الإخاء والمؤاخاة عند القبائل

الإخاء والمؤاخاة عند القبائل العربية

جاء في كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل للإسلام، لـ د. جواد علي ج7

ما يلي:

وإخاء القبائل هو إخاء اصطناعي، وإن عده أهل الأنساب والأخبار إخاء حقيقيًّا من اقتران والد بأم. فنحن نعلم في هذا اليوم ومن قراءاتنا للكتابات الجاهلية، ومن نقدنا وغربلتنا لأخبار أهل الأخبار ولروايات أهل الأنساب، أن التآخي هو في الواقع جوار، ونزول قبيلة بجوار قبيلة أخرى، أو نتيجة حلف تآخت قبائله واتحدت، فعد تآخيًا بالمعنى المفهوم من الأخوة, أو حاصل تضخم قبيلة لم تعد أرضها يتسع صدرها لها، فاضطرت عشائرها وبطونها إلى التنقل والارتحال إلى مواطن جديدة، وعدت نفسها لذلك من نسل تلك القبيلة التي كانت تعيش معها، فعد ذلك أهل الأنساب نسبًا حقيقيًّا بالمعنى المفهوم من النسب عندنا.

وقد تضطر بعض القبائل إلى ترك مواطنها والارتحال عنها؛ بسبب غزو قبيلة أقوى منها لها، فتنزل بين قبيلة جديدة وتتحالف معها، أو تقهرها على النزول بأرضها. وفي كتب أهل الأنساب والأخبار أمثلة عديدة على ذلك, فتتداخل أنسابها، ويتولد من ذلك نسب جديد. من ذلك، ما يرويه أهل الأنساب عن "عك" وهو أخو "معد" على زعم أهل النسب، فلما حارب "بختنصر" "عدنان", والد "معد" و"عك"، هاجر أبناء "عك" نحو الجنوب فرارًا من "بختنصر" وأقاموا في اليمن، فدخل نسبهم في اليمن، وعدهم بعض أهل الأنساب من قحطان. ومن ذلك قضاعة وقبائل عديدة.

[المؤاخاة]

وتكون المؤاخاة بين الأفراد كما تكون بين الجماعات كالعشائر والقبائل. وهي تدعو إلى المناصرة والمؤازرة والمساعدة، وتؤدي إلى الموارثة. وخير مثل على المؤاخاة، ما فعله الرسول يوم مقدمه المدينة من مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين؛ لتوحيد الكلمة وليساعد بعضهم بعضًا١.

ولا يشترط في المؤاخاة أن تكون بين بدو وبدو ، أو بين حضر وحضر، إذ يجوز أن تعقد أيضًا بين العرب وغير العرب، أو : بين البدو والحضر ؛ لأن المؤاخاة عقد، والعقد يقع بين كل الناس. كما قد تقع بين عربي وأعجمي، فقد آخى الرسول بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء.

[الهجن]

وتزوج العرب من الإماء, وذلك أن من الإماء من كانت جميلة الصورة حلوة المنظر والكلام؛ ولهذا تزوج ساداتهن منهن، فوُلد لهم نسل، قيل للواحد منه: الهجين. والهجين: ولد العربي من غير العربية، وقيل له ذلك؛ لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة١. ويقال للزواج الذي يقع بين عربي وأعجمية: "مهاجنة", وقد عابته العرب وعدت الهجين دون العربي الصريح، لوجود دم أعجمي فيه. والأعاجم هم، مهما كانوا عليه من منزلة، دون العرب في نظر العرب٢.

ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، أنها خصصت بمن يولد من أم أعجمية بيضاء، كأن تكون الأم رومية أو فارسية. فقد ذكروا أن العرب أطلقت على أولادها من العجميات اللائي يغلب على ألوانهن البياض، الهجن والهجناء؛ لغلبة البياض على ألوانهم وإشباههم أمهاتهم، فيجب أن تكون الأمهات الأعجميات إذن من ذوات البشرة البيضاء؛ تمييزًا لهن عن ذوات البشرة السوداء من الرقيق المستورد من إفريقيا. ويذكر علماء اللغة أيضًا أن العرب قالت للعجم: "الحمراء" و"رقاب المزاود"؛ لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر١. وقد هجا "حسان بن ثابت" "سعد بن أبي سرح" بأن اتهمه بأنه عبد هجين، أحمر اللون فاقع، موتر علباء القفا، قَطَط، جعد٢.

والهجنة من الكلام: ما يعيبك٣. وقد جاء هذا المعنى من الفساد الذي قد يظهر في كلام الهجن؛ بسبب عجمة الأمهات وعدم إتقانهن العربية. ولما كان الخطأ في اللغة عيبًا، عدت الهجنة من الأمور المعيبة.

ويطلق العرب لفظة "رجل مولَّد" على الرجل إذا كان عربيا غير محض. و"المولدة": الجارية المولودة بين العرب, وقيل: تُولد بين العرب وتنشأ مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم. و"التليد" التي ولدت ببلاد العجم وحُملت فنشأت ببلاد العرب، وقيل: هي التي تولد في ملك قوم وعندهم أبوها٤.

[العرض]

وعرض الرجل نفسه وبدنه، وقيل العرض: موضع المدح والذم من الإنسان, سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل أيضًا: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب. وذكر أيضًا أن العرض: عرض الإنسان، ذم أو مدح١, ويحرص الجاهلي على ألا يمس بسوء، وإذا تحرش أحدهم به، أو شعر أن شخصًا أراد الانتقاص منه، ولو بتلميح أو بإشارة أو بغمز, ثار وهاج مدافعًا عن نفسه وعرضه؛ لأن عرض الإنسان أشرف شيء بالنسبة له في هذه الحياة.

ومن العرض صيانة أعراض الناس؛ لأن من ينتهك عرض غيره، ينتهك الناس عرضه ويعرض نفسه وماله وأهله للتهلكة. فقد لا يصبر شخص أهينت كرامته على هذه الإهانة فينتقم ممن تعرض به شر انتقام. إن لم يتمكن هو بنفسه، ساعده في أخذ حقه أهل عصبته ورجال قبيلته، حتى يثأر لنفسه ممن تعرض لعرضه بسوء.

ونجد في الشعر الجاهلي تبجحًا بالنفس وإشادة في الدفاع عن العرض وتهديدًا ووعيدًا لمن يحاول النيل منه بأي سوء. وهو كلام يحمل حساد المتبجح بنفسه على الرد عليه وعلى الطعن فيما قاله. وبذلك تتولد خصومة قد تطول وتكبر وتؤدي إلى سقوط قتلى كانوا في غنى عنها, لولا هذه الحمية الجاهلية القائمة على التفاخر والتباهي والزهو والحمق.

من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لـ د. جواد علي

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم