القبيلة العربية ونظامها

 

القبيلة العربية ونظامها العام

كتب د. جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 

عن بنية القبيلة وأركانها ونظامها نقتطف منه ما يلي:

والقبيلة هي عماد الحياة في البادية، بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن نفسه وعن ماله، حيث لا "شُرَط" في البوادي تؤدب المعتدين، ولا سجون يُسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و"أعراف" يجب أن تطاع.

والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب", ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد وبصلب جد أعلى, من صلبه انحدر أفراد القبيلة في اعتقادهم؛ ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى حد أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أي: أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا حتى يصلوا إلى الجدين العرب: قحطان وعدنان.

وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار. وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة في الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك وانحلَّ واختلط في القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد.

وتتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم. ففي مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة إلى الانتشار والابتعاد؛ لتتمكن إبلها من الرعي ومن إملاء بطونها بالعشب, فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتًا. أما في المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي "٥٠٠" بيت أو أكثر, تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر١.

والقبيلة في عرف علماء اللغة: جماعة من أب واحد، والقبائل في نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها٢، فهي إذن جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهي تنتمي كلها إلى أصل واحد، وجذر  راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة. فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أي النسب، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي, حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها. وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع أن يأخذ حقه من المعتدي عليه.

وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة, هي التي حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضًا, مع أنهم استقروا وأقاموا. فقريش عندهم قبيلة، والأوس والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة؛ ذلك لأن هؤلاء الناس وإن تحضروا واستقروا وأقاموا وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى جد أعلى وإلى أحياء وبطون, وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدوا في القبائل، وإن صاروا حضرًا وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ.

وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة؛ لأن نظامها الاجتماعي القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة, والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى أنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جد واحد. فهم جميعًا أبناء الجد الذي تتسمى به القبيلة، وهم مثل العرب في النداء وفي النسب, قد يذكرون الاسم فقط, فيقولون مثلًا: أدوم ومؤاب وإسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا، وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني بمعنى أبناء المذكورين، تمامًا كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان, وأولاد غسان, ومن غسان، وغساني، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئًا واحدًا، وهو النسب، أي: الانتماء إلى جد واحد, به تسمى القبيلة وإليه يرجع نسبها.

وهم يشعرون كالعرب أن أبناء القبيلة هم إخوة وهم من دم واحد, ومن لحم ودم ذلك الجد. وهم يخاطبون بعضهم بعضًا بقولهم: "أنت من لحمي ودمي", وفي التوراة أمثلة عديدة من هذا القبيل. فلما ذهب "أبو مالك بن يربعل" إلى عشيرة أمه خاطب أبناءها بقوله: "أيما خير لكم! أن يتسلط عليكم سبعون رجلًا جميع بني يربعل، أم أن يتسلط عليكم رجل واحد, واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم"١. وقد اعتبر "داود" جميع أبناء عشيرته إخوة له٢, وخاطب "شيوخ يهوذا" بقوله: "أنتم إخوتي، أنتم عظمي ولحمي"٣. فأبناء القبيلة هم إخوة من دم واحد, يسري في أجسامهم جميعًا ما دامت القبيلة حية باقية. ووحدة الدم هذه هي الرابط الذي يجمع شمل القبيلة, وهي صلة رحم، وعصبية، والحكومة الصحيحة التي يجب أن تطاع.

والعربي مثل بقية الساميين لم يفهم الدولة إلا أنها دولة القبيلة, وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة، دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم, أي: دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم، وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر المعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان، وبالعرف القبلي تسير الأمور، فالحكام من القبيلة، وأحكامهم أحكام تنفذ في القبيلة، وإذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب, تصير سنة للقبيلة، نستطيع تسميتها بـ"سنة الأولين". ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيث تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتلقص وبتوسع نفوذ القبيلة.

وقد واجه المسلمون في أيام الفتوح صعوبة كبيرة في فتوحهم؛ بسبب العقلية القبلية وضيق أفقها، وعدم تمكنها من التخلص من مثلها الجاهلية بسهولة. فقد كان على القائد أن يقاتل عدوه بجيش يحارب على شكل كتل قبائل، تتكون كل كتلة من مقاتلي قبيلة واحدة، لا من جنود ينتمون إلى أمة هي فوق الكتل والقبائل. وكان على رأس كل وحدة مقاتلة رؤساء من القبيلة التي ينتمي إليها الجنود، وقد واجه الإمام "علي" صعوبة حينما حارب في معركة الجمل وفي معركة صفين وغيرها، إذ اشترطت عليه القبائل المحاربة، ألا تحارب إلا رجال قبيلتها الذين يكونون ضده، فالهمدانيون الذين معه يحاربون الهمدانيين الذين يحاربون مع خصمه. وهكذا فعلت بقية القبائل، للعصبية القبلية؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية قبيلة غريبة تفتك بإخوانهم من قبيلتهم، وهم ينادون بشعار العصبية، شعار القبيلة. أما هم فإن قاتلوا إخوانهم من قبيلتهم، فإن قتالهم هذا يختلف عن قتال الإخوة حين يقتتلون قتالًا قد يكون أشد ضراوة من قتال الغرباء، لا يلتفت فيه إلى وجود دم واحد بين المتقاتلين، وإلى أنهم من بيت أب وأم، يحتم عليهم التكتل والتعصب، إذ لا غريب هنا أمامهم في هذا القتال.

ولست بحاجة وأنا في هذا المكان، لتكرار قول سبق أن قلته في الجزء الأول من هذا الكتاب, من أن أسماء القبائل لا تعني بالضرورة أنها أسماء أجداد حقيقيين عاشوا وماتوا. فبينها كما سبق أن قلت أسماء مواضع، مثل غسان، وبينها أسماء أصنام مثل "بني سعد العشيرة", وبينها أسماء أحلاف مثل "تنوخ", وبينها نعوت وألقاب ... إلى آخر ذلك من أسماء قبائل وصلت إلى علم علماء الأنساب, فأوجدوا لها معاني واعتبروها أسماء رجال حقيقيين تزوجوا ونسلوا ومنهم من كان عاقرًا فلم ينسل، فذهب أثره، ولم تبق له بقية١.

والمفهوم من لفظة "القبيلة" في العادة: القبائل التي تتألف من عمائر وما وراء العمائر من أقسام. فإذا ذكرت القبيلة انصراف الذهن إلى آلاف من البيوت تجتمع تحت اسم تلك القبيلة. ولكن الناس يتجوزون في الكلام، وفي الكتابة أحيانًا فيطلقونها على عدد قليل من الناس, قد يبلغ ثلاثة نفر أو أربعة مثل: "بني عبد الله بن أفصي بن جديلة"، و"بني جساس بن عمرو بن خوية بن لوذان" من "بني فزارة"، و"كليب بن عدي بن جناب بن هبل"، و"بني شقرة" من تميم. وقد يطلقونها على أكثر من ذلك، ولكن على عدد قليل من الناس أيضًا، كأن يكون خمسين رجلًا أو ستين٢, وهذا الاستعمال، هو على سبيل التجوز لا الاصطلاح.

ويرى علماء العربية أن هناك تجمعات، هي في نظرهم أكبر حجمًا من القبيلة, أطلقوا عليها "الشعوب". فذكروا أن الشعوب فوق القبائل، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب, وما دونهما قبائل. وذهب بعض منهم إلى أن "الشعوب" للعجم، فإن الشعوب بالنسبة لهم، مثل القبائل للعرب، ومنه قيل للذي يتعصب للعجم "شعوبي"، وقيل: بل هي للعرب وللعجم. والذي عليه أكثر علماء الأنساب أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي: يجمعهم ويضمهم١.

ويظهر أن مرد هذا الاختلاف هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} ٢. فقدم "الشعوب" على القبائل, فذهب أكثر المفسرين والعلماء إلى أن هذا التقديم يعني أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعوب الجمَّاع والقبائل البطون، أو الشعوب الجمهور والقبائل الأفخاذ، أو الشعوب: النسب البعيد، والقبائل: دون ذلك، كقولك فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان. وتأول بعض آخر هذا المعنى، فذهبوا إلى أن هذا التقديم أو التأخير، لا علاقة له بالكبر، أي: بحجم الشعب أو القبيلة، والآية لا تريد ذلك، وإنما تريد الأنساب، وأنها نزلت في بيان أن الإنسان لا بنسبه، وإنما بعمله. وعلى هذا, فإن الشعب في نظرهم دون القبيلة في الترتيب, والشعب بعد القبيلة في الدرجة٣.

وقد أخذ العلماء بالتأويل الأول للفظة "الشعب" حتى صار هذا المعنى هو المعنى المفهوم منها عند الناس في الإسلام، فهي إنما تعني اليوم جنسًا من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي والشعب البريطاني والشعب الأمريكي، وهكذا, أو جزءًا كبيرًا مستقلًّا من أجزاء أمة واحدة، كأن نقول: الشعب العراقي، والشعب السوري، والشعب السعودي، والشعب المصري، أي: وحدة جغرافية سياسية ذات كيان.

ولفظة "الشعب" من الألفاظ الواردة في نصوص المسند, وهي فيها بمعنى قبيلة، وتكتب "شعبن"، بمعنى "الشعب"، وحرف النون في أواخر الأسماء أداة للتعريف في العربيات الجنوبية. فهي إذن مرادف "قبيلة" بالضبط, والجمع "أشعب"، أي "شعوب". ورد "سباواشعبهمو"، أي "سبأ وشعوبهم", أو "سبأ وقبائلهم" بتعبير أدق وأصح. وورد "شعبن معن"، أي "قبيلة معين"، و"شعين همدان", أي "قبيلة همدان". والظاهر أن أهل مكة وقفوا في الجاهلية على هذه اللفظة أيضًا فاستخدموها, وأن قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة "شعب" و"الشعب" بمعنى قبيلة، ونظرًا لورودهما معًا في القرآن الكريم، فرَّق العلماء بين اللفظتين، باعتبار أن ذكرهما معًا يعنى وجود بعض الاختلاف في المراد منهما. فوقع من ثَمَّ بين المسلمين هذا التمييز، وصارت لفظة "الشعب" تدل على معنى يختلف عن معنى كلمة "قبيلة" و"القبيلة".

ويلي الشعب في اصطلاح أهل النسب: القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم، وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس١. وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة هي مرتبة العشيرة, وهي رهط الرجل٢.

وورد أن البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة. وذكر بعضهم أن أول العشيرة: الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ٣. وذلك على رأي من جعل العشيرة: العامة، مثل: بني تميم وبني عمرو بن تميم، أي: الجماعة العظيمة٤.

وزاد بعض العلماء الجذم قبل الشعب، وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: جذم, ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة, ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحي، وجماع١. وذكر بعض علماء اللغة أن "الجذم"، الأصل في كل شيء؛ فيقال: جذم القوم: أهلهم وعشيرتهم, ومنه حديث حاطب: "لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة"٢.

وذكر بعض العلماء أن العمارة الحي العظيم يقوم بنفسه٣, وأن الفرق بين الحي والقبيلة هو أن الحي لا يقال فيه: بنو فلان نحو قريش وثقيف ومعد وجذام, والقبائل يقال فيها: بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول٤. وذكر أيضًا أن العمارة: الحي العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها وإقامتها ونجعتها, وقيل هو أصغر من القبيلة. وفي الحديث: "أنه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتابًا". قال التغلبي:

لكل أناس من معد عمارة ... عروضٌ، إليها يلجئون، وجانب٥

وقسم "النويري" النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات٦, وابتدأ بـ"الجذم" وهو الأصل, وهو قحطان وعدنان، والطبقة الأولى، ثم الجماهير وهي الطبقة الثانية، ثم الطبقة الثالثة: الشعوب، والطبقة الرابعة: القبيلة، وهي التي دون الشعب تجمع العمائر، ثم الطبقة الخامسة: العمائر، وهي التي دون القبائل، وتجمع البطون، ثم الطبقة السادسة: البطون، وهي التي تجمع الأفخاذ, والطبقة السابعة: الأفخاذ, وهي أصغر من البطن، والفخذ تجمع العشائر, والطبقة الثامنة: العشائر، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء, والطبقة التاسعة: الفصائل، واحدها فصيلة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته، والطبقة العاشرة: الرهط، وهم الرجل وأسرته٧.

ما ذكرته يمثل مجمل آراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا أنهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد, منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا أن التقسيم المذكور لم يكن تقسيمًا ثابتًا عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيمًا جاهليًّا بل كان تقسيمًا محليًّا اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء أخذها العلماء من هنا وهناك، ولهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول أن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف, ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة إذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام.

وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة وبذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي يختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها، من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كافٍ. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية, بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.

[أركان القبائل]

يرجع كل العرب من حيث النسب إلى ركن من "أركان القبائل". فقد اصطلح علماء النسب على أن للنسب عند العرب بعد قحطان وعدنان أربعة أركان:

ربيعة ومضر ويمن وقضاعة١. وذلك على رأي من جعل قضاعة ركنًا قائمًا بذاته, ولا يمكن أن يخرج نسب عربي أصيل عن أصل من هذه الأصول.

وورد أن العرب في النسب على أربع طبقات: خندفي, وقيسي، ونزاري، ويمني٢, ويمن هي قحطان. وكان العرب يتعززون بانتسابهم إلى اليمن، فكان من ينقلب على نسبه يتخذ لنفسه نسبًا يمانيًّا. "وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نفسه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن مثل: آل النعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرق، وآل العرنج، وهو حِمْيَر الأكبر ابن سبأ كالتبابعة والأذواء, وغيرهم. والعرب يطلبون العز ولو كان في شامخات الشواهق، وبطون الأمالق البوالق، فينتسبون إلى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية ... "٣.

ورجع بعض النسابين المعروفين نسب العرب إلى ثلاث جراثيم: نزار، واليمن, وقضاعة٤. ويمثل رأيهم هذا رأي القائلين بالأركان الأربعة للقبائل بالضبط؛ لأن نزارًا هو في عرفهم والد ربيعة ومضر، وكل ما فعلوه هنا هو أنهم حذفوا اسمي الولدين وأحلوا اسم والدهما في محلهما.

ورجع "المأمون" الخليفة العباسي، أصول العرب إلى: قيس ويمن وربيعة ومضر. فلما تعرض عربي بالمأمون وهو في زيارته لبلاد الشام، ولامه في تقديم أهل خراسان على العرب، بقوله: "يا أمير المؤمنين, انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان"، أجابه الخليفة: "أكثرت عليَّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيسًا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما ربيعة فساخطة على ربها منذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاربا, اغرب عني فعل الله بك......"٥.

فأركان العرب في رأي المأمون أربعة: قيس ويمن وربيعة ومضر. وهي كتل كانت على عادة العرب متنافسة متحاسدة متباغضة، ترى كل واحدة منها نفسها وكأنها أمة دون سائر الأمم، و"يمن" كناية عن العرب الجنوبيين من همدان وحمير وكندة وأمثالها، وأما قيس وربيعة ومضر، فكناية عن تكتلات وتجمعات العرب من غير اليمن.

وذهب "ابن حزم" إلى أن جميع العرب من أب واحد، سوى ثلاث قبائل هي: تنوخ، والعُتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون؛ وذلك أن تتوخًا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا, والعتق: جمعٌ اجتمعوا على النبي، فظهر بهم فأعتقهم فسموا بذلك، وغسان عدة بطون نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به١.

ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى العراق كان جيشه من "ربيعة" و"مضر"٢ ومن قبائل يمانية، ومعنى هذا وجود ثلاثة أركان قبائل محاربة. ولما قال "خالد بن الوليد" لـ"عدي بن عدي بن زيد العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب, فما تنقمون من العرب؟ أم عجم, فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ قال عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا, فقال له عدي: ليدلك على ما نقوله أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"٣. ولا تعني جملة "بل عرب عاربة وأخرى متعربة" معنى: أن العرب عربان، عرب عاربة وعرب متعربة، على النحو المفهوم منها عند أهل الأخبار. بل هي تعبر عن واقع أصل أهل الحيرة, فقد كان أهلها بين عرب صرحاء وبين عرب متعربة أي جماعة لم تكن عربية في الأصل, وإنما كانت من أصل عراقي وفارسي أقامت في الحيرة، وتأثرت بأهلها العرب فتكلمت العربية حتى صارت العربية لسانها، فهي من العرب المتعربة. وقد كان كل عرب العراق على هذا النحو في ذلك الوقت، فهم بين عرب خلص وبين عرب متعربة، لم تكن أصولها من منبت عربي، وإنما دخلت في العرب فتطبعت بطباعهم وأخذت لسانهم حتى نسيت ألسنتها القديمة، وصارت من العرب.

وقد ذكر بعض المؤرخين أن العرب من "نزار" ملكتهم الفرس, وأن العرب من غسان ملكتهم الروم١, فجعل "نزارًا" في مقابل غسان، ولم يكن كل عرب العراق من "نزار", يدلك على ذلك أن ملوك الحيرة على رأي أهل الأخبار من قحطان. والذي يلاحظ من كيفية توزيع القبائل على حسب رواية أهل الأخبار أن معظم قبائل العراق، هي من قبائل "نزار" أو من "ربيعة" و "مضر" بتعبير آخر. أما معظم قبائل بلاد الشام فهي من "يمن", أي على عكس الحال في العراق, فهل يمثل هذا التقسيم توزيعًا تأريخيًّا صحيحًا, بمعنى أن أكثر قبائل العراق، قد وردت العراق من العربية الشرقية والعربية الوسطى، أي: من سواحل الخليج ونجد، وأن عرب بلاد الشام إنما جاءوا إلى هناك من اليمن، عن طريق الحجاز ونجد؟ أم أنه تقسيم سياسي اصطلاحي، نشأ قبل الإسلام بعهد طويل من المنافسة التي كانت بين العراق وبلاد الشام، المنافسة التي ظلت باقية في الإسلام, فقد كان بين العراق وبين بلاد الشام عداء وتباغض، لعوامل لا مجال للبحث فيها في هذا المكان؟. وقد استولت حكومات العراق من حكومات وطنية وأجنبية على بلاد الشام مرارا، مما ولد مرارة وأوجد حقدًا بين أهل العراق وأهل الشام، فانتقل ذلك إلى عرب القطرين أيضًا. فحارب عرب العراق عرب بلاد الشام، حتى وصل هذا العداء إلى دعوى وجود فرق بين أصل عرب العراق وأصل عرب بلاد الشام, فصارت أكثر قبائل العراق في عرف أهل الأنساب من ربيعة ومضر ونزار، وصار معظم بلاد الشام في عرفهم من اليمن، قياسًا على ما كان عليه العرب عند ظهور الإسلام من أنصار ومهاجرين، أو من يمن وعدنان، أو قحطان وعدنان وما شابه ذلك من أسماء. أما رأيي، فإن لأهل الأخبار يدًا طولى في هذا التقسيم الذي ظهر وأينع في الإسلام، وإن الجاهلية لم تكن تخلو من تجمعات وتكتلات قبلية، ولكنها كانت تختلف عن التجمعات التي أثارتها النعرة القبلية الجديدة التي برزت في الإسلام، والتي أثرت على ظهورها عوامل عديدة إلى أن ثبتت ودونت في كتب أهل الأنساب والأخبار.

وجعل بعض أهل الأخبار العرب يمنًا ونزارًا، وذكر أن اليمن أصحاب بحر وبني نزار أصحاب بر٢. وقصدوا باليمن أصحاب الساحل، الذين عركوا البحر وخبروه، عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، إنهم لم يتعودوا على ركوبه؛ إذ سكنوا البر ولم يعركوا البحر، فخافوا منه وتجنبوه.

والآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت من واقع الحال, ولم تستمد من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين وعدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب؛ وذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل وتحزب, فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن استذلالها وأخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل الضعيفة على حياتها، وحدَّت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضًا.

وحاجة الأعراب إلى الأحلاف أكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب أن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها؛ لانبساط أرضها وعدم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل إلى خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف, والأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفًا آخر أو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلًا كما تعمر الأحلاف الدفاعية؛ لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد.

أما الحضر، فإن لهم من حماية أرضهم لهم, ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافًًا من طراز آخر. فقد منحت الطبيعة الحضر حجرًا صلدًا بنوا به أبراجًا وحصونًا ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها، ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر واللبن منها لبناء المحافد والآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها، وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب؛ بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم, وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفًا لقلوبهم وضمانًا منهم لهم بعدم تحرش أحد بهم.

ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي، وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. والأحلاف الكبرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب؛ فربيعة ومضر وإياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبلية تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي: خارج الأرضين التي غلب علي سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل عربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت تحكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها, وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة, أو أن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض.

وقد لعبت فكرة "قحطان" و"عدنان" دورًا مهمًّا في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ أن رجلًا اسمه "شويس الساسي التميمي العدوي" المعروف بـ"أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفًا من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعًا من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عدي" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس, وقال: يا بني عدي, استفحلوا هذا الرغيف؛ فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعرًا سخر فيه من أهل البصرة, ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان أو عدنان، وفحش بهما ومن انتساب الناس إليهما، بينما الناس هنالك ما بين نبط أو خوزان.١

ومن أهم القبائل القحطانية التي كان لها شأن يذكر عند ظهور الإسلام وفي الإسلام, حمير وكهلان, ومن مجموعة حمير قضاعة، في رأي من جعل قضاعة من اليمن, ومن قضاعة كلب وأسد ومن أسد تنوخ. وأما مجموعة كهلان، فتتألف من الأزد وهمدان ومذحج وطيء، ومن الأزد: غسان والأوس والخزرج.

وربيعة من القبائل العربية الكبيرة العدد، وقد سبق أن تحدثت عنها في مواضع من الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وقد عرفت "ربيعة" بـ"ربيعة الفرس"، ويعلل أهل الأخبار اشتهارها بذلك بقولهم: "وربيعة الفرس, هو ابن نزار بن معد بن عدنان، أبو قبيلة. وإنما قيل له ربيعة الفرس؛ لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مضر الذهب, فسمي مضر الحمراء. وأعطي أنمار أخوهما: الغنم، فسمي أنمار الشاة٢. وذكروا أيضا: أن نزارًا لما حضرته الوفاة، آثر إيادًا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه، فسموا ربيعة الفرس، وأعطى أنمارًا جارية له تسمى: بجيلة فحضنت بنيه، فسمي بجيلة أنمار"٣. وذكر أيضًا أن نزارًا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه، "وهم أربعة: مضر وربيعة وإياد وأنمار، وقال: يا بني، هذه القبة, وهي من أدم, حمراء وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من المال لربيعة، وهذه الخادمة وما أشبهها من المال لإياد, وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه". ولما مات توجهوا إلى "الأفعى بن الأفعى الجرهمي" وكان ملك نجران، وصادفوا في طريقهم أعرابيا ضل بعيره، فوصفوه له، فقال لهم: دلوني عليه. ولما حلفوا له أنهم لم يروه وإنما وصفوه من أثره، لم يصدقهم بل أخذهم إلى "الأفعى" ليحلفوا أمامه أنهم لم يروه، فلما بلغوه قصوا قصتهم مع الأعرابي، وذكروا أنهم إنما وصفوه من أثره على الأرض، فحكم لهم "الأفعى" بأنهم صادقون، وأنهم لم يشاهدوه، ثم احتفل بهم بعد أن عرفهم وجرب ذكاءهم، وحكم بأن لمضر القبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر فسميت: مضر الحمراء، وأن لربيعة الخباء الأسود من دابة ومال، فصارت له الخيل، وهي دهم، فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق من الخيل وغيرها، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض١.

و"مضر" من القبائل الكبيرة، وقد عرفت بـ"مضر الحمراء" كما ذكرت. وفسر علماء اللغة والنسب اشتهار "مضر" على نحو ما ذكرت قبل قليل، وفسره بعضهم بقوله: ومضر الحمراء؛ لأنه أعطي الذهب من ميراث أبيه, وأخوه ربيعة أعطي الخيل، فلقب بالفرس, أو لأن شعارهم في الحرب الرايات الحمر٢. وقال بعض علماء اللغة: وإنما سمي مضر بمضر: "لولعه بشرب اللبن الماضر أو لبياض لونه"، و"العرب تسمي الأبيض أحمر؛ فلذلك قيل مضر الحمراء"٣. وذكر بعض أهل الأخبار أن مضر مضران: مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السوداء لسكناها المظال٤.

ويظهر من هذه التفسيرات، أن "مضر" كانت قد نعتت بـ"الحمراء" قبل ظهور الإسلام. وأن "ربيعة" كانت قد عرفت بـ"ربيعة الفرس"، ولعل هذا بسبب أن "مضر" كانت إذ ذاك قبائل ذات إبل وتجارة ومال، ومنها "قريش" التي عرفت بتجارتها وبما جمعته من مال، فقالوا "مضر الحمراء". وأما "ربيعة"، فكانت قبائل متبدية غازية محاربة، لها خيل وفرسان؛ لهذا عرفت بـ"ربيعة الفرس".

وقد أشار الشاعر "لبيد" إلى ربيعة ومضر في شعره, حين تعرض لذكر الموت، فقال:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر٥

أراد: هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين؟! فسبيلي أن أفنى كما فنيا١. ونسب إليه قوله:

فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل٢

فأشار بذلك إلى "عدنان" و"معد".

ومن أشهر قبائل مضر "قريش"، حتى إن الناس كانوا إذا قالوا: مضري انصرف ذهنهم إلى قرشي, على سبيل الشهرة؛ لاشتهار قريش بالمضرية. فلما رأى رجل "أبا سفيان" واقفًا بباب "عثمان بن عفان" ينتظر الإذن بالدخول عليه, قال له: "يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري، فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني"٣.

[أرض القبيلة]

ولكل قبيلة أرض تعيش عليها وتنزل بها وتعتبرها ملكًا لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضًا خاصة به.

وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها "منزلًا" لها، و"منازل" لأبنائها الذين ينزلون بها. يضربون بها خيامهم, فتكون الأرض مضارب لها, تستوطنها وتقيم بها وتصير وطنًا لها، أي: دار إقامة، ما دامت تقيم بها, وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة بـ"بيوت القبيلة" وبـ"بيوت العشيرة"؛ لأنها مضرب البيوت.

وتمتد أرض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها إليها, فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك, ونظرًا إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سببًا من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل.

وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من "إكسير الحياة", وتكون هذه المواضع آبارًا أو عيون ماء أو حسيًّا وما شاكل ذلك. وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي، ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر، حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سببًا لهلاك الأنفس والمال. والقاعدة أن ماء القبيلة مشاع في القبيلة, أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم, لا يجوز الاستقاء منها إلا بإذن.

ولكل قبيلة حق حماية أرضها, شأنها في ذلك شأن الدول، وإذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من أن يكون في حماية إنسان منها. وإذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيا يريد التنقل إلى أرض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه أخذ إذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، وإلا تعرض للمنع والقتال. لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على أخذها من المارة.

[سادات القبائل]

وسيد القبيلة بالنسبة للقبيلة، مثل ملك مملكة بالنسبة لمملكته, فهو الرئيس والمرجع والمسئول عن أتباعه في السلم والحرب, يقصده ذوو الحاجات من أبناء القبيلة إن احتاجوا إلى حاجة. وقد يجمع هذا الرئيس شمل جملة قبائل، ويترأسها، وقد ينصب نفسه ملكًا عليها، كالذي فعله ملوك كندة من بني "آل آكل المرَّار" وغيرهم من الملوك. وقد لا نخطئ إذا ما قلنا: إن أكثر مؤسسي الأسر المالكة في بلاد العرب، كانوا سادات قبائل في الأصل، استغلوا مواهبهم وقابلياتهم، وإمكانية قبيلتهم, وسخروها في سبيل الحصول على الملك، وعلى التلقب بلقب "ملك"، فنالوه.

ويقال للسيد: المسوّد, ويذكر علماء اللغة أن السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه والزوج والمقدم والرئيس. وسيد القبيلة هو رئيسها، تقول العرب: "فلان سيدنا" أي: رئيسنا والذي نعظمه, وتقول: "ساد قومه"١. وهي من الألفاظ المستعملة عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، أما العربية الجنوبية فقد استخدمت ألفاظًا أخرى بدلًا عنها.

ويقال لسيد القبيلة "رئيس القبيلة", والرئيس: سيد القوم، والرياسة: السيادة, ويقال: فلان رأس ورئيس القوم٢, ورؤساء القبائل هم سادات القبائل والمتولون لأمورها. كما يقال: فلان ساد قومه، وهو سيد القوم وسيدهم, فاللفظتان مترادفتان وفي معنى واحد. ووردت لفظة "زعيم" بمعنى سيد القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم، والجمع: زعماء, كما وردت الزعامة: الشرف والرياسة على القوم, وحظ السيد من المغنم١. غير أن استعمال "زعيم القبيلة"، أقل في الكلام من استعمال "سيد" و"رئيس".

وأنا حين أستعمل "سيد قبيلة"، أقصد بها الرئيس الفعلي لقبيلةٍ، المسئول عنها، والمدبر لأمورها والمرجع الأخير لها، والذي يكون كالملك أو الحاكم بالنسبة لقبيلته؛ لأن هناك سادات آخرين سادوا في القبيلة وقد عرف خبرهم في كل مكان، وربما اشتهر ذكرهم أكثر من اشتهار اسم سيد قبيلتهم، ومع ذلك فإنهم لا يعدون رأس تلك القبيلة؛ لأن الرأس المسئول عن القبيلة رأس واحد, -ألا إن العرف أن يسود الرؤساء في القبائل- هو كما يترأس الأشراف أمر مدينة، بأن يترأسوا عمائر القبيلة ثم فروعها الدنيا التي تلي العمائر. فهم رؤساء في قبيلة بالمعنى المجازي، الذي جوز إطلاق لفظة "القبيلة" حتى على الأفخاذ والبطون، بل والبيوت, بأن يبزوا الرئيس بالخصال الحميدة، التي تجلب لهم الشهرة والسيادة، وتجعل اسمهم يعلو اسم رئيس القبيلة في كثير من الأحايين.

[صفات الرئيس]

وعلى من يسود في قومه أن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون بسيادته عليهم، كأن يحتمل أذى قومه؛ ولذلك قيل للسيد "محتمل أذى قومه"، وأن يكون شريفًا في أفعاله حليما كريما، يغض نظره عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين, قلا يغضب ولا يثور، وأن يكظم غيظه, جاء في المثل: "احلم تسد"١, وأن يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم ويكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل بيته بيتًا للجميع ومضيفا لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع.١


وعلى الرئيس أن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعًا لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه أن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب؛ لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة، وإذا لم يكن قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت همم أبناء القبيلة, ولا يثير القبائل إلا الشعارات والنخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعًا في القتال. والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، وإذا خرَّ صريعًا في المعركة، هربت قبيلته في الغالب, وتراجعت القهقرى, إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. ويكون مثل هذا الرجل من الشجعان الأقوياء أصحاب الإرادة القوية الذين يعرفون نفسية قبيلتهم، وإلا فليس من السهل على رجل التأثير على قبيلة, وهي في مثل هذا الوضع.

ولأثر الرئيس في مصير الحرب، كان الفرسان يوجهون كل قوتهم نحو الرؤساء؛ لأنهم على علم بأنهم إن تمكنوا من الرئيس فقتلوه, غلبوا عدوهم في الغالب وقضوا عليه. فهو الروح المعنوية عند الأعراب، يليه حامل اللواء فإذا سقط حامل اللواء قتيلًا, أسرع من عُين ليكون خليفته في التقاط الراية وحملها، وإذا سقط هذا أيضًا أسرع من يأتي بعده، وهكذا. فإن سقوط الراية معناه هزيمة منكرة ستحيق بمن سقطت رايته؛ ولهذا كانوا يختارون رجالًا شجعانًا يولونهم أمر اللواء, بحيث إذا سقط أحدهم أخذ من يليه مكانه، وهكذا حتى النصر.

المرجع/ كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي ، ج السابع من الكتاب..


              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم