الراية البيضاء في المناسبات الاجتماعية

الراية البيضاء في المناسبات الاجتماعية
وهل رفع الراية البيضاء فوق البيوت في المناسبات الاجتماعية والدينية بدعة أم حرام أم عادة باطلة أم مكروهةـ أم هي عادة حسنة. هذا ما سوف نتعرف عليه في هذه المقالة وبالله التوفيق والسداد ..

من عوايد أهل البادية العرب بشكل خاص، أنهم كانوا يقطنون في بيوت من الشعر في البوادي وهوامش الصحراء، وكانت كل عشيرة لها تجمع أو قرية في موضع مستقل عن الأخرى وفي كثير من الأحيان تكون المسافة بين كل قرية وأخرى بعيدة أقلها مسافة نصف يوم بسير القوافل، وأكثرها مسافة 3 أيام، وأخذت هذه المسافات تتضاءل مع ارتفاع الزيادة السكانية والتمدد والتوسع في الأطراف حتى نشأت فيما بعد القرى، وخاصة بعد أن بدأ عهد استقرار أهل البوادي وتوطينهم وهو عهد لم يكن بعيدا، وإنما بدأ يظهر في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي..

ولما كان رفع الرايات علامة من علامات الإعلام، ولكل علامة معنى ومفهوم متعارف عليه بين العرب، كان العربي في باديته يرفع الراية البيضاء في المناسبة العزيزة عنده وعند عشيرته، فوق البيت أو الخيمة حتى ترى من بعيد، فيعرف ويعلم الجميع أن أهل هذا الحي مفرحين ويحتفلون بأفراحهم ومناسبتهم، فيكون كل من رأى الراية معزوم على الفرح والاحتفال، أو أنه صار عنده علم بذلك، وأن أهل هذا الحي منشغلون بفرحهم وليس عندهم نية للحرب أو الغزو  على الغير، وأنهم يعلنون برفعهم للراية البيضاء عن صفاء نياتهم في هذه المناسبة، وعن استعدادهم بإكرام كل من جاء من مكان بعيد، أو كل عابر سبيل أو كل ضيف قي الديرة، وكانت الأفراح في ذلك الوقت تتطلب الفزعة والمعونة والدعم بين العرب لأن من عادتهم مشاركة كل فرح في ديرتهم وتقديم العون لصاحبه، كما كانت الراية البيضاء ترفع في المناسبات العامة أيضاً تعبيرا عن احترامهم وتقديرهم لها واعلان العفو والصفح والمسامحة فيها، مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، وعودة حجاج بيت الله إلى ديارهم، كما ترفع الراية البيضاء عند اعلان الهدنة وصفاء النية، وعند الاتفاق على المصالحة ووضع حد لأي مشكلة كانت ترفع الراية البيضاء وتلقى قبول حار من الجميع، تلك أهم أسباب ومظاهر هذه العادة عند العرب..

الراية من حيث التاريخ:

ويقال أن راية حمزة كانت أول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكان معه عبيدة بن الحارث، وقيل : " سمعْنا من أهل العلم عندنا: أن راية عُبيدة بن الحارث كانت أوّل راية عُقِدت في الإسلام.. [صحيح وضعيف تاريخ الطبري، البرزنجي، ج7، ص67]

وقد ثَبت أَن رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَمر الْأُمَرَاء فِي الْبِلَاد: كعتاب بن أسيد على مَكَّة. وَكَانَ يُؤمر على الْبعُوث والسرايا، وجنبات الْجَيْش، ويعقد لَهُم الرَّايَات، فأمّر عَمه حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ على سَرِيَّة، وَعقد لَهُ الرَّايَة، وَكَانَ أول أَمِير، وَأول راية عقدت فِي الْإِسْلَام.. [تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، البدر ابن جماعة، ص81]

ذكر الواقدي في كتاب المغازي: " في غزوة خيبر,,"وَعَظَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ وَفَرّقَ بَيْنَهُمْ الرّايَاتِ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ رَايَاتٍ، وَلَمْ تَكُنْ رَايَةٌ قَبْلَ يَوْمِ خَيْبَرَ، إنّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ، وَكَانَتْ رَايَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ، تُدْعَى الْعِقَابَ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ، وَدَفَعَ رَايَةً إلَى عَلِيّ رضي الله عنه." [ المغازي للواقدي المتوفي سنة 207هـ، ج2، ص649]

في السنة 2 هـ وفي غزوة بدر، وفي عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كانت راية عامة المسلمين "الراية البيضاء" يحملها الصحابي مصعب بن عمير. [كتاب الرسول القائد، محمود خطاب(توفي سنة 1419هـ)، ص103]

يقال أن الراية البيضاء كانت في عام 6 هـ في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حينما خرج في غزوة خيبر، وكانت الراية البيضاء مع نميلة بن عبد الله الليثي، والذي دفعها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [كتاب غزوات النبي، الجميلي، ص105]

وذكر ابن القيم في زاد المعاد؛ وَفِي "سُنَنِ أبي داود " عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ ( «رَأَيْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفْرَاءَ، وَكَانَتْ لَهُ أَلْوِيَةٌ بَيْضَاءُ، وَرُبَّمَا جُعِلَ فِيهَا الْأَسْوَدُ» ). [زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم (المتوفي سنة 751هـ) ج1، ص127]

وذكر المقريزي: في معرض حديثه عن غزوة حنين سنة 8هـ ؛ "وفي كل بطن لواء أو راية. وكانت رايات المهاجرين سودا وألويتهم بيضاء، ورايات الأنصار خضرا وحمرا، وكانت في قبائل العرب رايات، وبقيت سليم كما هي في مقدمة الخيل، وعليهم خالد بن الوليد." [إمتاع الأسماع، المقريزي المتوفي سنة 845هـ، ج2، ص12]..

ومن النصوص السابقة يتضح لنا أن الرايات كانت مستخدمة ومعروفة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهي شعارات ووسائل إعلام وتعبريات لها مدلولها وأثرها المعنوي والمجتمعي ولها رسائلها إلى الآخرين، كما  أن إسم الراية مشتق من الرؤية وأنها تُرى من بعد، ولذلك سميت بهذا الاسم، قال الفراهيدي: "ريا: الرّايةُ: من رايات الأعلام، وإن جعلت الرّايَ جميعا بغير الهاء استقام، وكذلك الرّاية التي تجعل في عُنُق الغُلام، وهما من تأليف راء وياءين. وتصغير الرّاية: رُييّة. والفِعْل: رَيَيْتُ ريّاً، وريَّيْتُ تريّةً، والأمرُ: ارْيهْ وريِّهْ والتَّشديدُ أحسنُ. وعَلَمٌ مَرِيٌ بالتّخفيف، وإن شئت بَيَّنْتَ الياءاتِ فقلت: علم مَرْييٌ بلا تشديد ولا همز ولكن ببيان الياءات".[ كتاب العين، الفراهيدي المتوفي سنة 170هـ، ج8، ص313]

 والألوان بشكل عام تدخل في إشارات إعلام الإنسان وإرشاده وإخباره، ففي علم الخرائط تستخدم الألوان للدلالة والتمييز بين مظاهر السطح والتضاريس، وفي إشارات المرور تستخدم الألوان للدلالة والإرشاد والتحذير من المخاطر وغيرها لينتبه لها السائقين، فالراية هنا وسيلة إعلامية كانت منتشرة عند البادية وكان لها أهميتها، حتى أن الراية البيضاء أصبحت رمزا متعارف عليه في السياسات العالمية، حيث تستخدم ايضا للاعلام عن وقف القتال بين المتحاربين، كما تسمى راية الاستسلام في الحرب، فهي اذا الراية التي لا يأتي منها الخطر ولا الخوف اذا هي راية الطمأنينة، بعكس الراية السوداء والتي تعني عند الناس رمز الحزن والأسى والجراح..

انتشار الراية البيضاء كشعار سياسي:

ظهرت الراية البيضاء كشعار سياسي واسع النطاق عند العرب في عهد الدولة الأموية، حيث رفعت راياتها فوق البيوت تأييدا وولاءً لها، وجاء في تاريخ الإسلام أن "الراية البيضاء" في العهد الأموي كانت رمزاً للفخر والاعتزاز، وكان بعض الشعراء يذكرونها في قصائد الفخر، كقول يزيد بن الحكم الثقفي" وَأَبِي الَّذِي صَلَبَ ابْنَ كِسْرَى رَايَةً ... بَيْضَاءَ تَخْفِقُ كَالْعُقَابِ الطَّائِرِ..، ومن الجدير ذكره أن الراية البيضاء ازدادت بشكل كبير في بلاد الشام بشكل خاص بعد سقوط الدولة الأموية في صراعها مع العباسيين الذين رفعوا الرايات السود، وقد اتخذ كثير من العرب البياض شعارا لهم نكاية في الدولة العباسية، كما اتخذه المسلمين السنة أيضاً..

الراية البيضاء في العادات والتقاليد العربية والإسلامية:

كان الرجل إذا أحسن الى الرجل وأراد مكافأته ينصب على بيته راية بيضاء، وينادي عليها فلان بيض الله وجهه:

رفعت له بيضاء على رأس شاهق ... أعلل ربعي بالثنا من خصاله

له ترفع البيضا ويحدى بذكره ... فتى تنجلي أكدارها من فعاله

تسلسل حرًا بين قوم أعزةٍ ... فعم كريم مع جلالة خاله.. [تذكرة أولى النهى والعرفان..،إبراهيم آل عبد المحسن ( ١٤٢٥ هـ) ج1، ص164].

يعني الراية البيضاء رمز المحبة والسلام والطمأنينة والتسامح، كما تعبر عن أشياء جميلة ومحببة في العادات والتقاليد العربية والإسلامية، منها البراءة وصفاء النية، ومنها الطهارة والسلامة من العيوب، ومنها أيضاً طهارة الشرف والفخر بالكرم والإكرام وعلو المقام ورفعة الشأن وشموخ الهمم، كما يرمز البياض إلى فتح صفحة جديدة من التسامح وطي صفحة الجراح والصراع، والبياض أيضاً اللون المفضل والمحبب في السنة النبوية وهو لون ثياب الاحرام في الحج الذي هو من أعظم شعائر الإسلام، لما جاء في الحديث الشريف عن سمرة بن جندب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَسوا الثِّيابَ البِيضَ فإنَّها أطهَرُ وأطيَبُ وكفِّنوا فيها موتاكم" وعن عبد الله بن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البِسوا من ثيابِكُمُ البياضَ فإنَّها مِن خيرِ ثيابِكُم، وَكَفِّنوا فيها موتاكم ، وإنَّ خيرَ أَكْحالِكُمُ الإثمِدُ : يجلو البصرَ ، ويُنبتُ الشَّعرَ"..

الثِّيابُ البِيضُ مِن أفضلِ الثيابِ، ففِيها تَظهرُ نظافةُ الإنسانِ، وفي هذا الحديثِ يُوصي النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِلُبسِ الثيابِ ذاتِ اللَّونِ الأبيضِ في قولِه: فإنَّها مِن خَيرِ ثِيابِكمْ، أي مِن أفضلِها وأبرقِها وأنظفِها؛ فإنَّها سُرعانَ ما يُعرفُ اتِّساخُها؛ فيُبادر المسلمُ إلى تَنظيفِها، ويأمرُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِتَكفينِ مَوتى المسلِمينَ فيها.[ الدرر السنية، الموسوعة الحديثية، شرح الأحاديث]

 واللون الأبيض فيه جمال، وفيه طهارة، حيث إن الثوب الأبيض إذا كان عليه شيء من تراب أو من وسخ أو من نجاسة تظهر فيه، ولذلك عندما تدعو تقول: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) يعني: لا تترك علي خطيئة لا ظاهرة ولا باطنة، حتى لا يكون علي شيء منها يوم القيامة، والثوب الأسود قد يغسله الإنسان وعليه بعض الكدرات فلا تظهر عليه، فيغسل أدنى غسل ويتنظف الثوب، أما الثوب الأبيض فلا بد أن تغسله جداً من أجل ما يبقى عليه أي أثر من الدرن أو الوسخ..[شرح رياض الصالحين، أحمد حطيبة، ج71، ص3]..

ولما كان اللون الأبيض لون إسلامي مفضل ومحبب ومعبر عن النظافة والطهارة والجمال، فلذلك يقال بَيّض الله وجهك، ووجهك أبيض ان شاء الله، ورايتك بيضاء وكل ذلك مستحب، وورد في الحديث الشريف، فهو اذا لا عيب ولا مكروه ولا حرام ولا باطل ولا بدعة، وأما عادة رفع الراية البيضاء فوق البيوت في المناسبات والافراح والتسامح والعفو والسلام، من أجل ادخال البهجة والطمأنينة وتبادل التهاني والتبريكات بين الناس، فهي محببة ومفضلة ولا مانع من ذلك شرعاً طالما أنها تستخدم فيما لا يخالف الشرع والقيم الأخلاقية..

              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم