماضٍ فني، دون نظر منهم إلى قيمة الشعر ذاته، التي اكتسبها من الظروف التي صدر خلالها.
وقد شارك في الفتوح عدد كبير من الشعراء القدامى من أمثال عمرو بن معديكرب الزبيدي، وعبدة بن الطبيب، وأبي محجن الثقفي، وربيعة بن مقروم الضبي، وأبي ذؤيب الهذلي، وعمرو بن شأس الأسدي، وقيس بن مكشوح المرادي، وعروة بن زيد الخيل الطائي، والنابغة الجعدي، والشماخ، والحطيئة.
وليس شك في أن شعر هذه الطبقة من شعراء الفتح يختلف عن شعر غيرهم من الشعراء، فهو شعر ناضج برغم الظروف التي شهدت مولده، وهو يمتاز عن بقية شعر الفتح بامتداد نفسه نسبيًّا، كما يظهر فيه بوضوح غلبة الفخر الفردي على الفخر بجماعة المسلمين، وكأن الشاعر الناضج يحس بنفسه إحساسًا أقوى من إحساس غيره من الشعراء المغمورين، بل أقوى من إحساسه بالمثل الدينية في أكثر الأحيان.
كما أن شعرهم يتميز بميزة خاصة وهي أن فرصة الظن في انتحاله نادرة؛ إذ هناك ما يخشاه المنتحل لو عزا انتحاله إلى شاعر شهير، فإنه بذلك يضع نفسه موضع الشبهة إذا ما تكلف الدارسون بإعادة الأمور إلى نصابها بالتحليل والتدقيق، ومقارنة المنتحل بشعره المعروف له.
وقد يعجب الدارس حينما يجد هذه الطبقة الممتازة من الشعراء على كثرة عددها لم تخلف في شعر الفتوح آثارًا تتناسب معها في الكم والكيف. حتى إننا إذا أردنا أن نتخذ أحدهم مثالًا للشعراء القدامى الذين أسهموا في الفتوح لم نجد أحدًا منهم جديرًا بالدراسة؛ لقلة ما خلف في ظروف الفتح. ولسنا نستطيع أن نعزو قلة شعرهم إلى ضياعه، لما سبق أن قررناه من أن شهرتهم قد حفظت شعرهم من الضياع، فوصل إلينا كاملًا، كما وصلت إلينا أخبارهم بتفاصيلها الدقيقة.
فهذا عبدة بن الطبيب١ تذكر الروايات عنه أنه شهد مع المثنى بن حارثة قتال هرمز. وله في ذلك آثارًا مشهورة٢، وأنه شهد الواقعة التي كانت عقب القادسية٣، كما يروي أنه كان في جيش النعمان بن مقرن، وأنه شهد معه حرب الفرس في المدائن١، ثم لا نجد من هذه الآثار المشهورة إلا قصيدة واحدة، وإن كانت طويلة جدًّا؛ إذ تبلغ نيفًا وثمانين بيتًا، تتنازعها هذه الروايات جميعًا بين أن تكون قد قيلت في وقعة بابل التي كانت بين المثنى وهرمز على مبعدة خمسين ميلًا من المدائن٢، أو أن تكون قد قيلت في وقعة المدائن ذاتها، أو في نهاوند، حينما غزا مع النعمان بن مقرن. وقد توهم صاحب الإصابة أنها المدائن، متابعة في ذلك لصاحب الأغاني.
ونحن نميل إلى أن تكون هذه القصيدة قد قيلت في وقعة نهاوند، التي وقعت بعد تمصير الكوفة التي يشير إليها الشاعر.
ويجد الباحث نفسه متحيرًا أمام هذه القصيدة الرائعة، ولا ترجع حيرته إلى روعتها وإلى امتداد نفسها في مثل هذه الظروف القلقة فحسب، وإنما للحيرة أسباب أخرى.
فجميع الروايات متفقة على أن هذه القصيدة من قصائد الفتح الإسلامي، وأنها قيلت في إحدى الوقائع التي شهدها الشاعر ضد الفرس، والقصيدة تشير إلى ذلك في بعض أجزائها، من مثل قول عبدة في مطلعها:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول؟
حلت خويلة في دار مجاورة ... أهل المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رءوس العجم ضاحية ... منهم فوارس لا عزل ولا ميل
فخامر القلب من ترجيع ذكرتها ... رس لطيف ورهن منك مكبول
رس كرس أخي الحمى إذا غبرت ... يومًا تأوبه منها عقابيل
وللأحبة أيام تذكرها ... وللنوى قبل يوم البين تأويل
إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول٣
وإلى هذا الحد لا موجب للحيرة، فالشاعر يتحدث عن صاحبته التي هجرته -أو هجرها- ونزحت إلى الكوفة؛ حيث جاورت المدائن التي فيها الديوك والفيول وحيث المسلمون يقارعون فوارس الفرس. وقد عاوده حبه القديم كأنه مس الحمى في مبتدئها ومنتهاها. وصاحبته هذه التي استوطنت الكوفة لا تشعر به، فقد نسيت هواه، وكأنما غالته غول.. إلى هنا لا موجب للحيرة.
ثم ينتقل الشاعر من بعد إلى وصف ناقته ورحلته بعد أن تخلص فرمى نفسه بالضلال، إذا سمح للصبابة أن تشغله عن عمله، واستغرق وصفه لناقته ستة عشر بيتًا، وصفها فيها بعظم الخلقة والسرعة والقوة، في لغة جاهلية نحتت نحتًا، وتعرض في أثناء ذلك إلى وصف ما صادفه في الرحلة من القطا، ثم عاد إلى وصف الناقة، فشبهها بثور وحشي، وصفه بأنه بعيد ما بين القرنين محجل مكحول العين. ووصف القانص الذي يترصده وزوجه تنتظره وقد نام في حجرها صغير كالقرد، وهذا القانص يغري كلابه الضارية المدربة، ثم يصور المعركة التي نشبت بين الثور والكلاب تصويرًا رائعًا برغم ما يكتنف ذلك من صعوبة اللغة وتقعرها. ووصف بعد ذلك خروج الحيوان متأثرًا من المعركة، يستقبل الريح كأنه السيف المسلول، ويصور إعياءه بعد أن صرع الكلاب طعنًا في صدورها فأنهك، لكنه يستشعر الظفر والانتصار فيجري، وآثار المعركة بادية عليه، ودماء ضحاياه تلوث وجهه، وقد تدلي لسانه عن شمال شدقه، ويجري فيثير جريه النقع، ولكنه يبرك ثانية حتى يكل فرجه من ارتطامه بالحصى. وقد استغرق الشاعر في وصف هذه المعركة عشرين بيتًا، انتقل بعدها إلى وصف منهل دل عليه رفاقه في الرحلة، وكان الماء قد نفد فوردوا، وقد ران عليهم النعاس من الإجهاد. ثم قالوا حد الظهيرة، وبعد ذلك رفعوا أرديتهم. وصاروا يعدون اللحوم للطعام ما بين ورد وأشقر، وفار باللحم للقوم المراجيل، وأكلوا ثم مسحوا أيديهم في مناديل من أعراف خيولهم الجرد المسومة. ويستغرق هذا المشهد سبعة أبيات، يتحدث في آخرها عن الخيول، ثم يعود كرة أخرى إلى وصف العيس التي ارتحلوا عليها.
ويعود بعد ذلك إلى حديث يذكرنا بالأبيات التي أسلفنا، ذلك أنها تنصرف فيما انصرفت فيه تلك الأبيات من تصوير الجهاد، وهي كذلك رقيقة في لغتها حيث يقول:
نرجو فواضل رب سيبه حسن ... وكل خير لديه فهو مقبول
رب حبانا بأموال مخولة ... وكل شيء حباه الله تخويل
والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل١
ثم انصرف عبدة بن الطبيب إلى وصف جرأته ومغامراته التي أفزع بها الوحوش في هدأتها، وطروقه القفار والأهوال بجواده المتكامل الخلقة، الذي تميزه سيقانه القوية السريعة المقتدرة. واستغرق هذا المشهد تسعة أبيات راح يصف بعدها طروقه لحوانيت الخمارين، مع صياح الديك، ومع رفيق ضليل مثله أعداه بلذاته وخرقه، جاد إذا حزبه الأمر، مخالط للهو واللذات، وفي هذا الحانوت بسطت لهما الفرش المزينة بالتصاوير الرائعة للدجاج والأسد، في جو رائع؛ حيث ترسل ذبالة ضوئها فترى الزق معدًا، وآثار العراك باقية، والأكواب موضوعة، والأباريق مصفوفة، والريحان مجهزًا، وأكوابًا مترعة، والزبد طاف فوقها، والشواء يسعى به متمنطق عجول؛ حيث أعد الخوان وفوقه التوابل، واصطبح الشاعر بما شاء من طيب الراح، وتابع الشرب صرفًا وممزوجة على الريحان، وعلى شعر مذهب لآنسة جيداء، صوتها ترتيل، تغدو على الشرب وتروح، فتلهيهم تارة وتارة أخرى يحاصرونها، ويلقون عليها بردهم وسراويلهم إعجابًا.
هل أمام الدارس إلا أن يقف محيرًا أمام هذه القصيدة الرائعة؟
وعلامَ الحيرة؟ إن تلك الأبيات التي أشرنا إليها قد قيلت في الفتح، وما عداها لا يمكن أن يكون من شعر الفتح، أو من الشعر الإسلامي ألبتة والقصيدة إذن جزآن واضحان ومختلفان في مدلولهما وصياغتهما، أحدهما إسلامي، والآخر جاهلي. وليس ببعيد أن يكون أحد الرواة قد مزجهما في قصيدة واحدة على هذا الشكل الذي نراها عليه، وروتها به الروايات.
والذي يجعلنا نميل إلى هذا الرأي ما نراه من شبه في الصياغة الفنية لهذه الأبيات الإسلامية في القصيدة، وفي قصيدته الإسلامية التي يُوصي فيها ابنه ويقول في ختامها:
ولقد علمت بأن قصرى حفرة ... غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والأقربون إلى ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها ... تسفي على الريح حين أودع
فإذا مضيت إلى سبيلي فابعثوا ... رجلًا له قلب حديد أصمع
إن الحوادث يخترمن وإنما ... عمر الفتى في أهله مستودع
يسعى ويجمع جاهدًا مستهترا ... جدا وليس بآكل ما يجمع
حتى إذا وافَى الحمام لوقته ... ولكل جنب لا محالة مصرع
نبذوا إليه بالسلام فلم يجب ... أحدا وصم عن الدعاء الأسمع١
فهذه سهولة إسلامية، ومعانٍ تحمل ظلال الأفكار الإسلامية، شبيهة بحديثه عن العيش في أبيات لاميته. فنفس الروح الحكيمة جلية في الموضعين هذين، ولا يمكن أن يكون هو الذي يتحدث عن اللهو والشراب والطرب في الإسلام، وهو الذي يقول في نصيحة بنيه:
أوصيكم بتقى الإله فإنه ... يعطي الرغائب من يشاء ويمنع
وببر والدكم وطاعة أمره ... إن الأبر من البنين الأطوع٢
وعدا تلك الأبيات التي تتحدث عن خولة ورحيلها إلى الكوفة، وحرب الفرس، وابتغاء فواضل الله لا نعرف لعبدة شعرًا في الفتح.
واشترك في الفتوح من الشعراء القدامى ربيعة بن مقروم الضبي٣، من شعراء مضر المعدودين، وهو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وعمر طويلًا في
الإسلام١. وتذكر الروايات أنه شهد القادسية وجلولاء٢، كما تذكر أنه كان سجينًا لدى كسرى المشقر قبل الإسلام٣. كما يذكر ابن حجر صاحب الإصابة أن له شعرًا في القادسية٤.
وكل ما يروى له من شعر في الفتوح لاميته المطولة، التي يتحدث فيها عن معركة الفيول. ونرانا مضطرين إلى أن نقارن بين هذه القصيدة ولامية عبدة بن الطبيب التي أشرنا إليها. ذلك أن ظروفهما تكاد تكون واحدة، وهي تسير على هذا النمط:
شماء واضحة العوارض طفلة ... كالبدر من خلل السحاب المجتلي
وكأنما ريح القرنفل نشرها ... أو حنوة خلطت خزامى حومل
وكأن فاها بعدما طرق الكرى ... كأس تصفق بالرحيق السلسل
لو أنها عرضت لأشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرا متبتل
جآر ساعات النيام لربه ... حتى تخدد لحمه مستعمل
لصبا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهم من ناموسه يتنزل٥
وبعد هذه المقدمة الغزلية يبدو الشاعر وكأن غزله ساقه إلى تذكر ما كان في صباه، فيقارن بين ماضيه وحاضره، وتصيبه الحسرة إذ طعن في السن، وغزا الشيب لمته، وانحنى ظهره، وأضحى يدب دبيبًا كمن يخاتل صيدا عن نفسه، فيتذكر ما كان يصبي الغواني من صباه وميعته.. فيقول:
بل إن ترى شمطاء تفرع لمتي ... وحنا قناتي وارتقى في مسحل
ودلفت من كبر كأني خاتل ... قنصا ومن يدبب لصيد يختل
فلقد أرى حسن القناة قويمها ... كالنصل أخلصه جلاء الصيقل
أزمان إذ أنا والجديد إلى بلى ... تصبى الغواني ميعتى وتنقلي١
يدلف من ثم إلى الفخر بمهارته وبراعته في القتال، وشهوده الحرب، وطراد الخيل بفرس سليم أوظفة القوائم هيكل، سباق لأوابد الجياد، يجري منه الحميم، ويهوي بصاحبه هوى الصقر، وينتقل إلى الحديث عن جسارته هو، فهو مقدام، لا يكاد يسمع دعوة للنزال حتى يكون أول نازل، وهو جماع للمال، ودخال لأبنية الملوك، وهو لا يغالي في هذا القول، فشر ما قاله المرء ما لم يفعله، وهو أريب بارع يجيد خدع النزال، فقد يكون خصمه حنقًا، يغلي صدره بعدواته، فإذا به يحاوره ويداوره حتى يتبين منه غرة فيكويه على نواظره.. يقول:
ودعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
ولقد جمعت المال من جمع امرئ ... ورفعت نفسي عن لئيم المأكل
ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل
ولرب ذي حنق على كأنما ... تغلي عداوة صدره كالمرجل
أرجيته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل٢
وتُروى هذه الأبيات الأخيرة مضافًا إليها أبيات أخرى في بعض الروايات، تقول:
ودخلت أبنية الملوك عليهم ... ولشر قول المرء ما لم يفعل
وشهدت معركة الفيول وحولها ... أبناء فارس بيضها كالاعبل
متسربلي حلق الحديد كأنهم ... جرب مقارفة عنية مهمل٣
وهذه الأبيات هي التي يمكن أن تكون قد قيلت في الفتوح، ويبدو من إفرادها برواية مختلفة عن القصيدة لاختلاف مدلولاتها عن بقية القصيدة أن القصيدة جاهلية فيما
عدا هذه الأبيات، فهل ينزلق بعد ذلك إلى الحديث عن مغامراته اللاهية من أجل الشراب والعبث، فهو عتيق في هذا اللهو، يفتن صديقه الزميت حتى ليجعله يضرب بعذل العذال عرض الحائط فيتبعه، ويعصاهم ويطيع لذته. وصديقه شريف الحسب، يذهب إليه الشاعر فينبهه في الصباح أو قبل أن ينبلج الصباح ليأتيا حانوتًا من حوانيت الخمارين؛ حيث يصطحبان فيه معتقة لم يقتل عنفوانها الماء، ولا يزالان يسقطان على هذه الحوانيت حتى تفرغ حاجتهما إلى اللذة. وعندما ينتشي الشاعر تهاجمه الذكريات فيتحسر على سنوات عمره المائة، التي أضاعها سنة إثر سنة، والدهر يبلي كل جدة مبذل. فيقول:
وأخي محافظة عصى عذاله ... وأطاع لذته معم مخول
هش يراح إلى الندى نبهته ... والصبح ساطع لونه لم ينجل
فأتيت حانوتًا به فصبحته ... من عاتق بمزاجها لم تقتل
صهباء إلياسية أغلى بها ... يسر كريم الخيم غير مبخل
ومعرس عرض الرداء عرسته ... من بعد آخر مثله في المنزل
ولقد أصبت من المعيشة لينها ... وأصابني منه الزمان بكلكل
فإذا وذاك كأنه ما لم يكن ... إلا تذكرة لمن لم يجهل
ولقد أتت مائة عليَّ أعدها ... حولا فحولا إن بلاها مبتلى
فإذا الشباب كمبذل أنضيته ... والدهر يبلي كل جدة مبذل١
ويخوض بعد ذلك في فخر قبلي صرف بكرم قومه وقراهم الضيف، وتأدية المعروف في غير تنحل، وشجاعتهم وحلولهم الثغور المخوقة، وإعانتهم لذي الغرم، ومنعهم الجار، ورفعهم لذكرهم في كل محفل، ويبذلهم عن سعة، ويشيد بخطباء قومه الفصحاء، وسعة حماهم، وقيامهم بحمولة المقل.
وهكذا تبدو واضحة جاهلية هذه القصيدة التي تذخر بالمدلولات الجاهلية، من الغزل الحسي، إلى وصف الفرس، والإشادة بجسارة الشاعر إلى سرد مغامراته الليلية في علب الليل، إلى الفخر القبلي الصرف بالكرم والشرف والسؤدد، بينما تبدو الأبيات التي أفردتها بعض الروايات بين هذه المدلولات الجاهلية -غريبة وقلقة في موطنها، مما يؤكد ما ذهبنا إليه، من أن هذه القصيدة قد صنعت هي الأخرى عن عهدين مختلفين، ومزجتهما الروايات بهذه الصورة، وخلافًا لهذه الأبيات التي تتحدث عن معركة الفيول، والتي نرجع أنها قيلت في القادسية١، لا نعرف لربيعة بن مقروم الضبي شعرًا في الفتوح.
ومن الشعراء القدامى الذين شهدوا الفتوح أبو محجن الثقفي، ذلك الفارس المعدود في أولي البأس والنجدة٢، وصاحب البلاء يوم أرماث بالقادسية. وتذكر الروايات خلافًا كبيرًا في خروجه إلى الغزو، فيذهب بعضها إلى أنه حد في الخمر مرارًا، ولم ينته فنفاه عمر بن الخطاب إلى جزيرة في البحر، وأرسل معه حرسًا تمكن من الخلاص منه، ثم التحق بسعد بن أبي وقاص في القادسية٣. بينما تذهب بعض الروايات إلى أنه خرج غازًا مع سعد لحرب الأعاجم، فكان يؤتى به شاربًا، فحبسه سعد في القادسية٤، كما تروي أخبار أخرى في سبب نفيه مختلفة عن هذه الأسباب، التي أوردنا من أنه هوي امرأة يقال لها: "شموس" واحتال في النظر إليها وتغزل فيها فاستعدى زوجها عليه الخليفة، فنفاه، وهرب من حارسه ليلحق بسعد٥.
ولكننا لا نقبل هذه الروايات جميعًا، في خروجه، وكيفية التحاقه بسعد، فمن المؤكد أنه شهد معارك قبل القادسية، وروي له فيها شعر، كالذي أوردناه في يوم الجسر، وكان قد شهد هذه الواقعة مع بني أبيه من ثقيف، في جند أبي عبيد الثقفي٦.
ومهما تختلف الروايات في أمر خروجه للغزو فإنها تتفق في مجموعها على رواية حبسه بالقادسية، واستعطافه زوج سعد أن تلطقه، حتى يشترك في القتال بشعر يكشف عن ولوعه بالحرب وبلائه فيها، كما تتفق جميعها على أفاعيله العجيبة يوم أرماث، حتى ليدخل عمله في إطار الأسطورة.
ويُروى أنه لما عاد من القتال ليضع رجليه في القيد كما تعهد لزوج سعد قابلته امرأة في الطريق فظنته لعجلته فارًّا منهزمًا، فأنشأت تقول:
من فارس كره الطعان يعيرني ... رمحا إذا نزلوا بمرج الصفر
فأجابها أبو محجن:
إن الكرام على الجياد مبيتهم ... فدعى الرماح لأهلها وتعطري١
ولما عاد ورجع إلى محبسه أنشأ يقول:
لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا رفدهم في كل يوم ... فإن جحدوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أكره لمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فقد عرفوا بلائي ... وإن أطلق أجرعهم حتوفا٢
وتُروى في الخزانة أبيات لم ترد في ديوانه عن بلائه في القتال، تقول:
لما رأينا خيلا محجلة ... طرنا إليهم بكل سهلبة
وقوم بغى في جحفل لجب ... وكل صافي الأديم كالذهب
وكل عراصة مثقفة ... فيها سنان كشعلة اللهب
وكل عضب في متنة أثر ... ومشرفي كالملح ذي شطب
وكل فضفاضة مضاعفة ... من نسج داود غير مؤتشب
لما التقينا مات الظلام ودا ... ر الموت دور الرحى على القطب
فكلنا يستكيض صاحبه ... عن نفسه والنفوس في كرب
إن حملوا لم نرم مواضعنا ... وإن حملنا جثوا على الركب١
وهي أبيات فريدة في وصف أسلحة المسلمين، وتصوير بلائهم، لا نجد لها شبيهًا في كل ما لدينا من شعر الفتوح.
كما تُروى له أبيات قالها في محبسه لزوج سعد، عندما سألته: فيمَ حبسه سعد؟ فأجاب: والله ما حبسني في حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، فينفثه أحيانًا، ولأني قلت:
إذا مت فادفنى إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
ليروي بخمر الحص لحمي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها٢
وهذه رواية نميل إليها، وإن كنا نلاحظ عليها شيئًا، فغير معقول أن يعاقر أبو محجن الخمر في ميدان القتال، كما ذهبت إلى ذلك بعض الروايات، كما أنه لا يمكن أن نتصور أن يحبس سعد شاعرًا لأبيات قالها، وإن كنا نعتقد أن أبا محتجن صادق فيما قاله لزوج سعد، من ممارسته للخمر في الجاهلية وإقلاعه عنها فيما بعد ذلك.
والذي نراه أن سعدًا قد حبس الشاعر في حقيقة الأمر لسبب خفي وإن كان احتج بشعره في الخمر ليدينه به، فأما هذا السبب فهو شغب أبي محجن مع غيره من وجوه القوم قبل بدء القتال في القادسية، ونسبتهم سعدًا إلى الجبن، عندما قعد عن قيادة المعركة بسبب ما ألم به من المرض. ومما يؤكد هذا اقتران حبس الشاعر بقصته مع سلمى زوجة سعد وأرملة المثنى، في نفس الليلة التي نسبت فيها سلمى هي الأخرى قعود
زوجها إلى الجبن، وما كان من ندائها: "وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم" فلطمها سعد وأغضبها، فقالت: أجبنا وغيرة؟ وباتت مغاضبة له ليلة أرماث وفيها أطلقت أبا محجن ثم قصت خبره معها على سعد بعد أن صالحها١. والطبري يصرح في رواية له بأن سعدًا حبس أبا محجن وسواه؛ لأنهم اختلفوا عليه وشغبوا٢.
أما ما يذكر عن حده في القادسية وشعره الذي يصر فيه على الخمر، ففي رأينا أنه نتيجة لما أحاط بقصة أبي محجن من التأثيرات الشعبية، والتزيد في أخباره كما سنرى فيما بعد.
ولنا أن نلاحظ على شعر هؤلاء الشعراء القدامى في الفتوح برغم قلة ما وصل إلينا منه قلة التأثيرات الإسلامية، كما يتضح فيما عرضنا له من شعرهم، وما سنعرض له لدى دراستنا لنموذج منهم وهو: عمرو بن معديكرب الزبيدي. على حين نجد بعض الشعراء القدامى قد امتلأ شعرهم بهذه التأثيرات مثل: النابغة الجعدي، وعروة بن زيد الخيل، وقد ادخرنا الحديث عنهما إلى حين، عندما نعرض للطوابع الإسلامية في شعر الفتوح.
وفضلًا عن هؤلاء وأولئك نجد بعض الشعراء القدامى الذين اشتركوا في الفتح لم يخلفوا لنا شيئًا من شعرهم في هذا السبيل، مثل: الحطيئة والشماخ.
من كتاب// كتاب شعر الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام، النعمان عبد المتعال القاضي