ظاهرة بيوت العزاء

ظاهرة بيوت العزاء 
مَوْسُوعَةُ الْهُلًاْلِيُّ - من الظواهر الاجتماعية التي تستخدم وتفهم بطريقة غير تراثية وغير جائزة في العرف ولا في الشرع ولا في المنطق العقلي ولا الديني، ظاهرة بيوت العزاء من الظواهر التي اصبحت تشكل مصاعب لا يستوعب الناس التعامل معها، وتسييرها بطريقة صحيحة، وصارت عبء لا يحتمل، وصار الناس يتساءلون ما هو الصح وما هو المناسب اجتماعيا وشرعيا ؟ 
في هذا الموضوع هناك أكثر من مشكلة لا تتفق ابدا مما هو معروف في تراثنا العربي والإسلامي، وهذه المشكلات أخذت تظهر مع حياتنا المعاصرة بسبب ما تعلمه الناس بواسطة التقليد غير المدروس لظواهر وهمية ظهرت في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، فالتقطها بعض الناس وقلدوها ثم أخذت تنتشر ، على الرغم من أنها لا توافق ما جاء في موروثنا الاجتماعي، ولكن الناس استمروا على ممارسة ذلك على مضض واستيحاء وصار الأمر وكأنه أحد السلوكيات التي على المرء القيام بها حتماً خوفا من الانتقادات المجتمعية ليس أكثر ..
في البداية أود أن أذكر ما هو مشهور في التراث الاجتماعي الحقيقي في مجتمعنا العربي قديما حول مراسم العزاء من بدايته :
1- كانوا قديما وبفضل طبيعة الحياة آنذاك من اللحظة الأولى التي يعلن فيها خبر وفاة شخص ما، الإسراع في غسله وتكفينه ودفنه على وجه السرعة دون ابطاء أو تقصير ، حيث يقوم أهل الميت بذلك وحدهم دون الحاجة إلى شيخ أو مسجد، بل كان أهل المتوفي يقومون بعد غسله وتكفينه بأداء صلاة الجنازة عليه في أي مكان طاهر ثم يوارونه الثرى ويدعون له بالرحمة..
2- كانت جنازة الميت في أغلب الأوقات عدد ضئيل من الناس المقربين له في حيه أو عشيرته أو قريته حيث كان عدد السكان قليل وفي الأرض متسع كبير والقرى والسكنات متباعدة عن بعضها البعض وليس هناك ازدحام وكثافة سكانية، وفي أغلب الأحيان من يقوم بذلك جماعة محدودة العدد، حيث كانوا يحملون المتوفي في نعش من الخشب أو على دابة من دوابهم ليشيعوه إلى مثواه الأخير..
3- كان يشيع المتوفي إلى مثواه الأخير  فور وفاته بغض النظر عن ساعة منيته ولا ظروفها أكانت في النهار أو الليل أو في المطر أو في الرياح..
4- وبطبيعة أحوال الناس قديما أنهم كانوا في قرى صغيرة الحجم وغالبا ما يكونوا من عائلة واحدة وبطبيعتهم هم دائما يجتمعون ويتسامرون في بيوت أغلبها من العريش والخيام والأخصاص والطين وكانت مبينة بطريقة الأحواش ولهم مجالس يجتمعون فيها، ولم يكن اجتماعهم مخصص لحالة معينة وإنما هم هكذا في كل أيامهم وحياتهم.. 
5- كما كان في ذلك الزمن يقوم الجيران بمساعدة أهل المتوفي واعانتهم ومشاركتهم للتخفيف من مصابهم بتقديم الطعام لهم وكذلك كانوا يحضرون معهم القهوة التي هي من مشروباتهم العادية يشربونها في كل مناسبة ليس هي مخصصة للعزاء فقط ! هكذا كانت طبيعة الناس وهكذا كانت حياتهم وهذا هو موروثهم الاجتماعي في مثل هذه الظواهر..
أما اليوم فقد أصبح الأمر يشكل هما في حد ذاته ومصاعب على أهل المتوفي وهذه الظواهر لا أساس لها من الأصل ولا هي أصلا سليمة 
- من الأخطاء أن أغلب الناس يقومون بتأجيل مراسم تشييع الجنازة لعدة ساعات، من أجل جلب عدد من المشيعين والصلاة على الميت في المسجد حيث يوضع في زاوية المسجد ثم يصلي الناس صلاة الظهر أو العصر أو أي صلاة من الصلوات الخمس، ثم بعد ذلك يقدم المتوفي ليصلي عليه الحاضرون صلاة الجنازة، والخطأ هنا هو ربط صلاة الجنازة بأحد الصلوت الخمس والصحيح أن صلاة الجنازة على الميت تقام في أي وقت ولا يشترط أن تقام في المسجد وإنما في أي مكان طاهر يصلح للوقوف والصلاة فيه، 
والصحيح والأصح هو الإسراع في دفن المتوفي بقدر المستطاع لأن إكرام الميت دفنه، والميت بعد وفاته لا يأخذ حسنات من عدد الناس المشيعين ولا يأخذ حسنات من اسم المكان الذي يصلى عليه فيه
- في هذه الأيام يقوم أهل المتوفي باستئجار بيوت العزاء ونصب سرادق وخيام لاستقبال المعزيين وتقديم الشراب والطعام لهم، وهذا في حقيقة الأمر هو عكس ما هو موروث ومشهور وهو هما فوق همهم الذي هم فيه وتكلفة مادية قد لا يستطيع أهل المتوفي القيام بها نظرا لصعوبة الأوضاع الاقتصادية بشكل عام عند الجميع، وكذلك كثرة الناس والكثافة السكانية الكبيرة في المناطق السكنية والكل يسرع ليقدم واجب العزاء ويجامل الناس سواء كان له صلة قرابة بهم أو لا، مما يزيد من هم الناس ويقلق راحتهم ويسبب لهم الاحراج وهم في غنى عن ذلك..
- ومن المظاهر الخاطئة في ذلك هو قيام الناس باقامة سرادق وخيام للعزاء تشبه بيوت الفرح، ففي أيامنا هذه يرى الناس عابري السبيل هذه التجمعات فلا يميزونها اهي خيمة حزن أم خيمة فرح، ولكن في الموروث الاجتماعي قديما كان الناس يحرصون على وضع اشارة اعلامية في بيوتهم للتعبير عن المناسبة المجتمعين فيها، فإن كانت فرح رفعوا راية بيضاء ترفرف يراها كل شخص قريب او بعيد، وإن كنت مناسبة حزن رفعوا راية حداد سوداء أو رفعوا جريد نخل في مكان يسمح برؤيته بوضوح..
وأما استخدام القماش المزخرف والملون بألوان جذابة في إقامة بيوت العزاء فهو أيضاً لا يناسب دلالات الحزن ولا يتوافق مع عادات الناس القديمة، ومن الضروري ان يعبر عن أي مناسبة اجتماعية بما يناسبها ويشير إليها دون اسراف ولا تبذير ولا استخفاف بالعادات التراثية ولا استخفاف بمشاعر الناس والمجتمع ومصالحهم، كعادة إغلاق الطرق حيث يقوم بعض الناس باقامة بيت العزاء وسط الطريق .!
- ومن الأشياء الغريبة في ظاهرة العزاء في زماننا هذا، هو قيام أهل المتوفي بتقديم طعام من اللحم والأرز في اليوم الثالث من بيت العزاء، حيث يقدم للناس المعزيين، وقت الظهيرة وهذه طريقة خاطئة وليست من الموروث الاجتماعي الصحيح، لان هذا الطعام بهذه الطريقة اسمه وليمة، والولائم ليست من طعام العزاء وإنما من طعام الأفراح، وفي حقيقة الأمر أن هناك عادة اجتماعية كان أهل المتوفي يقومون بها وهي اخراج صدقة عن روح المتوفي ويطلب من الناس الدعاء له بالرحمة والمغفرة وقد جرت عادة الناس قديما في ذلك بأن تخرج هذه الصدقة بعد العصر وتسمى عشاء الميت !
الحكم الشرعي وما هو واجب في هذه الظاهرة:
- العزاء وابداء التعاطف والشعور بمصائب أبناء دينك ووطنك وعرقك فهو مشروع، ولكن بشرط أن يكون على هيئة مؤازرة وتثبيت على الحق وعون ومساعدة وألا يشكل ضغطا وهما على أهل المصيبة، والدعاء لهم مستحب ومساندهم في مصابهم هو أمر مستحب..
- أما استخدام الفرش والقماش الملون والإضاءة وجعل مواعيد محددة أو أيام محددة وتقديم ولائم الطعام والشراب فهو بدعة محدثة باتفاق علماء الشرع والفقه وكافة العقلاء ..
- وأما التجمعات والاجتماعات والجلوس في المآتم فهو من النياحة على الميت وفي ذلك تحريم ولا يجوز شرعاً، ففي صحيح البخاري عن جرير رضي الله عنه أنه قال: [كنا نعد الجلوس في بيت الميت من النياحة] فينبغي تركه قدر المستطاع..
- أما طريقة التعزية فلا شي فيها إن كانت بما يرضي الله، والدعاء للميت وتقديم العون لأهله، وقد كانت عادة الناس قديما أيضاً أن يتم تقديم واجب التعزية في المقبرة، لأن التعزية مستحبة في ديننا وعاداتنا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجه بسند حسن.
وإطالة الجلوس عند أهل الميت من المنكرات، وتبادل الحديث بأصوات مرتفعة وتناول موضوعات للنكت والطرائف وخراريف الناس وفضول الدنيا فهو منكر جميعه ولا يصح ..
- قال الشيخ ابن باز "رحمه الله"
"أما أن يصنعوا للناس وليمة يذبحون الذبائح من أجل الميت فهذه بدعة من عمل الجاهلية لا أصل لها، يقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: «كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصناعة الطعام بعد الدفن كنا نعده من النياحة (٢)» فليس لأهل الميت أن يصنعوا الطعام للناس بسبب الميت، لكن إذا أهدى إليهم جيرانهم وأقاربهم طعاما فهذا لا بأس به، بل هو مستحب أن يهدي الجيران أو الأقارب لأهل الميت طعاما؛ لأنهم مشغولون بالمصيبة، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أهل بيته عليه الصلاة والسلام لما جاء خبر موت ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الشام، قال صلى الله عليه وسلم لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد أتاهم ما يشغلهم.."
وقال الشيخ ابن عثيمين "رحمه الله"
"أصل جلوس التعزية خلاف السنة، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يجلسون للتعزية، بل كانوا يعدون الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة، وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التحذير من النياحة، حتى إنه لعن النائحة والمستمعة، وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"، فالواجب الحذر مما يكون مخالفاً للسنة، وموجب للعقوبة والإثم.
              

بقلم/ المؤرخ

Abu Ismail al-Hilali

التاريخ بيت قديم، الأجداد يتهامسون فيه عن إرث مجيد والأحفاد يستمعون ويصغون لفهم الحياة

إرسال تعليق

{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18

أحدث أقدم