العرب في صقلية وإيطاليا

العرب في صقلية وإيطاليا

يقول الباحث والمؤرخ الفرنسي غوستاف :

يدلنا درس تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دخلوها على أن لغزواتهم مناحي مختلفة، أي يدلنا على أنهم إما أن يكونوا قد أغاروا عليها؛ ليستقروا بها نهائياً، وإما أن يكونوا قد اكتفوا بغزوهم الخاطف لها، فأما في الحالة الأولى فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم كما صنعوا في سورية ومصر وإسبانية، وذلك خلافاً لعادة جميع الفاتحين في زمانهم، وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كل فاتح، فعدوا البلاد التي أغاروا عليها كإيطالية، وفرنسة على الخصوص، من الفرائس وانتهبوا بسرعة ما وصلت إليه أيديهم منها، وخربوا فيها ما لم يقدروا على حملة غير مبالين بسكانها.

وسار العرب على ذينك النجدين في صقلية، فبما أن عدد من أغار منهم على صقلية وعلى قطعة من إيطالية كان قليلاً وقفوا عند حد الغزو المؤقت وما ينشأ عنه عادة من التخريب والنهب وقتل من يقاوم من الأهلين ثم العودة السريعة، ولما تكررت غزواتهم لتلك البلاد وأصابهم فيها من النجاح والتوفيق ما أصابهم رأوا أن يستقروا بها، وأن يحسنوا سياسة أهلها، ولما رسخت أقدامهم فيها كفوا عن عادة نهبها، وأنعموا عليها بنعم الحضارة، وكان لهم فيها مثل ما كان لهم في إسبانية من الأثر النافع البالغ.

ويمكننا، ببيان هذه الفروق الأساسية في سياسة العرب، إدراك تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها، وإيضاح علة اختلاف سياسة العرب أنفسهم في البلدان المتجاورة.

ومسلمو إفريقية هم الذين غزوا صقلية وإيطالية، وأكثر هؤلاء المسلمين من البربر؛ لما كان من قلة عدد العرب في ذلك الدور، وهؤلاء البربر من أشد الشعوب التي دانت لشريعة الرسول بأساً، وأضعفهم تمدناً كما ذكرنا.

وأغار العرب على صقلية وجزر البحر المتوسط بضع مرات منذ القرن الأول من الهجرة، ولم يحاول العرب الاستيلاء على صقلية جدياً إلا في أوائل القرن الثالث من الهجرة حين استقل شمال إفريقية عن خلافة المشرق، وحين حدث ما شجعهم على ذلك.

وكانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بيزنطة، وكانت حكومة بيزنطة ترسل إليها حكاماً ليمارسوا السلطة فيها، ومما حدث أن عهد إلى أمير البحر أوفيميوس (فيمي) في الدفاع عنها، وأن علم أوفيميوس أن قيصر بيزنطة أمر بقتله، وأن قتل أوفيميوس حاكم صقلية ونصب نفسه أميراً عليها، وأن ثار أهلها عليه ففر إلى إفريقية طالباً حماية المسلمين، وأن عاد إلى صقلية مع جيش من المسلمين لم يلبث أن سار على حساب نفسه، فأتم فتح صقلية بدخوله بلرم بعد وقائع دامت بضع سنين (٢١٢ هـ/ ٢١٧ هـ).

ولم يقتصر العرب، بمقاتلتهم الروم، على غزو صقلية، فقد استولوا على جنوب إيطالية أيضاً، وبلغوا في تقدمهم ضواحي رومة، وأحرقوا كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس اللتين كانتا قائمتين خارج أسوار رومة، ولم يرجعوا عنها إلا بعد أن وعدهم البابا يوحنا الثامن بدفع جزية إليهم، واستولى العرب على مدينة برنديزي الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتي ومدينة تارانت، وأغاروا على دوكية بنيفنت، وصاروا سادة البحر المطلقين بفتحهم صقلية وأهم جزر إيطالية وقورسقة وقندية (الخندق) ومالطة وجميع جزر البحر المتوسط، ولم يسع البندقية إزاء ذلك إلا أن تعدل عن محاربتهم لطويل زمن.

والنورمان هم الذين قضوا على سلطان العرب السياسي في صقلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، وداوم العرب، بعد زوال سيادتهم، على القيام برسالتهم الثقافية فيها كبير وقت، وذلك أن ملوك النورمان، إذ كانوا من الذكاء ما يستطيعون أن يدركوا به تفوق العرب العظيم استندوا إلى العرب؛ فظل نفوذ أتباع الرسول في أيامهم بالغاً.

وإذ كان التاريخ النورمان صلة وثيقة بتاريخ العرب في صقلية رأيت أن أحدث عن وقائعهم بإيجاز لفهم تاريخ حضارة العرب فيها، ومن المفيد أيضاً أن أذكر أسلوب الحرب في ذلك الزمن، وأن أبين أعمال التخريب، التي لام مؤرخو اللاتين العرب عليها، هي مما كان يستبيحه مقاتلو جميع الأمم.

نعد الأحوال التي ساقت النورمان من أمكنة بعيدة إلى فتح صقلية من غريب الحوادث، وذلك أن كوكبة من فرسان الفرنج والنورمان كانت قادمة، حوالي سنة ١٠١٥ م، من بيت المقدس إلى جنوب إيطالية لتزور، وفق العادة، غار جبل غورغانو الذي اشتهر بظهور الملك ميكائيل فيه، وأن كونت أفيلينو، روفريد، لما علم ذلك استنجد بهم للدفاع عن ساليرم التي كان العرب يحاصرونها، وأنهم استطاعوا أن يدخلوها، وأن يشدوا عزائم أهلها الذين لم يلبثوا أن فكوا الحصار وهزموا العرب، وأن أهل ساليرم وأميرهم فرحوا بذلك، ودارت الحمية في رؤوسهم، فأجزلوا عطاء أولئك الغرباء، ودعوهم إلى الإقامة بين ظهرانيهم.

ومع أن أولئك الحجاج لم يرضوا بذلك لرغبتهم في رؤية وطنهم مرة ثانية وعدوا بأن يبعثوا إليهم فتياناً منهم للدفاع عن النصرانية ببسالة، ثم توجهوا إلى وطنهم الذي كانوا في أشد الشوق إليه، وأخذوا معهم من الهدايا نسائج ثمينة وحللاً فاخرة وسروجاً ذهبية وفضية زاهية، وما لم تعرفه فرنسة قبل ذلك الزمن من البرتقال الناضج، قاصدين بذلك أن يرى بنو قومهم تلك المنتجات، وأن يتشوقوا إلى زيارة ذلك القطر الذي ينتج مثلها.

ولم يكد أولئك الفرسان النورمان يصلون إلى وطنهم حتى أخذوا يقضون على أهله من الأنباء ما ألهبوا به حميتهم، وما دفعوا به عدداً كبيراً منهم إلى غزو صقلية.

ذلك هو سبب غارة النورمان الذين كان همهم مصروفاً إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثر مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوي الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يسلبون هؤلاء جميعاً بنشاط، والذين عدوا في خمسين سنة، أي حتى تم لهم الفتح، جزيرة صقلية وما جاورها من إيطالية بلاداً مباركة يمكن الاغتناء فيها بسهولة.

ولم ينشأ عن أعمال حماة الدين من النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشد وقراً من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم من النورمان، ولم يجد إنذار البابا للنورمان نفعاً، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتاباً يدلنا على سوء معاملة جيش نصراني في ذلك الزمن لبلاد صديقة استولى عليها..

واستمر النورمان على نهب صقلية إلى أن فكر رئيس ماهر من رؤسائهم، اسمه روجر، في فتحها بحزم، والفرصة كانت سانحة لتحقيق ذلك.

وكان الانقسام يأكل المسلمين، وكان ما بين العرب والبربر من المنافسة يقودهما إلى الهلاك في صقلية كما كان يقودهما إليه في إسبانية، وكانت صقلية في ذلك الزمن، أي في سنة ١٠٦١ م، مجزأة إلى الإمارات الخمس: بلرم ومسينة وقطانية وأطرابنش وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقب ملك على أمير بلرم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.

وجعل انقسام العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتم استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة ١٠٧٢ م، فأفل نجم العرب السياسي عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرهم الثقافي بعدها زمناً طويلاً بفضل دراية روجر وخلفائه.

وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميراً على صقلية، منظماً قديراً كما بد مقاتلاً شجاعاً، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.

وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا تظمهم، وشملوهم برعايتهم، وتمتعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوك من السوآب على زمامها في سنة ١١٩٤ م فأجلوا العرب عنها.

وكان يسكن صقلية، حينما نظم روجر أمورها، خمسة شعوب ذات لغات وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبار واليهود والعرب، وكان لكل من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأفارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضاً، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعض منها يشتمل على رمز محمد، وبعض آخر يشتمل على كلا الرمزين.

وسار خلفاء روجر على شنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.

وروى مؤرخو العرب أن عدد العرب في صقلية أصبح كثيراً في سنة ١١٨٤ م، أي بعد قرن من ذلك الفتح، وأنه كان لهم في بلرم أحياء واسعة ومساجد كثيرة وأئمة وقاض للفصل في خصوماتهم، وأزهر بلاط ملوك النورمان في صقلية بفضل العرب، وبالغ أبو الفداء في تقديره؛ فشبهه ببلاط الخلفاء في بغداد، وببلاط الخلفاء في القاهرة.

حضارة العرب في صقلية

إن المصادر التي يُرجع إليها في تصوير حضارة العرب في صقلية قليلة، وليس لدينا منها غير ما هو مبعثر في كتب المؤرخين من الفقر، وقليل من المباني التي لم تنلها يد التخريب، وبعض النقود، وتكفي هذه المصادر، مع ذلك، لإثبات أن حضارة العرب كانت في صقلية على شيء من التقدم، وإن لم تكن مثل ما كانت عليه في مصر وإسبانية، وأن صقلية كانت حين جلاء العرب عنها أرقى ثقافة وصناعة واجتماعياً منها حين دخلوها، ونحن إذا علمنا أن قيمة تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى من ناحية الحضارة تقدر بمقدار نهوضها بها وإصلاحها لها رأينا أنه كان للعرب تأثير عظيم في صقلية.

وعقب دور تنظيم العرب لصقلية دور فتحهم لها، فقسم العرب صقلية إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت مقسومة، منذ زمن القرطاجيين إلى الولايتين: بلرم وسرقوسة، فكان تقسيم العرب لها إلى ثلاث ولايات أكثر ملاءمة لجغرافيتها، وكان على رأس كل واحدة من هذه الولايات الثلاث والٍ، وكانت كل ولاية مقسمة إلى عدة أعمال، وكان يقوم بشؤون كل واحد من هذه الأعمال قائد تابع للوالي، وكان يقيم ببلرم مفتٍ، وكان يقيم بكل ناحية قاض ومسجل، وكان في كل مدينة جابٍ، وكان يشرف على إدارة أمور المال والمحاسبة ديوان كبير.

وترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام، فكان للنصارى، كما في زمن الروم، قوانينهم المدنية والدينية وحكام منهم للفصل في خصوماتهم وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم، وهي ٤٨ ديناراً عن كل غني، و ٢٤ ديناراً عن كل موسر، و ١٢ ديناراً عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية، التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد.

وجعل العرب كل ما له علاقة بالحقوق المدنية، كالتملك والإرث وما إليهما، ملائماً لعادات صقلية، ولم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها.

وسمح العرب، في أيام سلطانهم، للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية، وقد روى الدومينيكي كواردين، وكان رئيساً لدير القديسة كاترين في بلرم، أن القساوسة كانوا أحراراً في الخروج لابسين حللهم الدينية ليناولوا المرضى القربان الأقدس، وقد روى الأب مور كولي أنه كان ينصب في الحفلات العامة بمسينة رايتان: إحداهما إسلامية وعليها صورة برج أسود في حقل أخضر، والأخرى نصرانية وعليها صورة صليب مذهب في حقل أحمر، ولم يمس العرب الكنائس القائمة في صقلية حين فتحهم لها، وإن لم يأذنوا لهم في بناء كنائس جديدة فيها كما كانوا يأذنون النصارى إسبانية.

ولم تكد أقدام العرب ترسخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة والصناعة، فانتشلوهما بسرعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، وأدخلوا إلى صقلية زراعة القطن وقصب السكر والدردار والزيتون، وحفروا فيها الترع والقنوات التي لا تزال باقية، وأنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم.

وتقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب، واستغل عرب صقلية ثروتها الطبيعية، واستخرجوا منها الفضة والحديد والنحاس والكبريت والرخام والغرانيت ... إلخ، بأساليب فنية، وأدخلوا إليها صنع الحرير، ومما يرى في نور نبرغ رداء من الحرير كان يلبسه ملوك صقلية مطارزاً بكتابات كوفية مع تاريخ سنة ٥٢٠ هـ/ ١١٣٣ م، ويحمل كل شيء على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوربة من صقلية.

وانتعشت التجارة، واتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صفراً، تقريباً، قبلهم كما يدل على ذلك ما انتهى إلينا من جداول مكوسهم التي أدرجت فيما نظمه النورمان من القوائم في أوائل الفتح فتثبت درجة تحل تجارة صقلية حين هذا الفتح.

ولم يبق من المباني الإسلامية في صقلية سوى عدد قليل، وأشهر هذه المباني قصر العزيزة وقصر القبة القائمان بالقرب من بلرم، واللذان ثبت بهما أنه لم يكن من المبالغة ما رواه المؤرخون عن فخامة مباني العرب في صقلية، فعن هذه المباني المزينة بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة والمحاطة بأجمل الرياض تكلم الراهب ثيودوز والعالم الجغرافي الإدريسي مع الإعجاب، والراهب ثيودوز هذا أسر في أثناء حصار سرقوسة في سنة ٨٧٨ م، ونقل إلى بلرم، وامتدح قصور هذه المدينة المهمة ومساجدها وضواحيها...

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم