ملامح العرب

كتب الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام

ملامح العرب

والعرب وإن كانوا من الجنس السامي، إلا أنهم يختلفون عن بقية "أبناء سام" في الملامح الجسمانية وفي فصائل الدم، وفي أمور أخرى؛ ذلك لأن السامية 
كما سبق أن قلت, جنسية ثقافية. أما من الناحية "البيولوجية" وهي تتعلق بالملامح وبأمور بيولوجية أخرى فليست بجنسية خاصة يمكن تمييزها من بين قبائل الأجناس البشرية، لما نراه فيما بين شعوبها من تباين. ثم إن بين العرب أنفسهم، تباينًا واختلافًا في الملامح، بسبب قرب العرب وبعدهم من الأعاجم, وأثر فعل الرقيق والأسرى في امتزاج الدم بينهم, ثم أثر فعل الطبيعة وعملها في الإنسان، وما تقدمه له من غذاء ونوع ماء وحر وبرد ومطر وضغط جوي ونوع تربة.

واليهود هم من الجنس السامي، جنس خليط كذلك في القديم وفي الحديث, فقد دخل اليهود دم غريب أيضًا، ونجد في التوراة وفي أسفار المكابيين والكتب العبرانية الأخرى، إكراه اليهود للشعوب التي استولوا على أرضها على التهود, فدخلت في اليهودية، وهي ليست من أصل يهودي، وصارت من يهود. وقد دخلت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث كعب وكندة، وهم من العرب١, ودخل آخرون في اليهودية، وصاروا يهودًا. فاليهود مثل غيرهم، فيهم اليهودي الخالص، وفيهم اليهودي الغريب, وفي ملامحهم المتباينة ما هو دليل على وجود الاختلاط في الدم.

وأنا إذ أتكلم عن ملامح العربي، فإني لا أزعم أن لدي أو لدى الباحثين مقاييس خاصة ثابتة نستطيع أن نقيس بها ملامح العرب, بحيث نحددها في حدود ونرسم لها رسومًا لا تتعداها ولا تتخطاها. فحدود مثل هذه لا يمكن أن توجد ولا يمكن أن ترسم؛ لأن بين العرب تباينًا وتنابزًا في الصور وفي الملامح بحيث يكون من الصعب علينا وضع حدود ثابتة لملامح العرب، يخضع لها كل العرب أو أكثرهم. وسبب ذلك اتساع جزيرة العرب, ووجود سواحل طويلة جدا تقابل قارتين: قارة سوداء هي إفريقيا، وقارة أخرى هي آسيا، لون بشرة سكان سواحلها الجنوبية الشرقية السواد والسمرة الغامقة. وهي سواحل مفتوحة غذَّت جزيرة العرب بعناصر ملونة اختلط دمها بالدم العربي حتى أثر ذلك اللون في سحن الناس هناك, فبان السواد أو اللون الداكن على السواحل العربية المقابلة لسيلان وللهند, وظهرت الملامح الإفريقية على سحن الساحل الغربي لجزيرة العرب من تهامة فيما بعد حتى ساحل عمان، وظهرت سحن وملامح أقوام بيض من روم ورومان وأهل فارس في مواضع أخرى من جزيرة العرب، بسبب سياسة الحكومات القاضية بالتهجير نكاية بالمهجرين، أو بسبب تنقلات الجيوش والحروب، أو التجارة، أو الخطط العسكرية القاضية بحماية المصالح الاقتصادية, وذلك بوضع حاميات عسكرية على سواحل الجزيرة لحماية السفن من غارات الأعراب ولصوص البحر. ثم يحدث أن تنقطع الأسباب برجال تلك الحاميات، وتنقطع صلاتهم بالأم لعوامل عديدة، فيستقروا في مواضعهم ويتعربوا حتى صاروا عربًا نسوا أصلهم وعدوا من خلص العرب, ولكن العرق دساس كما يقول الناس، فبقي أثره بارزًا ظاهرًا على الوجوه، نراه حتى اليوم في تغاير وتمايز سحن سكان السواحل فيما بينها، وفي تغايرها عن سحن أهل باطن جزيرة العرب تغايرًا ملحوظًا. وقد أشرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام" وفي الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب إلى أثر المستعمرات اليونانية في سحن العرب، كما هو الحال في جزيرة "فيلكة" في الكويت وإلى أثر الرقيق والتجارة في باطن جزيرة العرب مما يجعلني في غنى عن إعادة الكلام عن ذلك مرة أخرى.

وقد ذكر أهل الأخبار أن الروم سكنت في الجاهلية جبل "ملكان" وهو جبل في بلاد طيء١, فلا يستبعد بقاء هؤلاء فيه وسكنهم فيه، وتحولهم إلى عرب بتعربهم كما تعرب غيرهم من اليونان ممن نزل المستوطنات اليونانية في بلاد العرب.

ونجد بمكة ويثرب وبمواضع أخرى من جزيرة العرب موالي أصلهم من الفرس أو الروم, برز منهم بعض الصحابة مثل: "سلمان الفارسي" و"رومان الرومي", وهو من موالي الرسول٢, وغيرهم. وقد ترك هؤلاء الموالي أثرًا في ملامح الناس ولا شك.

ثم يلاحظ أن أجسام سكان السواحل أقصر من أجسام أبناء الجبال والنجاد, وأن أهل التهائم والسواحل الجنوبية لجزيرة العرب أقصر قامة من أهل نجاد اليمن أو أهل نجد. كما نجد اختلافًا بين ملامح القبائل لا زال بارزًا حتى اليوم، اختلافًا يتحدث عن طبيعة الامتزاج الذي وقع في الدم في أيام الجاهلية أيضًا، لاختلاط الدماء وامتزاجها بالعوامل التي ذكرتها، وإن ذهب البعض إلى أن جزيرة العرب كانت في عزلة عن العالم, فهذه العزلة التي يتحدثون عنها، هي عزلة لم تكن عامة ولا يمكن أن نسميها عزلة صحيحة إلا بالنسبة للقبائل المتبدية التي عاشت في صميم البوادي، غير أن تلك القبائل لم تتمكن مع ذلك من عزل نفسها عن الرقيق والأسرى الغرباء.

ثم نجد فروقًا بين العرب والأعراب، سببه اختلاف المحيط والظروف والغذاء, فالعربي ممتلئ الجسم بالقياس إلى الأعرابي الرشيق القليل اللحم، الدقيق العظم. وتظهر هذه النحافة في وجه الأعرابي أيضًا، فوجهه ممشوق قليل اللحم، دقيق ممتد, ذو ذقن بارز، وأنف دقيق، وعينين براقتين. وتعد الرشاقة في جسم العربي من محاسنه؛ لأنها تجعله معتدل القوام، خفيف الحركة، وقد مدح "امرؤ القيس" الغلام الخف، أي: الخفيف الجسم، السريع الحركة الذي ينزل عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل, أي: الثقيل الجسم السمين. وقيل: الخفيف في الجسم والخفاف في التوقد والذكاء١, ويعد ثقل الجسم من المعيبات. ومن المجاز التخفيف ضد التثقيل والخفيف ضد الثقيل, وقد اعتبروا الثقل ذمًّا في الإنسان, فقيل: هو ثقيل على جلسائه، وهو ثقيل الظل، ويقال: مجالسة الثقيل تضني الروح، حتى ألف بعض العلماء في أخبار الثقلاء٢.

و"الربع" من الرجال، أي المتوسط القامة، النموذج الأوسط للإنسان وحد الكمال في الجسم عند العرب, ويقال له: "ربعة", و"مربوع". وقد نعت رسول الله بأنه "ربعة" من الرجال، وورد أنه كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب٣. والوسط عند العرب هو بين الجيد والرديء, وأوسط الشيء أفضله وخياره, ومنه الحديث: "خيار الأمور أوساطها"٤. وقد هابت العرب أصحاب الطول في الجسم، والكبر في الرأس, واحترموا أصحاب الهيبة والتأثير في النفس، وقد ذكر بعض منهم في كتب أهل الأخبار. وقد رموا القصير بالمكر والخديعة، ولكنهم اعتبروا القصر في الجسم من العيوب، لا سيما إذا كان ذلك القصير غليظ البطن, وقد عرف الإنسان الموصوف بهذه الصفة بالدحداح وبالداح وبالدودح وبالذحذاح١. والدودحة القصر مع السمن٢, وأما "الدرحاية"، فالرجل الكثير اللحم القصير السمين البطين، اللئيم الخلقة, وعرف الرجل المسن الذي ذهبت أسنانه بـ"الدردح"٣.

واعتبر العرب طول العنق من سمات المدح؛ ولذلك وصف رؤساء العرب بطول العنق. وعُبر عن الرؤساء والكبراء والأشراف بـ"الأعناق"، و"أعناق", وعبر عن الجماعة الكثيرة بـ"الأعناق" كذلك٤. وذكر الشاعر "عروة بن الورد" عنق الآرام في شعر له, وصفه للناشئات الماشية بتبختر. إذ قال:

والناشئات الماشيات الخوزرى ... كعنق الآرام أوفى أو صرى٥

والعرب مثل غيرهم لا يحبون الصلع، ويكثر ظهوره بين العجزة والمسنين والأشراف. وقد ذكر أن أكثر الأشراف من العرب كانوا من الصلع، وتفسير ذلك أن أكثر الأشراف هم من ذوي الأسنان، وأن الإنسان إذا تقدمت به السن، أخذ الصلع يجد له مكانًا في رأسه فيلعب فيه. ومن ذلك قول الناس يوم بدر: "ما قتلنا إلا عجائز صلعًا" أي: مشايخ عجزة عن الحرب. وأنشد "ابن الأعرابي": "يلوح في حافات قتلاه الصلع" أي: يتجنب الأوغاد ولا يقتل إلا الأشراف٦.

وهم يفضلون "الأفرع" على الأصلع, والأفرع هو الكثير الشعر, وكان "أبو بكر" أفرع، وكان عمر أصلع, وكان رسول الله أفرع ذا جمة٧. والصلع خير من "القرع"؛ لأن القرع داء يصيب الرأس، فيؤثر في منظره ويسبب سقوط شعره وحدوث أثر دائم فيه، وقد تنبعث رائحة كريهة منه١. وقد ذكر الإخباريون أسماء عدد من الأشراف عرفوا بقرعهم.

وقد اشتهر بعض العرب بطول القامة، حتى زعم أن بعضًا منهم كان إذا ركب الفرس الجسام خطت إبهاماه في الأرض, وذكروا من هؤلاء: "جذيمة بن علقمة بن فراس"، المعروف بـ"جذل الطعان" الكناني، و"ربيعة بن عامر بن جذيمة بن علقمة بن فراس"، وكان يماشي الظعينة فيقبلها، فسمي "مقبل الظعن"، و"زيد الخيل بن المهلهل الطائي"، و" أبا زيد حرملة بن النعمان الطائي"، وعدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأباه سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن أبي بن سلول، وبشير بن سعد أخا بني الحارث بن الخزرج، وجبلة بن الأيهم الغساني، وحمل بن مرداس النخعي، ومالكًا الأشتر بن الحارث النخعي, وعبد الله بن الحصين ذي الغصة الحارثي، وعامر بن الطفيل الجعفري العامري، وقيس بن سلمة بن شراحيل بن أصهب الجعفي٢.

المرجع /كتاب المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،  جواد علي، ج7، ص302

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم