الأحلاف

الأحلاف

الأحلاف في تاريخ العرب

الأحلاف لـ توفيق برو من كتاب تاريخ العرب القديم

ففي جو التنازع والاحتراب الذي كان سائدًا، بحيث كان القوي يستهين بالضعيف، ويهاجمه ويغنم منه ويسبي نساءه، كان لا بد أن تلجأ القبائل الصغيرة المستضعفة للانضمام بالتحالف إلى القبائل الكبيرة، التي تبحث بدورها عن حلفاء تقوى بهم -مهما صغر شأنهم- ضد خصومها الأقوياء. وقد يقوم التحالف وإبرام المواثيق بين القبائل المختلفة؛ لصيانة المصالح المشتركة أو لمراعاة الهدوء والسلام بين المتجاورين، أشبه شيء بما يعقد من معاهدات سياسية بين شتى الدول الحديثة.

وبمجرد أن تدخل القبيلة في حلف مع قبيلة أو قبائل أخرى، يصبح لها على حلفائها كل الحقوق والواجبات التي تربط أفراد القبيلة الواحدة بعضهم ببعض، إذ يكون عليهم أن ينصروها على أعدائها، وأن يلبوا دعوتها إذا استنجدت بهم ضد اعتداء وقع عليها، ويكون عليها أن تقوم بالواجبات نفسها تجاه حلفائها. وينشأ بذلك عصبية بين القبائل المتحالفة، تدفعها إلى التضامن في الحروب والتعاون في تبعات الدماء١.

وقد يطول عهد الحلف بين قبيلتين أو يقصر، بحسب دوام المصلحة التي دعت إلى عقده، ويكون للقبيلة الأكبر والأقوى حق زعامة الحلف. وربما ينفرط الحلف بسبب نكول أحد الأطراف عن تنفيذ الشروط المتفق عليها. وربما دام الحلف زمنًا طويلًا بحيث تندمج القبيلتان المتحالفتان في نسب واحد مع الزمن, ويضرب مثلا على ذلك الاندماج الذي تم بين القبائل المختلفة -من مضرية ومعدية ويمنية- التي تجمعت في البحرين، ثم تحالفت وتعاقدت على التناصر والتآزر، واندمجت بمرور الزمن اندماجا تاما، واتخذت اسم "تنوخ"٢. وكما يجري التحالف بين قبائل عديدة فتتكتل وتندمج، كذلك تتعرض بعض القبائل الأخرى إلى التفكك الداخلي، إذ تتناحر بطونها المختلفة، وتتحالف بعضها على بعضها الآخر فتنقسم، وتنفرط وحدتها.

لقد بلغ الإقبال في شبه الجزيرة العربية، قبيل الإسلام، على عقد الأحلاف لدرجة أن معظم القبائل كانت متحالفة مع بعضها، ولم يبق خارج نطاق التحالف سوى القلة منها. ويطلق العرب على القبيلة التي لا ترتبط بحلف مع غيرها اسم "الجمرة" إذ تشعر أنها قادرة بمفردها على قتال من يقاتلها من القبائل وتفتخر بذلك. وقد عرف بعضهم القبائل التي لم تتحالف مع غيرها، بأنها التي تتكون من ثلاثمائة فارس أو ألف فارس, أما إذا تحالفت مع غيرها فإنها تكون قد انطفأت١. ومما روي عن القبائل التي قالوا: إنها الجمرات كونها لم تقوَ على الصمود بمفردها في الحروب، فاضطرت إلى طلب المساعدة من القبائل الأخرى، وتحالفت معها فانطفأت٢.

طقوس الأحلاف

عرف العرب بالوفاء والالتزام بالمواثيق. وكان من شدة حرصهم على الوفاء بعهود التحالف أن اتبعوا طقوسًا يقومون بها عندما يعقدونها، والغرض منها أن يحيطوها بجو من القدسية والرهبة، من شأنه أن يلزم المرتبطين بها إلزامًا شديدًا ودقيقًا.

من هذه الطقوس أن يحضروا طستًا من المسك، يغمسون أيديهم فيه، ويمسحون بها جدران الكعبة، كما جرى بالنسبة لحلف المطيبين وهو حلف بني عبد مناف ضد بني عبد الدار عندما اختلفوا على الوظائف التي خلفها جدهم قصي، بينما أتى خصومهم بنو عبد الدار بطست من الدم غمسوا أيديهم فيه، ومسحوا بها جدران الكعبة.

أو كأن يأخذ الطرفان المتحالفان مقدارا من ماء زمزم، يغسلون به أركان الكعبة، ثم يجمعونه في جفنة ويشرب منه الطرفان، كما جرى في حلف الفضول بين قريش وزهرة وتيم. أو كأن يوقدوا نارًا يدعون بالحرمان من خيرها لمن ينقض الحلف، ويتلفظون بعبارات١ يعتقدون أن من شأنها أن تزيد الحلف قوة وثباتا. وقد يلقي فيها سدنة النار ملحا وكبريتا، حتى إذا استشاط وفرقع، هددوا المتحالفين، وهولوا عليهم بقولهم: إن النار تهددكم إن نقض أحدكم الحلف، فإن كان يضمر الغدر نكل عن التحالف، وإن كان مخلصًا أبرمه.

وقد ذكر "هيرودوت" طريقة للتحالف يقول فيها: إن شخصًا ثالثًا يقف بين الطرفين المتحالفين؛ ليجري مراسيم عقد الحلف، فيأخذ حجرًا له حرف حاد كالسكين، يجرح به راحتي الرجلين قرب الأصبع الوسطى، ثم يأخذ قطعة من ملابسهما فيغمسها في دمهما، ويلطخ بها سبعة أحجار، يحمل المتحالفان بعضها إلى قومهما، وهو في أثناء ذلك يتلو أدعية للأصنام، حتى إذا انتهت مراسيم الحلف، قاد الحليف حليفه إلى أهله وعشيرته؛ لإخبارهم بذلك وللإعلان عنه، فيصبح الحليف بذلك أخًا لحليفه، أمرهما واحد في الوفاء، كما كانوا يعتقدون.

كما كان من طقوس قريش عند عقد الأحلاف، أن يأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، وبعد إجراء بعض المراسيم يطوفان حول الأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعودان إلى قريش لإشهادها وإشهاد من يكون حاضرًا في الكعبة، على صحة الحلف وقبول الحليف محالفة حليفه، حيث يصبح له ما له، وعليه ما عليه.

وفي الأحلاف المهمة والمواثيق الخطيرة، كان القرشيون يؤكدون على العهود والمواثيق تأكيدا شديدا، وذلك بأن يكتبوا ما اتفقوا وتعاهدوا عليه في صحيفة١، يشهد عليها رؤساؤهم وسادتهم من الطرفين، ومن أناس آخرين محايدين، ثم يعلقون الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا لها وتشديدًا للميثاق، كالذي كان من تآمر قريش على مقاطعة بني هاشم قبل هجرة الرسول إلى المدينة المنورة٢.

الكتاب: تاريخ العرب القديم المؤلف: توفيق برو الناشر: دار الفكر الطبعة: إعادة الطبعة الثانية ١٤٢٢هـ/ ٢٠٠١م عدد الصفحات: ٣٣٤

[الأحلاف] لـ جواد علي (ج7،ص370)

وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة: العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عُبر به عن كل يمين, والمحالفة: أن يحلف كل للآخر١. فمعنى الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقًا وعهدًا، وتآخوا على العمل يدًا واحدة، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار, أي: آخى بينهم.

وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية؛ ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا١. وكانوا ينظرون إليها على أن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يُغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين, وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد.

و"العهد" بمعنى الحلف أيضًا, وقيل: العهد: كل ما عُوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضًا الموثق واليمين؛ ولذلك ورد: "على عهد الله" و"أخذت عليه عهد الله"، و"ولي العهد"؛ لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة, وعلى من يعطي العهد الوفاء به: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} , {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} ٤, أي: من وفاء٥. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله.

ويرد "الميثاق" بمعنى العهد, والمواثقة: المعاهدة، وأما "التواثق"، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} , {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} ، {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . وقد قال العلماء: إنه عقد مؤكد بيمين وعهد. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"؛ لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.

وتكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.

ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعض، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلومًا بين الناس, وتتحالف القبائل بعضها مع بعض, ويعلن حلفها هذا ليكون معلومًا عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.

والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي: نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل, وأحلاف لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم.

وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها, أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو، أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها. ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلًا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.

الكتاب: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام المؤلف: الدكتور جواد علي (ت ١٤٠٨هـ) الناشر: دار الساقي الطبعة: الرابعة ١٤٢٢هـ/ ٢٠٠١م عدد الأجزاء: ٢٠

👇من موضوعاتنا حول مثل هذه المجالات 

مفهوم القبيلة بشكل عام (1)

المفهوم الحقيقي للقبيلة (2)

القبيلة وديوانها 

وإقرأ أيضاً.. القبيلة العربية ونظامها 

شرح عوامل الانصهار بين القبائل

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم