الإسماعيلية والأنباط

 

الإسماعيلية والأنباط

من كتاب 
البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب، المَقْرِيزي المتوفي سنة  ( ١٤٤١ م)

تحقيق وتعليق ودراسة عبد النعيم ضيفي عثمان عبد النعيم

يقول تحت عنوان الإسماعيلية والأنباط 

والإسماعيلية هو الاسم القديم لعرب البادية في الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية. ويبدو أن منطقة ارتحالهم كانت تبدأ من شمال الحجاز وتمتد شمالا وغرباً إلى برزخ السويس. ومن المحتمل أن يكون النبط أو الأنباط فرعا من هؤلاء الإسماعيلية. والأنباط شعب عربي باتفاق العلماء، لا يتجاوز ما وصل إلينا من تاريخهم القرن الرابع قبل ميلاد المسيح، أو سنة ٣١٢ ق. م على وجه التحديد. أسسوا دولة قوية على رقعة واسعة تقع بين سوريا شمالا وبلاد العرب جنوبا، وبين الفرات شرقا والبحر الأحمر غرباً: زحفوا على منطقة شرق الأردن واستولوا عليها، وفي حوالي ٨٥ ق. م صار ملكهم الحارث ملكا على دمشق. وفي هذه الفترة كانت دولة النبط منيعة الجانب يخشاها اليهود وسائر أمم الشام وكان يرهبها الرومان. ولم يتخذ الأنباط دمشق قصبة لهم لبعدها عن محور المملكة، فكانت عاصمتهم " سلع "، في وادي موسى. ولكن خشية أهل روما من ازدياد نفوذ الأنباط، ومنافستهم إياهم على هذه المنطقة، وخوفهم من أن يمتد سلطان النبط على المشرق كله، قد دفع امبراطور روما إلى إرسال جيش لمحاربة النبط، فخرب مملكتهم سنة ١٠٦ م، واستولى أهل روما على بلاد حوران التي كانت جزءاً من مملكة النبط. لم يكن الأنباط أهل زراعة، بل كانوا في قوانينهم الموروثة يحرمون زراعة الحبوب أو أستثمار الأشجار، ويعاقبون من يخالف ذلك بالقتل ويشددون في العمل بهذه القوانين. وإنما كانت التجارة حرفتهم الرئيسية. وكان عماد ثروتهم الاتجار بالأطياب والمر وغيرها من العطريات يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط. ولم تكن تمر تجارة في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على يدهم ويحملون إلى مصر على الخصوص " القار " لأجل التحنيط. ومن الطبيعي إذن، أن يدرك الأنباط عظم الأهمية التجارية القديمة لوقع سيناء، وأن يحرصوا على أن يكونوا سادة على هذا الطريق الهام كما كانوا سادة على الطرق التجارية المتفرعة من البطراء إلى دمشق وإلى رينو كولورا - العريش الحالية - حتى يضمنوا بهذا الزعامة التجارية في تلك المنطقة، تلك الزعامة التي احتفظوا بها لعدة قرون، وكان طبيعياً أن يمتد نفوذهم - لضمان هذه الطرق - إلى معظم جهات سيناء. ولقد كان الباحثون - إلى عهد قريب - يعتمدون على أقوال المؤرخين وحدها، في إثبات تسرب آثار النبط إلى مصر، حتى استطاعت الكشوف الأثرية أن تدعم هذه الأقوال، وتزيد عليها، وتعين أماكن كثيرة في منطقة سيناء، وفي الصحراء الشرقية، كانت مراكز لهؤلاء الأنباط. وقد أثبتت الأبحاث الأثرية الأولى وجود نقش نبطي شرقي الفرما عام ١٩١١ وفي تل الشقافية في وادي طميلات عام ١٩٢٤ ونقوش أخرى تثبت أن تجار النبط كانوا يترددون على الصحراء الشرقية، ثم استطاع الأستاذ إنولتمان أن يعثر على نقوش أخرى نبطية في الصحراء الشرقية ونشرها في سنتي ١٩٥٣، ١٩٥٤ في مجلة " BSOAS " ثم جمعها في كتاب، أورد فيه ٨٣ نقشاً أو خربشة عُثر عليها في ستة عشر موضعاً تمتد من سيناء شمالاً، وتتجه إلى الجنوب، في الصحراء الشرقية، حتى تبلغ صعيد مصر الأعلى. هذه المواضع هي: شمالي أبي درق أم دمرانة - بير الدخل - مكان بالقرب من راس جمسه - بير أم ضَلفه - بير أم عَنَبْ - بير الجضامي - حمامة - قصور البنات " طريق الحمامات " - أبو قويع - محطة الحمرا - شمالي وادي زيدون - منيح - منيح الحير - تل الشقافية - كتيب القلس. ومن دراسة هذه النقوش تبين أن بعض أربابها كانوا من أصحاب القوافل الذين كانوا يتاجرون في مصر، إذ ورد في ثلاثة نقوش منها لفظ يدل على أنهم كانوا من الأبالة أي أصحاب الإبل. وفي نقش أو نقشين ما يدل على أن جماعة من صناع النبط قد استقروا في بعض مناطق الصحراء الشرقية. واتضح - أيضاً - أن تجار النبط لم يتخذوا مصر مجرد معبر يمرون منه إلى مناطق أخرى، بل كان لهم مؤسسات ينزلونها، ومعابد يتعبدون فيها. فقد عثر في جهة " قصر الغيط " الذي لا يبعد كثيراً عن الفرما، على أساسات أبنية نبطية لم يظهر فيها إلا آثار أحد المعابد ويذهب الباحث " كليرمو جانو " إلى أن النبط كان لهم مستعمرة في وادي طميلات ينزلون فيها. ومن الملاحظ أن المسافرين الأنباط استخدموا الطرق التي كان قد حصنها أو قام بحراستها الرومان. وكان الرومان حريصين على أن يتخذوا لهم طرقاً في الصحراء الشرقية يستخدمونها في تنقلهم من البحر الأحمر خلال التلال إلى نهر النيل. وليس من اليسير أن نحدد تأريخاً لإنشاء محطات القوافل التي اتخذها الرومان في الصحراء الشرقية، ولعله من العسير أيضاً أن نعرف مدة بقائها، ذلك أن معرفة متى تركت الحاميات الرومانية هذه المحطات، وغادرت الصحراء الشرقية، هو من الصعوبة بمكان. ولكن ربما كان القرن الخامس الميلادي تأريخاً لجلاء الرومان عن هذه المحطات ومما يلفت النظر أن نشاط الأنباط التجاري في مصر، كما تدلنا النقوش، كان قد بلغ أشده بعد زوال مملكتهم سنة ١٠٦ م. وليس ببعيد أن يكون القضاء على مملكتهم من العوامل التي دفعتهم إلى بذل أقصى الجهد وتركيز اهتمامهم في توسيع نشاطهم التجاري في بلاد إفريقية بوجه عام، وفي مصر بنوع خاص. ولا ريب في أن مهارة الأنباط في الرحلة والتجوال قد اكسبهم نفوذاً وسلطاناً في هذه البلاد. بل تعدى هذا النفوذ إلى أوربا، فقد استطاع أحدهم أن يصبح امبراطورا على روما، وهو فيليب العربي ٢٤٤ - ٢٤٩ م وقد عثر المنقبون على بعض نقوش نبطية في ايطاليا وفي ضوء هذا، نستيطع أن نزعم أن الجاليات النبطية، لم يقتصر نشاطها على سيناء، والصحراء الشرقية وحدها، بل لابد أنه كان منهم جماعات سكنوا على ضفاف النيل، وفي الصحراء الغربية، وفي شمالي إفريقية، ويمكن أن نستأنس في هذا بما ذكره أبو عبيد البكري الأندلسي ت ٤٨٧ هـ ١٠٩٤ م عند الكلام عن " أجدابية "، بلد بين برقة وطرابلس الغرب، قال وأهلها ذوو يسار أكثرهم أنباط. على أن تأريخ الأنباط ومملكتهم - على ماله أهمية في تأريخ العرب القديم - لم يكن معروفاً لدى مؤرخي العرب على وجهه الصحيح، بل إنهم، حين يذكرون الأنباط، في أعلب الأحيان، إنما يقصدون هذه البقايا المتناثرة من الصناع والأجراء الذين عاشوا في العصور الإسلامية، في الشام والعراق وغيرهما، وفي العراق بنوع خاص. وقد أخذ مدلول كلمة " نبطي " عندهم معنى لا يخلو من الذم، ويبدو من خلال حديثهم عن النبط أنهم جنس يختلف عن العرب، يتكلمون لغة فاسدة تشبه الرطانة. ولكن النبط، في حقيقة الأمر، كما سبق أن أشرنا، عرب باتفاق العلماء، ورد من اسمائهم: حارثة ومالك وجذيمة ووائل وقصي وعدي وعميرة وكعب ومعن وسعد ووهب الله وأويس وهاشم وذؤيب، وهي اسماء عربية اصيلة كما لا يخفى. وقد انبعثوا من البادية، وجابت قوافلهم وإبلهم صحارى آسيا وإفريقية، وتكلموا لغة سامية، هي أحدى شقائق اللغة العربية الفصحى، وشاركوا العرب في جاهليتهم في عبادة بعض الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل ذي الشرى واللات والعزى ووصفهم بعض المؤرخين القدامى الذين عاشوا في القرن الأول الميلادي بأنهم عرب. ووصف الرومان الحاكم النبطي " فيليب " الذي حكم روما سنة ٢٤٤ م بأنه عربي، " لإنه كان عربي المولد وكان قد نشأ وترعرع في بُصرى، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه وأصبحت له مكانة ". لأحمر خلال التلال إلى نهر النيل. وليس من اليسير أن نحدد تأريخاً لإنشاء محطات القوافل التي اتخذها الرومان في الصحراء الشرقية، ولعله من العسير أيضاً أن نعرف مدة بقائها، ذلك أن معرفة متى تركت الحاميات الرومانية هذه المحطات، وغادرت الصحراء الشرقية، هو من الصعوبة بمكان. ولكن ربما كان القرن الخامس الميلادي تأريخاً لجلاء الرومان عن هذه المحطات ومما يلفت النظر أن نشاط الأنباط التجاري في مصر، كما تدلنا النقوش، كان قد بلغ أشده بعد زوال مملكتهم سنة ١٠٦ م. وليس ببعيد أن يكون القضاء على مملكتهم من العوامل التي دفعتهم إلى بذل أقصى الجهد وتركيز اهتمامهم في توسيع نشاطهم التجاري في بلاد إفريقية بوجه عام، وفي مصر بنوع خاص. ولا ريب في أن مهارة الأنباط في الرحلة والتجوال قد اكسبهم نفوذاً وسلطاناً في هذه البلاد. بل تعدى هذا النفوذ إلى أوربا، فقد استطاع أحدهم أن يصبح امبراطورا على روما، وهو فيليب العربي ٢٤٤ - ٢٤٩ م وقد عثر المنقبون على بعض نقوش نبطية في ايطاليا وفي ضوء هذا، نستيطع أن نزعم أن الجاليات النبطية، لم يقتصر نشاطها على سيناء، والصحراء الشرقية وحدها، بل لابد أنه كان منهم جماعات سكنوا على ضفاف النيل، وفي الصحراء الغربية، وفي شمالي إفريقية، ويمكن أن نستأنس في هذا بما ذكره أبو عبيد البكري الأندلسي ت ٤٨٧ هـ ١٠٩٤ م عند الكلام عن " أجدابية "، بلد بين برقة وطرابلس الغرب، قال وأهلها ذوو يسار أكثرهم أنباط. على أن تأريخ الأنباط ومملكتهم - على ماله أهمية في تأريخ العرب القديم - لم يكن معروفاً لدى مؤرخي العرب على وجهه الصحيح، بل إنهم، حين يذكرون الأنباط، في أعلب الأحيان، إنما يقصدون هذه البقايا المتناثرة من الصناع والأجراء الذين عاشوا في العصور الإسلامية، في الشام والعراق وغيرهما، وفي العراق بنوع خاص. وقد أخذ مدلول كلمة " نبطي " عندهم معنى لا يخلو من الذم، ويبدو من خلال حديثهم عن النبط أنهم جنس يختلف عن العرب، يتكلمون لغة فاسدة تشبه الرطانة. ولكن النبط، في حقيقة الأمر، كما سبق أن أشرنا، عرب باتفاق العلماء، ورد من اسمائهم: حارثة ومالك وجذيمة ووائل وقصي وعدي وعميرة وكعب ومعن وسعد ووهب الله وأويس وهاشم وذؤيب، وهي اسماء عربية اصيلة كما لا يخفى. وقد انبعثوا من البادية، وجابت قوافلهم وإبلهم صحارى آسيا وإفريقية، وتكلموا لغة سامية، هي أحدى شقائق اللغة العربية الفصحى، وشاركوا العرب في جاهليتهم في عبادة بعض الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل ذي الشرى واللات والعزى ووصفهم بعض المؤرخين القدامى الذين عاشوا في القرن الأول الميلادي بأنهم عرب. ووصف الرومان الحاكم النبطي " فيليب " الذي حكم روما سنة ٢٤٤ م بأنه عربي، " لإنه كان عربي المولد وكان قد نشأ وترعرع في بُصرى، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه وأصبحت له مكانة ". تأريخ الأنباط ومملكتهم - على ماله أهمية في تأريخ العرب القديم - لم يكن معروفاً لدى مؤرخي العرب على وجهه الصحيح، بل إنهم، حين يذكرون الأنباط، في أعلب الأحيان، إنما يقصدون هذه البقايا المتناثرة من الصناع والأجراء الذين عاشوا في العصور الإسلامية، في الشام والعراق وغيرهما، وفي العراق بنوع خاص. وقد أخذ مدلول كلمة " نبطي " عندهم معنى لا يخلو من الذم، ويبدو من خلال حديثهم عن النبط أنهم جنس يختلف عن العرب، يتكلمون لغة فاسدة تشبه الرطانة. ولكن النبط، في حقيقة الأمر، كما سبق أن أشرنا، عرب باتفاق العلماء، ورد من اسمائهم: حارثة ومالك وجذيمة ووائل وقصي وعدي وعميرة وكعب ومعن وسعد ووهب الله وأويس وهاشم وذؤيب، وهي اسماء عربية اصيلة كما لا يخفى. وقد انبعثوا من البادية، وجابت قوافلهم وإبلهم صحارى آسيا وإفريقية، وتكلموا لغة سامية، هي أحدى شقائق اللغة العربية الفصحى، وشاركوا العرب في جاهليتهم في عبادة بعض الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل ذي الشرى واللات والعزى ووصفهم بعض المؤرخين القدامى الذين عاشوا في القرن الأول الميلادي بأنهم عرب. ووصف الرومان الحاكم النبطي " فيليب " الذي حكم روما سنة ٢٤٤ م بأنه عربي، " لإنه كان عربي المولد وكان قد نشأ وترعرع في بُصرى، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه وأصبحت له مكانة ". ..

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم